صحيفة المثقف

مضامين فكريّة لألفاظ فلسفيّة

مجدي ابراهيم (16)

لم نكن في سياق حديثنا عن ميتافيزيقا اللفظ المفتوح، وقراءة لغة الخطاب الصوفي بعيدين عن توخي الإنصاف في اعتبار شاعريَّة اللغة العربية ومجَازُها تحصل من خلال التجربة، وتُسْتَفَادُ من التجربة، وتمتلئ بالمعاني التي تعطيها التجربة، كما يسفر عنها مَذَاق العارفين. ولم تكن معطيات العبارة الصوفية وهى التي تتمثل في لغة المعنى الصرف، ولغة التجربة المحضة، إلا لغة مفتوحة غير مغلقة ولا هى بالسطحية تقوم على الإشارة التَّصوِّفيَّة وعلى الرمز والدلالة.

على أن هنالك ألفاظاً ترتبط بمضامين فكرية مُحَدَّدة، مع اشتراكها واستعمالها كلغة عامة بوجه عام، ولا يمكن لنا تحديدها تحديداً صحيحاً إلّا إذا عوَّلنا على لغة "المضمــون" فيها، وما يتصل بالمضمون من منهجيّة التفكير.

والأمثلة على ذلك كثيرة نشير منها إلى ما يَحْضُرنا في هذا الصدد. فإذا بلفظة "العلم" التي استخدمها الغزالي في كتابه "معيار العلم" غير لفظة "العلم" في العصر الحديث "العلم التجريبي" . ولفظة "اليقين" التي استعملها الصوفية غير لفظة "اليقين" البرهاني عند ابن رشد. "والاتصال" الذي استخدمه الفلاسفة، غير "الاتصال" الذي كان معقد آمال المتصوفة. و"العقل" عند الحارث بن أسد المحاسبي، غير "العقل" عند الفارابي وابن سينا، أو "العقل" عند ابن بَاجَه وابن طفيل وابن رشد. و"الحدس" عند الغزالي، يختلف عن "الحدس" عند ديكارت.

وليس "حدس" الفلاسفة كـ "ذوق" الصوفية، ولن يكون. و"التنوير" الذي نجد له جذوراً عند ابن رشد، وعند "كانط"، ليس هو "التنوير" عند ابن عطاء الله السَّكندري الذي استخدم اللفظة عنواناً لكتابه "التنوير في إسقاط التدبير". و"نقد المضمون" عند الفلاسفة يختلف عن "نقد المضمون" عند الصوفية.

وهكذا، وهكذا، إلى كثير من الألفاظ تتداول بين الفلاسفة والصوفية، وتختلف في دلالتها حسب اختلاف المنهج، واختلاف المضمون من ورائها. هذه الألفاظ والعبارات حاملات المضامين تتباين فيما بينها تبايناً يجعلنا نعوِّل في المقام الأول في فهم دلالة كل لفظة، وكل مصطلح، على المنهج والمضمون مثلما تختلف الأفكار الكبرى في الفكر الفلسفي على وجه العموم :

لقد كان أفلاطون يقول بالتوحيد (التوحيد العقلي)، وكذلك كان الصوفية يقولون، فهل التوحيد عند الصوفية هو عينه التوحيد عند أفلاطون؟ بالطبع لا، وإذن فالمنهج الذي يحلِّل ويفتت المضمون هو الذي يحدِّد لنا المصطلح الفلسفي: ألفاظه ومعانيها، وَيُبَيِّن لنا ما وراء الألفاظ من دلالات في الفكر الذي يقول به فيلسوف من الفلاسفة أو متصوف من الصوفية، على نحو ما قال "الفارابي" :"... وربَّما وُجد من الألفاظ ما يستعمله أهل صناعة على معنى ما، ويستعمله أهل صناعة أخرى على معنى آخر"؛ مع التجوُّز في قول الفارابي، ومع ترحيل الدلالة.

فحين بحث الفارابي في دلالات الألفاظ من جهة ما تَدُلُّ عليه صناعة المنطق، وذلك في كتابه "الألفاظ المستعملة في المنطق"، كان يرمي إلى تعريف دلالات الألفاظ بقصد المعاني التي تدل عليها عند أهل صناعة المنطق فقط، ولم ينظر إلى شيء من معان هذه الألفاظ سوى ما يستعمله منها أصحاب الصناعة؛ لربما لدلالة المعني الخفي الذي يتجذر بالتحديد والحصر.

ولمَّا كانت صناعة علم اللسان إنما تشتمل على الألفاظ التي هى في الوضع الأول دالّة على المعاني بأعيانها، فرَّق الفارابي بين دلالة اللفظ المشهور على معان هى مشهورة عند الجمهور، وبين دلالته المشهورة عند أصحاب العلوم؛ وهى تفرقة أراد بها أن يرفع مغبَّة الاستنكار متى استُعمل كثيراً من الألفاظ المشهورة عند الجمهور دالة على معانٍ غير المعاني التي تدلُّ عليها تلك الألفاظ عند النحويين، وعند أهل العلم باللغة التي يتخاطب بها الجمهور.

فهذه الألفاظ المُعَبئة بمضامين فكرية محددة تعرَّف تعريفاً دلالياً، على ما قال الفارابي، على قصد المعاني التي تدل عليها أهل الصناعة فيما عُرف بينهم من استخداماتها؛ فلزم الرجوع فيها إلى استعمال المعنى في العُرْف الذي جرت عليه العادة في طبيعة هذه الصناعة كما تحقق به عملها. فليس قصد النحوي من معنى لفظ ما كقصد المنطقي من معناه، ولا قصد هذا كقصد صوفي من معنى لفظ بعينه، ولا قصد ذاك كقصد متكلم في علم من العلوم.

وفي تفرقة الفارابي سالفة الذكر بين الألفاظ المستعملة لدى النحويين أو المناطقة مثلاً، وهى تدل على معاني غير المعاني التي تدل عليها فيما لو استُعملت هذه الألفاظ لدى أهل العلم باللغة التي يتخاطب بها الجمهور؛ يُظهرنا على أن اللفظة تحمل مضموناً فكرياً يحدده أهل هذه الصناعة أو تلك، تحديداً خاصّاً يَتَبيَّن منه المقصود على وجه الدقة من معناه.

ولم يكن القشيري ببعيد عن هذه الزاوية الدقيقة حين صَدَّر رسالته بالتنبيه على مثل هذه الفروق الفارقة بين طوائف العلماء من أهل الصناعات : فلاسفة ومفكرين ومتصوفة ومتكلمين أو ما شئت أن تضيف، في استخدامهم ألفاظاً أرادوا من ورائها التعبير عَمَّا تواطئوا عليه واتفقوا فيما بينهم عرفاً؛ بسبب أنهم تعارفوا على معنى معين لهذه اللفظة أو تلك غير المعنى المقصود عند طائفة أخرى تستعمل نفس اللفظة ويُراد من ورائها معنى آخر لا لشيء إلا لأن هذا المعنى يحمل غرضاً لهذه الطائفة، ويكشف عَمَّا تقف عليه من تجلية معنى ليس يشترك فيه غرض طائفة سواها فيما لو استُعملت نفس اللفظة.

ونص القشيري هو:  "اعلم أن لكل طائفة من العلماء ألفاظاً يستعملونها، وقد انفردوا بها عَمَّن سواهم، كما تواطئوا عليها لأغراض لهم فيها، من تقريب الفهم على المتخاطبين بها، أو للوقوف على معانيها بإطلاقها".

مَهَّدَ القشيري بهذا النَّص لصناعة المصطلح الصوفي، ولمعرفة علم أحكام حدود الألفاظ الصوفية؛ لكأنه يريد أن يقول إن اللفظة التي يستعملها أهل الطريق إنما هى لفظة مفتوحة لا يحصّلها أجنبي عن طائفتهم لأنها تجربة، من الذوق تصدر وإلى الذوق تعود؛ فكان مقصودهم الكشف عن معانيهم لأنفسهم، ثم ستر هذه المعاني المكشوفة على من خالفهم الطريق ولم يشاركهم ذوق المعنى المجعول في اللفظ المفتوح، وهو لفظ قد جعلوه مُبْهَمَاً غامضاً مضنوناً به على غير أهله بتعبير الغزالي غيرةً منهم؛ لعزته عليهم، على أسرار الطريق أن تفشى لغير أهلها.

ثم ألا يَدُلُّنا هذا على أن القشيري كان من أوائل المبادرين إلى صناعة المصطلح العلمي بمفهومه الحديث، والكشف عَمَّا يحمله من مضامين فكرية تتحدد وفق المُواطئة والاتفاق فيما جرى عليه العُرف بين أهل الصناعة الواحدة؟

 

بقلم: د. مجدي إبراهيم

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم