صحيفة المثقف

التراث الإنساني في شعر طاغور

معراج احمد الندويإن طاغور يمثل جزءًا لا يتجزأ من التراث الأدبي البنغالي، ولقد احتل طاغور مكانا فريدا في تاريخ الهند الحديث، بل في تاريخ الشرق كله، حتى استحق بحق أن تخلع عليه جائزة نوبل في عام 1914م.

 كان طاغور في حياته وفعله ونشاطاته وإنجازاته وإبداعات المتنوعة والفنية، عالمياً بكل ما تحمل هذه الكلمة من معانٍ. تفسّر كتاباته أحلام الإنسانية كلها. تناول في كتاباته أفكاراً عالمية تهّم البشر جميعاً وتدافع الإنسانية كلها.

جمع طاغور في شعره حكمة الشرق وثقافة الغرب والإيمان العميق بالشعب والجماعة الإنسانية. كان يحب الإنسان ويقدس حقه ويجهد في سبيله، لم يفقد قط حتى في أحلك ساعات حياته إيمانه بالإنسان، ولم يئن قط عن السعى الدائب في سبيل تحقيق سعادة الإنسان.

كان الإ نسان عنده هو الإنسان في أية صورة ركب، وفي أي أرض ولد ونشأ، كان يرى الإنسان قديسا لأن الصورة التي تتجلى فيها القادر المطلق وعظمة الخالق على الأرض، كان يريد أن يعيد للبشرية إتزانها وإيمانها القيم الإنسانية التي تحتفي بالمادة وتقدر الروح حق قدرها بلا اسراف في الأولى أوتطفيف في إثباته.

لقد ترك طاغور أكثر من ألف قصيدة وأكثر من ألفي أغنية بالإضافة إلى العديد من القصص القصيرة والطويلة والمسرحيات والمقالات التي عالجت موضوعات كثيرة مختلفة. ولوأن انتاج طاغور لم يقف على هذا، فالشعر والأدب يستنفدا كل طاقاته الكامنة العارمة، فعمد إلى الموسيقى يؤلف فيها ويفرغ بعض طاقاته وإلى الرسم ينفس عن بعض مكون طاقاته الفنية.

شكلت الأوضاع المعيشية المتردية للفلاحين، وتخلفهم الاجتماعي والثقافي موضوعاً متكررا في العديد من كتاباته دون أن يخفي تعاطفه معهم ويعود أروع ما كتب من نثر وقصص قصيرة تحديدا إلى تلك الحقبة الثرية معنويا في حياته، وهي قصص تتناول حياة البسطاء، آمالهم وخيباتهم بحس يجمع بين رهافة عالية في التقاط الصورة وميل إلى الفكاهة والدعابة الذكية التي ميزت مجمل تجربته النثرية عموما.

في العام 1901م أسس طاغور مدرسة تجريبية في شانتينكاتن لتطبيق نظرياته الجديدة في التربية والتعليم، وذلك عبر مزج التقاليد الهندية العريقة بالغربية الحديثة، واستقر طاغور في دراسته مبدئيا التي تحولت في العام 1921 إلى جامعة فيشقا بهاراتيا ، جامعة الهندية للتعليم العالمي.

قام طاغور بإنتاج عمل ذو هيكلية استثنائية تمكنت من تغيير وجه الأدب الهندي، لم يكن مجرد شاعر أو مبشر هندي حيث بعد عقود من الزمن على وفاته لا يزال هذا الرجل الأشبه بالقديس حيًّا من خلال أعماله و في قلوب أهل الهنود الذين لن ينسو فضله في إغناء تراثهم.

كرس طاغور حياته وقلمه لخدمة الإنسان وتثبيت حقوقه، تحمل قصائد طاغور صبغة إنسانية كتبها لكل البشرية بمختلف مشاربها وجنسياتها، كانت كل قصائده عملية زراعة حب في الكون وفي الناس وفي الشوارع:

لقد جاء الحب.. وذهب

ترك الباب مفتوحاً

ولكنه قال انه لن يعود

لم أعد أنتظر إلا ضيفاً واحداً

انتظره في سكون

سيأتي هذا الضيف يوماً

ليطفئ المصباح الباقي..

ويأخذه في عربته المطهمة

بعيداً.. بعيدا..

في طريق لا بيوت فيه ولا أكواخ

كان طاغور المنافح الإنسان في كل مكان يذوب قلبه وعصارة ذهنه،لا يعرف في دفاعه حدودا ولا سدودا، ولا يفرق في تقدير الإنسان وقيمته بين جنس وجنس، ولا بين لون وعرق، ولا بين دين وثقافة.

هذا الإنسان الفريد الذي كرس حياته للإنسان واستلهم شعره من روح الإنسان. ومن رسالته خالق الكون  للبشرية جمعاء، ومن إيمانه العميق بأن كلمة الله العليا ورسالته البشرية لن تدرك حق الإدراك إلا حين تسود الحرية وتتحقق العدالة الاجتماعية.هذا الإنسان الفريد بحق كلنا منا في الحرية والعدالة الاجتماعية ،ومن حقه علينا وعلى الإنسانية التي وجه ضراعاته إلى مالك الملك لييتقذها من سالك الضلال ويهيدها إلى الصراط المستقيم، أرسل أغانيه واشعاره ليوقظها من سباتها وينضها من كبوتها.

لقد كتب طاغور في رسالته الأخيرة وهو يقول: "مهما يكن من شيء فاني لن ارتكب الخطيئة الخطيرة: خطيئة فقدان الايمان بالانسان او الاذعان للهزيمة التي حاقت بنا في الوقت الحاضر على اعتبارها نهائية وحاسمة، بل سأظل اتطلع بأمل الى تحول في مجرى التاريخ بعد ان تزول هذه الغمة الجاثمة، وتصفو السماء ثانية وتهدأ، وربما بزغ الفجر الجديد من افقنا هذا، افق الشرق، حيث تشرق الشمس. وعندئذ تهب روح الانسان التي تهزم لتقوده من جديد الى طريقه، طريق التقدم رغم كل العو ائق، ليسترد تراثه الضائع".

إن هذه الرسالة هي رسالة الإيمان بالإنسان، ورسالة الإيمان بأن البعث الجديد سيأتي من الشرق، وهي التي تغنى بها طاغور في شعرهوهي التي تمثل لب فلسفته كلها.

طلع طاغور على المسرح العالمي من خلال كتاب صغير للقصائد النثرية كتبه باللغة الإنكليزية يسمى"جيتا نجالي" وهو عبارة عن ترجمة طاغور نفسه للمؤلف الأصلي الذي كتبه باللغة البنغالية، وكان هذا العمل تعبيراً عن عاطفة دينية، ومع ذلك نال شهرة كبيرة، وحظي باقتباسات كثيرة من قبل كبار الأدباء والفلاسفة في العالم، مما يثبت أن معلمي الحكمة الشرقية لديهم رسالة يمكن أن يفهمها البشر جميعاً. وهويقول: "أيتها البشرية العريقة هبي للعالم مثل طاغور فليصيح الناس ويهتفوا للاخاء والسلام والحرية وليرفعوا راية الايمان لرفعة الانسان وحبه لاخيه الانسان." هكذا نجد أن شاعرنا جعل منها رسالة فكرية وإنسانية، ومن أجل ذلك كافح وناضل فخسر مباهج الحياة ليظفر بالثمرة الناضجة، ووظف سنوات عمره في سبيل رفعة الكلمة وسمو الحرف.

كان يعتقد الشاعر أنه سيأتي اليوم الذي تصبح فيه القوى العظيمة للطبيعة في خدمة كل إنسان، ويتاح لكل فرد الضرورات الأساسية للحياة بالقليل جداً من العناء والتكلفة، وستكون الحياة سهلة على الإنسان مثل عملية استنشاق الهواء، وستكون روحه حّرة لينشئ عالمه الخاص.

عاش طاغور كل حياته مؤمنا بالانسان والحب والجمال، وكرس كل جهده ونشاطه الفكري لخير الانسان وانتج فكره النير كل القيم من اجل الانسانية. لقد فجّرت المعاني السامية للمحبة والجمال في ديوانه جيتنجالي الذي عبر فيه عن أمل جديد للإنسانية وهي غارقة في الحرب العالمية الأولى. كان يؤمن طاغور بأنه سيأتي يوم يعاود فيه الإنسان ذلك الكائن الأبيّ فخطّ مسيرته الظافرة على الرغم من كافة العراقيل ليعثر على ميراثه الإنساني الضائع.

 

الدكتور معراج أحمد معراج الندوي

الأستاذ المساعد، قسم اللغة العربية وآدابها

جامعة عالية ،كولكاتا - الهند

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم