صحيفة المثقف

الهدى هولدينغ

رحمن خضير عباسفي مجموعته القصصية (الهدى هولدينغ) والتي صدرت قبل عدة سنوات، يسعى الكاتب والشاعر المغربي أحمد طليمات إلى تغيير العالم المحيط به، من خلال ترميم الخلل الذي اعتراه، نتيجة لهيمنة ما يسمى بالتيارات السلفية. سلاحُهُ في ذلك أوراقه ومحبرته التي يصرخ بصوته من خلالها، ذلك الصوت الذي يتحوّل إلى شعر ونثر، حاملًا حزمةُ القيم الفكرية التي يؤمن ويتشبثُ بها، وكأنّ الكاتب يحارب طواحين الهواء التي تحيط به، وتكتم قدرته على البوح.

لذلك فقد لجأ في مجموعته القصصية هذه، إلى تعرية ما أطلقَ عليه ساخراً ب (الهدى هولدينغ)، وذلك من خلال تسفيه سلوكيات ووصايا تلك الفئة، التي تسلطت على المجتمع من خلال استغلال هيبة الدين، ومفردة العنوان التي استخدمها على سبيل الاستعارة، هي مجرد ترميز لحالة الحيازة التي جعلت الهدى هولدنغ كوصي، يترصد السلوكيات الفردية، ويخضعها لمبدأ الصحّ والخطأ وفق وجهة نظر أحادية الجانب. ولكي لا يكون الكاتب مباشرًا في الطرح الفني، فقد لجأ إلى تشفير المسمّيات، فمنح قصصه القدرة على التحرك والامتداد، كي تعرّي الظواهر، وتجرّدها من ورقة التوت التي تستر عورتها .

تبدو قصص المجموعة ذات إشراقة عذبة، موّشاة بالفكاهة والطرافة، رغم أنّها تنوء بعبئ معالجة مشاكل حادة، ومنها إشكالية الوصاية على السلوك والأخلاق، من قِبَلِ هذه القوّة والتي أباحت لنفسها مهمة (الأمر والنهي)، والتي تباغت الآخرين في غرف نومهم وفي حميميتهم، كما تراقب ملامحهم وعلامات وجوههم، وحلاقة شواربهم أو إطالة لحاهم،  بل أنهم يباغتونك في نشوة الفرح في الموسيقى أو غيرها من الفنون ليغلقوا حياتك بجدران من القواعد الشكلية، والتي تجعل الحياة جحيما . بل يتعدى الأمر إلى تحريم أناشيد الطفولة واستبدالها بأناشيد بديلة، وتشويه البراءة في الطفولة من خلال الانهماك في تلقين الأطفال بمفاهيم التحريم والتحليل، وخنق براءة الطفولة فيهم.

هذا ما ورد في النصوص والتي تميّزت بوحدة الموضوع، فهناك خيط واحد يشدّ عرى المجموعة، وهو الدفاع عن قيم الحرية، والإعلاء من شأن العقل في تحليل الظواهر . فهو يطرح موقفين متناقضين، من أجل التمسك بعقلانية الأوّل وتعرية الموقف الثاني، حيث يتناوله بكَيْفِيّة هزلية، تجعل القارئ يستأنس بجدلية الطرح.

في قصته (بيت الحكمة) يتخيّل بطل القصة أن مكتبته التي شيّدها لسنين طويلة، ورفدها بالكتب الرصينة التي تنهل من معين الفكر الإنساني. وبينما يطمئن، أن السارق يحتاج الكتب لبيعها كورق رخيص لبعض الحوانيت التجارية، والتي تستفيد من الأوراق لتغليف البضاعة المّشتراة !

ولكنه يكتشف بأنّ مكتبته لم تُسرق بالمعنى التقليدي للسرقة، بل استبدلت بكتب أخرى . ذات قيمة متدنية حيث أنها مجموعة من الكتب التي تسعى إلى غرس الجهل، وذلك من خلال عناوينها (والتي أعتقد بأن الكاتب حرص - متعمدًا- على اختيار عناوين كاريكاتيرية).

فالسرقة هنا هي عملية غسل الأدمغة، وإفراغها من المعرفة. ومن ثمّ استبدالها بالغث من المفاهيم والأفكار. لذلك فهو ينشب أظفار سخريته في وجوه التعسف، الذي يضع الأغلال الفكرية والعقائدية على الأفكار الحرة .

إن تسويق الوصاية العقائدية على الناس، لا تكتفي بالغسيل الفكري، بل تتعداه إلى خصوصيات الحياة الفردية، حيث تتجاوز حتى إلى فحولته الذكورية التي وضعت ضمن قوانين الحيازة للهدى، وكذلك تسريحة شعره، وشواربه غير المُستحبة لديهم، واللحية التي تأبى أن تغزو وجهه لأسباب فيزيولوجية وعدم وجود( الزبيبة) على جبهته، مما يجرّده من صفة (المؤمن) المثالي.

تأتي نصوص أحمد طليمات رشيقة وشفافة وحافلةً بالمُلح والطرائف.

ثمة إيقاع لغوي متناسق، وتلاعب بالكلمات والحروف، وتحوير في العبارات كي تؤدي أثرها في القوّة التعبيرية كقوله "تبدّت بتبنّدها الذي يبدو أنّه أبدي" والكثير من الجمل والكلمات والعبارات التي تخلق الابتسامات لدى القارئ.

ينتهج الكاتب أحمد طليمات أسلوبًا واقعيًا في طرح شخوصه وأبطاله. ورغم أنّ أغلب أبطال قصصه يتكلمون بضمير الأنا. ولكنهم مختلفون، ولديهم هواجسهم بسبب مصادرة إنسانيتهم وحريتهم وكرامتهم. فرغم أنّ أبطاله مستلبون. لكنهم متشبثون بقناعاتهم.

كل ذلك يتمّ بأدوات ساخرة تتدفق بسلاسة من خلال سبر أغوار شخوصه وكشف همومهم، ومن خلال رصد بعض الظواهر التي تبدأ ببراءة الأطفال وهم في مدارسهم، وقد تنتهي بهموم الشيخوخة .

وفي كلّ ذلك نجد الكاتب منهمكًا في البحث عن مفهوم الحق، وتقديسه للحرية في إطار قيمها الإنسانية النبيلة.

 

رحمن خضير عباس

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم