صحيفة المثقف

اتساع الرؤية وضيق العبارة

مجدي ابراهيملم يكن للّغة قانونها في منطق الوجدان. وأمام الحالات الروحيّة العالية لا شأن لها من قريب ولا من بعيد؛ إنّ فعل التجربة مع الواحد، الحق، المطلق؛ ليقضي بالخروج عن الحرف والمحروف. لم يعد للغة سحرها اللفظي ولم تعد للعبارة فتنة ولا رونق. الحالة الروحية العالية تفرض قانونها الذي يقضي على اللغة بالخروج عنها؛ وذلك لأنها حالة يخرج فيها العارف عن نفسه؛ ومادام قد خرج عن نفسه فعن لغته وحرفه ولفظه أدعى للخروج.

وإذا كان العارف يسكر بذوق التقريب؛ فلغته مثله سكرانة منتشية من جرّاء الصفاء في حضرة القرب حيث لا لغة بل غيبة وتوَلّه. إنَّه "محمد بن عبد الجبار النِّفَّرَي" (ت354هـ) أحد رجال الله من القرن الرابع هو الذي قال في "مواقفه ومخاطباته"، تعبيراً عن تلك "الحالة" في "وقفة" قال الله له فيها : "جعَلتُ من الحروف أسماء ولغات وعبارات؛ ليتكلم بها عالم الأكوان، ولكني أنا المكوِّن، وأنا فوق كل ما خلقت، ولا حكم للحروف عليَّ ولا مَطْلَع لها على ذاتي.

كَلَّمت الحرف بلسان الحرف فلا اللسان شهدني ولا الحرف عرفني. من أحْبَبته من خلاّني وأحبَّائي كلَّمته بلا عبارة فخاطبه الحجر والمدَر، وقال للشيء كن فيكون. ولو أني كلَّمته بعبارة لردَّتُهُ العبارة إلى نفسه بما عبَّرت وعمَّا عبَّرت ولأحتجب بارتداده ولما جاءته الحكومة ومقاليد الفعل والسلطان :

إنّ المحـبَّ بلا قلـــــــب تُقلـبـــه

أيـدي الهموم؛ وللتقلــــيب آثــارُ

لا يعـرفُ الوقـت إلا في مَعَابــرِهِ

وَلا لهُ عن سوى المحبوب إخبارُ

يُلْزِمُ النِّفَّري العَارِفَ الخروج من الحرف، ومن كل ما يحتويه الحرف من علوم، ومعارف، وخواطر، وعبارات، ومعان؛ ليخرج عن الحرف والمَحْرُوُف. والحرف في علم أحكام حدود الألفاظ الصوفية هو : اللغة؛ وهو في اصطلاح ابن عربي خاصَّة ما يخاطبك به الحق بالنسبة للفهوانية من العبارة الوافية بمقصود المتكلم. والفهوانية خطاب الحق بطريق المكافحة في عالم المثال؛ وهى (أي الفَهَوَانيّة) بطون الحق في الخلق والخلق في الحق.

وقد تطلق الحروف بإزاء الحقائق الثابتة المتميزة في علم الحق؛ ويُقال لها : الحروف الغيبية. وقد تطلق بإزاء الماهيات المُجرَّدة عن لوازمها مُنَصبغة بالوجود؛ فيقال له : الحروف الوجودية كما جاء في رشح الزلال للقاشاني.

فبخروج العارف من الحرف والمَحْرُوُف، يخلو قلبه من الخواطر والعبارات والمعاني والحقائق الحسّية الأرضية، يخلو خُلُّواً تاماً ويتطهَّر ليتجلى الله عليه؛ إذْ يشهد إذْ ذَاَكَ الوجه الخاص بالحق تعالى في كل شيء.

وبشهود الوجه الخاص بالحق تعالى يكون التعريف الإلهي فيما لا يَنْقَالُ باللغة ولا بضروب البيان المعتادة، من غير كلام؛ فمن تكلَّم بالحروف فهو كما قالوا معلول، وهو معنى اتساع الرؤية عند النِّفَّري؛ لأنه بالخروج عن الحرف والمَحْرُوُف تتسع الرؤية وينقبض الحرف، فتخرج اللغة عن إطارها المحدود إلى فضاء أرحب مفتوح يستعصى التعبير عنه بالعبارة.

ومن هنا، شاعت قولته المشهورة وانتشرت :"إذا اتّسَعَتْ الرؤية ضاقت العبارة": العبارة تضيق مع اتساع الرؤية وتتسع مع ضيقها. والكلام الإلهي للعارف في حال الشهود لا يكون بعبارة، ولو كان الكلام أثناء الرؤية الشُّهُودِيَّة بمجرّد العبارة المألوفة لارتدَّت العبارة من العارف، بما عبَّرت وعمَّا عبَّرت، إلى نفسه؛ ومن ثمَّ لزم أن تضيق العبارة بل وتتلاشى مع اتساع الرؤية الشُّهُودِيَّة، في حين إذا ضاقت الرؤية أو انطمست، كثر اللغط المنفر وأزداد. وضيق الرؤية من ضيق الأفق، والأفق الضيّق غير المفتوح هو الذي يتقيد بحدود الأشياء الواقعة بالفعل!

لن يفلح المتصوف ما لم يخلف الحرف وراء ظهره. إنما الحرف عند النِّفَّريِّ فج إبليس! الحرف لا يمكنه أن يخبر عن الله، ولا عن الله يمكن أن يخبر الحرف؛ لأن الله لا يسعه حرف، كما أن الولي كذلك لا يسعه حرف. وإذا ثبت الحرف للصوفي فما هو من الله ولا الله منه.

وليس للحرف أن يلج الحضرة في اتساع الرؤية الشهودية؛ وذلك لأن أهل الحضرة يَعْبرون الحرف ولا يقفون فيه، حضرتهم في هذا المقام حضرة خرس، أي يتجاوزونه إلى ما فوقه، إلى ما بعده، إلى حيث تلاشيه؛ إلى "العَمَى اللغوي" فيما لو جاز هذا التعبير وارتضيناه.

فالخارجون عن الحَرْف هم أهل الحضرة بسبب أنهم كانوا خرجوا عن أنفسهم، ولمَّا كانوا قد خرجوا عن أنفسهم؛ فقد تَمَّ لهم الخروج عن الحرف والمَحْرُوُف، والدخول في حضرة الخرس والتحقق بمرتبة الحَيَوانيَّة كما يسميها ابن عربي. وعندما يخرج الصُوفي عن الحرف (أي اللغة)، والمَحْرُوُف (أي ما يُعَبِّر عنه الحرف) يُلقي العبارة وراء ظهره، ويلقي المعنى وراء العبارة، ويلقي الوجد وراء المعنى، ويدخل إلى رحاب الحضرة الإلهية فقيراً ممَّا سواه، هنالك يتلقى الصوفي معنى آخر، ولغة أخرى، وعبارة أخرى، وربما يتلقى الحروف الغيبية علماً لَدُنِّيَّاً مُفَاضَاً عليه فيضاً. هذا هو الجديد فيما تكشفه التجربة الصوفية لدى أربابها القادرين عليها، الصادقين فيها.

غير أن الخروج عن الحرف والمَحْرُوُف في تلك الحالة العجيبة لا يقتضي فتح الألفاظ لالتماس معانيها الخفيَّة المضمرة بل يقتضي كما قلنا تلاشيها، تلاشي اللفظ والمعنى والعبارة، والوقوف على الحقيقة وحدها مجردَّة عن كل إشارة، مهما بَلَغْت باللفظ مبلغه توسعاً وطلاقة وتجريداً؛ فهنالك يكون اللفظ غير اللفظ، والعبارة غير العبارة، والإشارة غير الإشارة، والمعنى خارج عن كل هذا؛ فحق لهم من أجل ذلك أن يضنوا به على غير أهله؛ وأن يَسْتَبْهِمُوه.

(وللحديث بقيّة)

 

بقلم د. مجدي إبراهيم

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم