صحيفة المثقف

مجتمعات التّوحيد بين مطرقة المذهبيّة وسندان السّياسة

إنّ الحرّيّة مبدأ أصيل وغريزة في البشر وهي القوّة الإنسانيّة الفاعلة والمأثّرة في التّفكير والقول والعمل، ولهذا وجب أن تُضبَطُ بضابط جلب المصلحة ودرء المفسدة حتّى تنطلق حرّية الإنسان بأسمى معانيها نحو المصلحة الإنسانيّة العامّة، وعليه كان المنهج الإسلامي مكرّسا لهذا المبدأ الإنساني المشترك بين جميع المناهج الوضعيّة منها، و كذلك السّماويّة  .

يقول تعالى في محكم تنزيله {هُوَ الذِّي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعَا} (البقرة الآية 29)  تُفيد كلمة " لَكُمْ " الواردة في الآية الكريمة حقّ الجميع في كلّ ما في الأرض، فتعيَّنَ بذلك أن يتَأهَّل البعض لتوزيع الثّروات وتقسيمها كلّ حسب حاجته وكلّ حسب جهده، ولا يَتَأتّى ذلك إلاّ بسَنّ قوانين ونُظُمٍ تُنظّم تعاملات الإنسان حتّى لا يكون المال العام وثروات الأرض حكرا على فئة من النّاس دون أخرى ولذلك نظّمت الشّرائع السّماويّة حياة الإنسان عامّة    و ضوابط  المعاملات خاصّة  ضمن قواعد شرعيّة.

إلاّ أنّ الاختلافات المذهبية والسياسيّة كانت السّبب الرّئيس في الانقسام المجتمعي ودليل ذلك مختلف الأحداث الخطيرة التّي شهدها العالم في السّنوات الأخيرة بنسق تسارعي والأزمات الاجتماعية وغيرها، والتّي هي نتاج للصّراع العقديّ القائم منذ حقبة تاريخيّة قديمة قدم الشّعوب الإنسانيّة والمذاهب الدّينيّة، بيد أنّه تجلّى في أعنف صوره في الآونة الأخيرة.

لقد شملت أطراف هذا الصّراع مختلف دول العالم الإسلامي وغيره، فهذا طرف جاذب يريد السّلطة والسّيطرة على العالم والمتمثّل في العائلات النّافذة الأرستقراطيّة والتّي لا دعوى لها بالدّين بل هي تنبذه على اعتبار وأنّه عائق أمام مصالحها، وآخر يريد الحكم على اعتبار أنّه يرى في نفسه شعب الله المختار، وبين المنزلتين طرف ضعيف مُساق وراء السّاسة كالعبيد ليحفظ لقمة عيشه في صمت رهيب وسط كل هذه الاضطرابات والتّدافعات المصلحيّة  على ما يسمّى بـــــــ" الحُكــــــم" .

إذن من يحكُم ؟ هذا هو السّؤال المحوري الذّي خلق الانشقاق والانقسام داخل الأمّة الإنسانيّة و أقول الإنسانيّة وليس الإسلاميّة لأنّ مسألة الحُكم والهيمنة تخصّ مختلف شعوب العالم دون استثناء على اختلاف أديانهم .

تختلف الرؤى صراحة حول مسألة الحكم وكيفيّة تطبيقها، فكلّ طرف يرى في نفسه الكفاءة والجدارة لتولّي أمور الدّولة و العباد، والكلّ له استراتيجيّات وخطط هي الأمثل لإصلاح  مختلف المنظومات التّي أفسدها غيره بحسبه .

ما نريد إثباته في هذا المقال أنّ عقيدة التّوحيد حرّرت الأمم والشعوب من العبوديّة والتّبعية للذّات (النفس الشّهوانية) والآخر(إنسان تسلّطي) حتّى لا يكون رهينة الأوامر والنّواهي المملاّت فتتقيّد بذلك حركته العقليّة ومن ثمّة حركته الفعليّة، وهذا ما أدركه روّاد النّهضة والإصلاح في بلاد العالم الإسلامي، أي البُعد القيمي لحرّية شعوبها، الأمر الذي دفع بهم للمناداة بأهمّية مقولة الحرّية ودورها كقيمة أساسيّة للتّقدّم والرّقي والخروج من الاستبداد الاستعماري والتّسلّط السّياسي، نذكر من بينهم رفاعة الطّهطاوي والكواكبي وغيرهما .

لقد رفعت عقيدة التّوحيد عن الإنسان كلّ القيود ليكون مطلق الإرادة والحرّيّات، فحرّرت العقل الإنساني من التّقليد الأعمى والدّجل والتّفسير الخرافي للظّواهر الكونيّة، بل تعدّى العقل ذلك حتّى كان أساس الحياة بما فيها العقيدة الدّينيّة .

وعليه، يُطرح تساؤل في هذا الخضمّ لا يجب أن يُطرح لأنّ إجابته معلومة للجميع، هل نحن أحرار في أوطاننا ومجتمعاتنا في عصرنا الرّاهن أم لا؟

الإجابة طبعا لا، لا لأنّنا مضطهدون مسيّرون ومسلوبي الإرادة ويتجلّى ذلك في مختلف مجالاتنا الحياتيّة حيث اقتصادنا المنهار مجتمعنا المتفكك، تعليمنا الرّديء وثقافتنا المنحطّة وحرّيتنا الدّينيّة المحدودة والمراقبة باسم التّصدّي للإرهاب وسياسيّا طالما أنّك لست معي فأنت ضدّي إذن يجب إقصاءك، ناهيك عن سماسرة الدّين من أجل كرسي السّلطة، نعم هكذا هو الحال تماما... ولكن ربّما السّؤال الوجيه والذّي يجب أن نطرحه هو: إلى أيّ مدى نحن أحرار؟ وهل هذا المدى الذي نتمتّع به يتيح لنا العيش بكرامة وإصلاح مختلف أحوال البلاد؟

إنّ هذا السّؤال إجابته نسبيّة، فطالما أنّنا مسيّرون بإرادة خارجيّة غربيّة فنحن لن نحضى أبدا بالمدى الذّي ننشد، إلاّ إذا ما حطّمنا مختلف القيود التّي تكبّل سياساتنا الاقتصادية والتّبعية الخارجيّة.. وارتقينا إلى مستوى مجتمع واع فخور ومعتزّ بانتمائه الدّيني والحضاري وهويّته العربية الإسلامية، واعتمدنا برامج تعليميّة خاصّة تتماشى مع واقعنا ومجتمعنا تنهض بالفرد فكريّا ومعرفياّ.. تبلور ذلك كفاءات وطنيّة، بعيدة كلّ البعد عن الاستراتيجيات الغربية الفاشلة التّي حطّمت التّعليم وقضت على الثّقافة العامّة للفرد والمجموعة، الأمر الذي سيساعد على التّصدي للإرهاب المزعوم، هذا الإرهاب الذّي ألصقوه بالإسلام دين التّوحيد الذّي ما دعا إليه البتّة، لا في الكتاب العزيز ولا في سنّة الرّسول الأكرم عليه أفضل الصّلاة و أزكى التّسليم، بل كان صناعة غربيّة تفشّى في جسد مجتمعنا العربي الإسلامي بالأساس.. أزهقت باسمه أرواح عديدة ببشاعة لا يتخيّلها مخلوق

وكلّ هذا صراحة متوقّف على إرادة سياسيّة صارمة وصالحة في الآن ذاته تمحق وتزيل مختلف السّياسات القديمة، فتخرج بالسّياسة المعلومة من مزبلة النّجاسة إلى براري النّظافة والصّلاح .

 

بقلم الباحثة سلوى بنأحمد

تونس في 26/08/2019

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم