صحيفة المثقف

الورود تتشابه بالجمال الا واحدة

صحيفة المثقفاصر ان نذهب من الصابونجية نمر على كنيس مهمل ومقفل، لم اشاهده من قبل او اعرف موقعه فانا لا اعرف الصابونجية وحي التوراة سوى من الخارج ولم ادخل في درابينهما من قبل، لا يختلف عن باقي اماكن العبادة للاديان الاخرى كانت جدرانه معشقة بالقاشاني والارابيسك لا يبدو عليه الاهمال التام، خمنت ان هناك من يعتني به خلسة ويديم صيانته، قال حاولت اوقاف بعض الطوائف الاستيلاء عليه ولكن طلباتهم رفضت .

لا يعلم ان لي هنا ذكريات منذ ان كنت طفلا! .وفي الامين بما يحتويه من مخازن ضخمة للاثات والمكاتب الحكومية العامة والخاصة .لم اشأ ان احدثه عنها . كنت صامتا اصغي له وهو يروي لي عن اماكن لي فيها ذكريات لا اقدر ان انساها منذ ان كنت طفلا . ليس في الامين فقط، بل تمتد الى شارع الهادي المجاور للامين عند نقطة انفتاحه على ساحة السباع، وتتكدس حول اسود الساحة المنحوتة سيارات الاجرة قبل ان تدخل التكتك في الخدمة بالوانها واحجامها واشكالها المثيرة الى الساحة .

نفذنا من احد درابينه الى شارع الكفاح درابين لولبية لا احد يعلم سوى سكانها الى اين تؤدي .

جلسنا بمقهى بوسط الشارع .

تقلبت الاحوال بشارع الكفاح وانتهى الى سوق لتجارة المال، انتشرت مكاتب التصريف على جانبيه، واصبح يتحكم بسعر العملات الاجنبية خاصة الدولار , ومنه تصدر الاسعار الحقيقية للعملات وليس من البنك المركزي العراقي . مكاتب على درجة كبيرة من البهرجة والحركة الدؤوبة على مدار الساعة، قلت له الا ترى ان ذلك يتناقض مع اسم الشارع، ابتسم وقال اصبح بامكانه ان يضرب السوق المركزي للعملات الاجنبية . قلت له اعتقد ان ذلك مبالغ فيه فقال على الاقل هم من يحددوا سعر العملات فوافقته على ذلك .

والمفارقة ان سكان الشارع من افقر سكان الاحياء المجاورة،البهرجة في الاسفل واعلى البنايات تضم عوائل فقيرة كادحة لاتعلم او تكترث بما يدور في المكاتب اسفل البنايات السكنية .

ولكن حالما يعلموا في التجمع وبدء الهتافات يهبون الى ساحة الوثبة .

  2

  يوم امس وصلت انذارات لاصحاب المحلات في الرشيد وساحة الوثبة بالاغلاق جميعا . قلت له سمعت بها، هم في العادة لا يحتاجون الى انذارات، جميع المحال تغلق حالما تبدأ الهتافات، المواجهات في شارع الرشيد والخلاني هي الاعنف . تتجنب قوى الامن الاقتراب من المتظاهرين او الاحتكاك بهم ودائما هناك مسافة بين الحاجز الكونكريتي الذي يختبؤون خلفه وامامه . وباحدى تظاهرات الرشيد خالف شاب القاعدة، واقتحم الساحة امام حاجز الشرطة .

 افرغ جيوبة امام الجميع، لا ترى خلفه سوى حشود المتظاهرين وعلم العراق يرفرف باياد مرفوعة باعداد كبيرة وقال باعلى صوته : لا املك سوى هذه الالف "الف دينار" وانا متزوج .. فهب احد رجال الامن من خلف الحاجز وعانقه عنافا حارا كأنه يقول له نعلم ما يدور وعلى اطلاع على كل شيء . وظل الشاب مشدوا كانه لا يتوقع تعاطف الشرطة معهم وكادوا ان يسقطوا الكتل الكونكريتية الفاصلة بينهما بمنتصف الشارع .

3

لا احب المواقف التي تتسم بالعاطفة وتؤذي وتثير، ولا احتملها كثيرا، ولكنها من طيات الاحداث طبيعية وغير مفتعلة مما يخفف من وقعها،. كان لهذا الشاب في لحظة توتر ان يكون هدف الرصاص، ما اجرؤه، حين اقتحم المسافة بين المتظاهرين وحاجز الشرطة وقوى الامن . تكرر الحال في ساحة التحرير على جسر الجمهورية، باوج التظاهرات ومحاولات اقتحام حواجز الجسر الوصول الى المنطقة الخضراء، تسلقت فتاة الكتل الكونكريتية العالية ووقفت اعلاها تلوح بالعلم العراقي لحشود المتظاهرين وسط اندهاش وذهول قوى الامن والشرطة الذين توسلوا بها ان تنزل خوفا عليها من الاذى، ولكنها ابت الا ان تظل تلوح بعلم العراق، فوق الحشود المتراصة على طرفي الجسر بقوة وثبات .

 4

ساحة التحرير تبدو في اوقات التراخي والاستراحات، كأنها واحة للسلام تؤدي عملها على اكمل وجه بدون عوائق او عراقيل، رغم انها البؤرة الاساسية للاحتجاجات ومحط انظار الجميع خاصة وسائل الاعلام المحلية والعربية والعالمية، احدى مراسلات وكالة انباء او القنوات التلفزيونية الامريكية تشع فرحا وهي تنتقل بين خيم المعتصمين او تتلمس التكتك بتعاطف او تتحدث الى البنات والنساء بالساحة، وعلى طرف نفق التحرير امسكت بطفل يحمل علم العراق، انتزعته من والده، وهو يلتفت يمينا ويسارا يكاد لا يعرف ما يدور حوله، و من هذه الغريبة التي تحتضنه بهذه العاطفة الحارة والحنان .

تكاد تطير فرحا وهي تنتقل بين ارجاء الساحة المتجسد بمشهد ساحة التحرير بالوانه وخيمه وشعاراته، يطل عليها جبل "احد" كطائر يحمل امال المحتجين ومطالبهم عاليا بمشهد لا نجد له نظير بجميع ساحات ودول العالم .

   5

الرشيد

لاول مرة اشاهد قاسم مع امرأة باحدى درابين الرشيد، منذ ثلاثة اسابيع او اكثر . بمنتصف العمر ولكنها نشيطة وتتحرك كشابة في العشرين، قال لها تطلبين حل السخان "الكيزر" ولم تشاركي بالمظاهرات، التفتت الي وقالت : عيني فدوة ساعدة، قلت لها لا يقبل لماذا لا تأتين للمظاهرات، قالت شاركت بجميع المظاهرات لا تصدق بما يقول .

عرفت بانها جارته القديمة وتحبه لدرجة انها لا ترفض له طلب، ولكنني لاول مرة اتعرف بها .وحين انتهينا من مساعدتها، سألته لماذا تبحث عن امراة ولديك هذه الوردة؟

فاجابني شعرا :

قد تبدو جميع الورود جميلة ولكن هناك وردة واحدة منها اقرب الى القلب .

قلت له : لا اصدق انك لا تحبها .

قال :

بلى احبها .

6

هنالك حياة الى جانب المظاهرات والاحتجاجات وليس كما يظن البعض ممن توفرت لهم سبل العيش، وسعي الى العمل وتوفير لقمة العيش . حياة موازية لها متطلبات لا يمكن تأجيلها مهما اشتدت واتسعت المظاهرات، وضرورات يجب توفيرها في كل الاحوال بدونها لا يمكن الاستمرار، تكون احيانا اكثر مشقة من مجرد الخروج او المشاركة في مظاهرة او الاعتكاف في خيمة من خيم المعتصمين . وهي نقطة غير متوازنة بين المشاركة والسعي لتوفير لقمة العيش تجعل الحياة اقرب الى الجحيم لا تطاق احيانا، ولكن كل ذلك يدفع اكثر فاكثر الى الاصرار على تحقيق الشعار الخالد للمتظاهرين : "اريد .. حقي" .

7

وهنا لا توجد احلام وخيالات واوهام شاعرية ومطالب وشعارات طوباوية . مشهد ساحة التحرير من اي زاوية تنظر اليه تراه اجمل قصيدة رسمت او القيت . هي القصيدة المرسومة و المؤداة الخالدة . لا تفوقها اي قصيدة انشدت او غنيت في هذه المناسبة على مدى شهرين من انتفاضة تشرين . وما انشدت القصائد فيها او غنيت الا لتكون اجمل وتشد ازر وعنفوان الشباب..

8

 ساحة التحرير 

المطالب هنا هي الحقوق .

لا شعارات ودعايات الاحزاب والتيارات الفاسدة والسعي لركوب الموجة .

9

بغداد القديمة

هل صادفك الرشيد

لا رأيت شارعه

واعمدته المتينة

كأنها ترفع قلب بغداد

عاليا في السماء .

***

يتبع

قيس العذاري

9.1.2020

................

هوامش 

طالما ادعى الكيان الصهيوني ان الدول العربية تسيء لرموز ومقدسات اليهود، ولكن الحقيقة هي العكس اسرائيل من تقوم بالتجاوز على رموز ومقدسات الاديان الاخرى كما نشهد دائما ما يحدث في الاراضي الفلسيطينة المحتلة ومحاولات اسرائيل تغيير ديمغرافية القدس . اوالاستيلاء على المزيد من الاراضي الفلسطينية وتشويه معالمها التاريخية والثقافية  . 

 

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم