صحيفة المثقف

أوهام اللغات

مجدي ابراهيم (14)

للتوفيق نورٌ يقوم على المجاهدات، ولا يكون التوفيق محض صدفة بغير عزم وجهاد، ولا ننسى أن عربي، وهو من هو في رموزه وإشاراته، كان يحدثنا عن "نور التوفيق" وقد عقد في (مواقع النجوم: ص52) فصلاً كاملاً عن "توفيق العناية"، ومن أهم ما ذكره في مقامات الاختصاص أمرين.

الأول: الاشتغال بالعلم المشروع، الذي نذَب الشارع إلى الاشتغال بتحصيله. وآخرها قال فيه: "حيث يُوقف بك". فإذا تُمِّمت للعبد المقامات حُصِّلت في التوحيد الموحِّد نفسه بنفسه، الذي لا يصلح معه معقول. وإنْ نقصت له بعض الحضرات الوجودية، واللطائف الجُودِّية؛ فلا حياة مع الجهل ولا مقام. ومعناه أنه: لمَّا كانت مجاهدات أهل التوفيق تقوم على العلم؛ فقد وجب أن يجاهد العبد في التعلُّم كيما يكون في قلب التوفيق. والمجاهدة بالعلم غير المجاهدة بالجهل؛ لأن الجهل صفة البطالة والتعطيل، والعلم صفة صنَّاع الإرادة بالتوفيق.

بذل المجهود ونور التوفيق مقترنان لا يفترقان. ومن نور التوفيق نلمس خداع اللغة، وقصورها وعجزها عن التعبير عن الحقائق العليا، وقلة اقتدارها عن استيعاب الحقيقة المُجردة. وإنِّا لنشير ها هنا إلى لفظة جارية على ألسنة المتحدِّثين وأقلامهم مثالاً نسوقه على خديعة الألفاظ لمن لا يستطيع تجريدها عن الوقائع غاية ما يبلغه التجريد؛ فلننظر إلى ذلك الشيء الخفي الذي يمتدحه معناه ويضيق به لفظه، ويتقارب في المعنى كما يتقارب في المدلول، وليس لمعناه أو لمدلوله من لفظه إلاّ حرفان؛ فيه من المعاني والدلالات ما تتوارد عليهما مقومات الحياة بأكملها في صيغتها المُعَبِّرة أعمق تعبير وأشدِّه غوصاً في خفايا الشعور.

فما تراكمت المعاني وتواردت الدلالات على هذين الحرفين إلاّ لأن الحياة في خصوبتها وثرائها وتفجُّرها بغرائب المتناقضات تحمل لدى الإنسان الذي يشعر بمثل شعورها ويحسُّ بمثل إحساسها، كمَّاً غريباً ومتدفقاً من عجائب الصفات وغرائب الطباع والعادات.

فالشعور الذي يتبلور معناه في دلالته السلوكية هو شعور نابض بفاعلية الحياة هبط على صاحبه معنى رفيعاً سامقاً، ولو كان في لفظ بسيط. والإحساس الذي يتلوَّن في جوف صاحبه بألوان التعبير في لفظه ومعناه إنما هو إحساس دفين بعمق الحياة وخبراتها وخصوبتها في النفس الشاعرة والضمير الشاعر الحسَّاس، حيثما كان الشعور صفة من صفات الإنسان أو كان دليلاً على وعيه بما يحسّ ويشعر من بواطن الأشياء.

انظر لترى أن "الحُبَّ" هو ذلك الشيء الخفي يمتدحه معناه دون لفظه، ولا يهجوه من مبنى الدلالة غير سعة المعنى بجوار ضيق اللفظ. وذلك هو الشيء نفسه الذي يعرضنا لتضليل اللغة وضيق ألفاظها وتناهيها قياساً إلى سعة المعاني الواردة على اللفظ الذي لا يحيط بمعناه إحاطة السياج يحكم معناه ومبناه إذا شاء. حقاً إن الغرور يُوهمنا أشياء كثيرة، واللغات بين الناس من أهم أسباب الأوهام. فقد ظنناها حَدَّدت المعاني كل التحديد، ولو أن ذلك كان صحيحاً لارتفعت أسباب الخلاف؛ إذْ قد يتلاقى الرجلان عند صورة واحدة من المعنى، ثم يختلفان اختلافاً شديداً في تصور المعنى الواحد؛ لأنهما يختلفان في صحة الجسم وعافية الروح.

وهذا ما يجعلنا نلتمس للفظ مع هذا الخداع ميتافيزيقاه ! فنجد في كتب العارفين؛ قولاً يُراد منه:" أن الحب حرفان: حاء وباء؛ فالإشارة فيه أنَّ من أحَبَّ، فليخرج عن روحه وبدنه وقلبه، وكالإجماع من إطلاقات القوم أن المحبة هى الموافقة، وأشدُّ الموافقات الموافقة بالقلب، والمحبة توجب انتفاء المباينة، فإن المحب دائماً مع محبوبه.

فلنتأمل دلالة هذا القول، ولتفتح إنْ شئت ألفاظه حتى ليتسع معك المعنى فيعلو عن الواقع علو حقيقة لا علو وهم وخيال، ولك أن تتصور حال من يخرج عن روحه وبدنه وقلبه كيف يكون؟ إنْ لم يكن هو حال من يتجرَّد عن ذاته كليَّة ليبقى في معية من أحَبَّ.

لك أن تتصوَّر مثل هذا الكلام: أَلَهُ وجود واقعي أم هو من قبيل الخيال؟ وماذا عَسَاكَ فاعلٌ لو أنك علمت أنه حقيقة من حقائق الواقع لا تدركها حق دَرْكها إلّا إذا عشت فيها على الدوام حالة روحيّة، وعانيت معناها بمقتضى التجربة حقيقة وجودية؛ وإلّا إذا وسَّعت اللفظ وجرّدته عن مبناه، وبلغت به غاية التوسُّع طلاقة روحية من معدن علوي رفيع؟ ثم هل يبقى لهذا الذي يخرج عن روحه وبدنه وقلبه لفظٌ أصلاً حتى يوسِّعه أو يُضَيِّقُه ؟

لاشك إنها "حالة" يخرج فيها عن سحر اللفظ وفتنة العبارة، وما دام قد خرج عن رُوحه وبدنه وقلبه؛ فلابد أن يكون قد خرج عن لغته ولفظه وعبارته، خرج عن "الحَرْف والمَحْرُوُف"؛ ليكون أهلاً لخطاب المحبوب بلا عبارة، وبلا لفظ، وبلا لغة، وبلا حرف. إنها اللغة السَّكْرَىَ منتشية بذوق التقريب يتلقاها العارف على الصفاء في حضرة القُرب فلا ينطق بل يَتَوَلَّه ويغيب.

ولكن! كيف تخرج عن جسمك وأنت في جسمك، وكيف تخرج عن رسمك وأنت في رسمك، وكيف تخرج عن نفسك وأنت في نفسك، وكيف تخرج عن قلبك وأنت في قلبك، وكيف تخرج عن عملك وأنت في عملك، وكيف تخرج عن علمك وأنت في علمك، وكيف تخرج عن معرفتك وأنت في معرفتك، وكيف تخرج عن صفتك وأنت في صفتك، وكيف تخرج عن روحك وأنت في روحك؟ كيف؟! هنا تفعل الهمة فاعليتها لتفذ فيما تريد شريطة أن تكون الإرادة للمعالي.

لا خروج عن وعي العقل وتحليلات العلم وادّعاء المعارف إلّا بتجرِّد النفس عن العالم الحسيِّ. ولا خروج للنفس عن النفس إلاِّ بهزيمتها وقمْعها وإخضاعها وتكميمها والتعالي عليها وإسكات رغباتها بوسائل من تجريد الهمة. والخروج من النفس معناه تجاوزها للعقل وللعلم، وللمعرفة، وللحرف، ولكل شيء بدا من ظواهر الكون المادي، ثم العبور بها بعد التطهير إلى حيث ما يتجلَّى الله عليها، إلى فناء الصفة تمهيداً لغيبة الذات وَتَوَلُّهِاهَا مع الواحد؛ المطلق.

(وللحديث بقيّة)

 

بقلم د. مجدي إبراهيم

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم