صحيفة المثقف

سلالم ترولار.. رواية الواقع الموازي الذي يتجاوز الخيال

عدنان حسين احمدمن روايات القائمة الطويلة لجائزة البوكر العربية

ثمة روايات كثيرة تحلّق في الخيال لكنها تنطلق من الواقع أو تتلاقح معه لتشيّد واقعًا موازيًا لا يمكن قراءته إلاّ بشكل مجازي من دون التفريط بمعطياته الحقيقية التي قد تستدعي نظيرًا للبطل المركزي أو أي شخصية مُساندة في النص السردي. ورواية "سلالم ترولار" لسمير قسيمي الصادرة عن "منشورات المتوسط" بميلانو التي وصلت إلى القائمة الطويلة لجائزة البوكر العربية هي من هذه الروايات الإشكاليّة التي تعتمد كليًا على فكرة بناء "الواقع الموازي" الذي يمتحّ كثيرًا من الخيال لكنه يظل متشبثًا بالواقع الأسيان الذي ينتقده، ويمعن في رسم صورته الممسوخة التي شوّهها القادة المؤلَهون الذين هبطوا من الأعالي وهيمنوا على شعوبهم بسياسة الكذب والتضليل والإيهام.

تنحصر ثيمة الرواية باختفاء الأبواب والنوافذ من العاصمة التي يُرمَز لها بـ "المدينة الدولة" فتُنهَب البيوت والثُكنات والمحلات التجارية والمباني الحكومية ولم يصمد منها إلاّ قصر الحكومة، كما يفرّ السجناء من سجونهم ومعتقلاتهم فيختلط الحبال بالنابل لكن ما إن يستردّ الكاتب موهبته مباشرة بعد قراءته لرسالته المتأخرة خمس سنوات حتى يشرع بالكتابة فتعود الأبواب والنوافذ إلى أماكنها وينحسر ضجيج الشارع لينعم بالهدوء والسكينة ثانية. ومثلما يكمن الشيطان في التفاصيل فإن أهمية هذه الرواية تكمن في ثيماتها الفرعية التي تؤثث المتن السردي الذي يروي قصة كل شخصية على انفراد سواء في واقعها الحقيقي أو في الواقع الموازي الذي صنعتهُ مخيّلة الروائي سمير قسيمي.

يشتمل الفصل الأول من الرواية على الشخصية المركزية جمال حميدي كما يضع بين أيدينا الخيوط الخفيّة لشخصية أولغا التي تنطوي على بضعة أسرار تتكشف تباعًا، إضافة إلى موح بوخنونة وابراهيم بافولولو، واثنين متشابهين يدّعي أحدهما أنه شقيق ابراهيم، الذي وافته المنيّة، وجاء لكي يأخذ كل ما له علاقة بتجارته وملابسه التي وضعتها أولغا في محفظة وثلاث حقائب. ولكي نمهّد الطريق إلى القارئ لابد من القول بأنّ حورية التي سيُطلق عليها اثنان اسم "أولغا" قد وُلدت لأبوين مجهولين ثم تبنّاها السيد ابراهيم بافولولو ومنحها لقبه، وبعد ثلاث سنوات تأكدّ بما لا يقبل الشك أنها مُصابة بالبَرَص لكن ذلك لا ينفي أن الدماء التي تسري في عروقها هي دماء نبيلة تجعل منها إلهة أو نصف إلهة على أقل تقدير.

لم تكن أولغا جميلة لكنّ المُضّلِلين جعلوها كذلك وأولهم جمال حميدي، كما أغدقوا عليها لقب الشاعرة وهي أبعد ما تكون عن الشعر لأنها غير موهوبة أصلاً، وحينما يقع الحادث المروّع والأليم لجمال حميدي ويُصبح مُقعَدًا ونصف عَنِّين تطلّقه وتتركه لحال سبيله، فهو بوّاب رفض طوال أكثر من عشرين عامًا أي نوع من الترقية لأنه كان معتزًا بهذه المهنة التي لا تكلّفه سوى النظر إلى وجوه الداخلين والخارجين إلى مبنى وزارة الثقافة والتلصصص عليهم وقد درّب حاسته السمعية حتى بات يمتلك ذاكرة صوتية مُرهفة يميّز فيها أصوات البشر والحجر والشجر والحيوانات الأليفة التي تقترب من الوزارة أو من محل سكناه.

ينتمي ابراهيم بافولولو إلى جماعة اللامرئيين الذين لا ينتبه إليهم أحد، وهو أصلاً بلا أصدقاء مكتفيًا بذاته وابنته حورية التي عادت إلى اسمها الحقيقي بعد أن تخلّت عن اسم أولغا الذي حصلت عليه لأنها تشبه النساء الروسيات في البياض وقوّة الجسم. ثمة أفكار مهمة في الفصل التمهيدي من بينها ابتكار مُواطن بلا رأس، تحتل بطنه مساحة أكبر من جسده يتمتع بكل الحقوق من بينها سكن بلا مُقابل، وظيفة بلا مؤهلات، علاج مجاني وربما يكون ابراهيم أنموذجًا "للرجل- البطن".

يحتل الكاتب أهمية خاصة في هذه الرواية رغم أنه يبيع كتاباته كي يؤمّن هاجس العيش، فقد أنجز سبع روايات وباعها إلى "الرجل صاحب اسمه"، وبقي هو متخفيًا ومجهولاً. وحينما ننبش في تاريخة الشخصي نكتشف أن أمه قد ماتت قبل سبعة أعوام ثم انصرف إلى حياته الخاصة حيث أحبَّ، وتزوّج، وأنجب، وكتب روايات، وسافر إلى الخارج لكن الظاهرة الفارقة في حياته الإبداعية أنّ الكتابة ارتبطت لديه بالوحدة والانطواء. ولو دققنا في بعض التفاصيل فسوف نكتشف أنها لا تختلف عن تفاصيل الروائي سمير قسيمي نفسه، فكلاهما انتقل من الريف إلى وسط العاصمة، كما أنهما بنفس السنّ تقريبًا، ولعل الاثنين يخشيان انطفاء وهج الموهبة.

بعد أن اختفت الأبواب والمنافذ في العاصمة كلها هبّ مواطنون "بلا رؤوس" من الذين ابتكرتهم الحكومة حديثًا وذهبوا إلى جمال حميدي بوصفه عميد البوّابين، وأهمّ رجل في المدينة الآن فأخبرهم:"انتابني اليوم شعور غامض بحدوث الأمر"، وخطب فيهم لساعتين من دون أن يأتي على ذكر الأبواب والنوافذ المتوارية، فمواطنو "المدينة الدولة" لا يحتاجون إلى إجابات وإنما إلى رجل يُوهمهم بأنه يملك تلك الإجابات التي تخدّرهم وتجعلهم يشعرون بالخط الوهمي الذي يفصل بين عالمهم وعالَم الأوغاد. اقترح جمال تشكيل أبواب بشرية تحول بين الآلهة والهمج الراغبين في اقتحام قصر الحكومة.

لابد من الإشارة إلى أنّ الكاتب اقتنى من بائع جوّال صورة لرجل زنجي وظل يفكر فيه، ومع ذلك بدأ يكتب بلا توقف ولا يعود إلاّ برواية كاملة يبعثها إلى الرجل صاحب اسمه. ورغم رواياته السبع يشعر بأنه ليس كاتبًا وإنما مجرد رجل تعثّر بالكلمات.

تتشكّل الانعطافة الأساسية في حياة جمال حميدي حينما يدعوه "الرجل الضئيل" ويخبره بأنه معجب بجرأته حين يقف أمام الكاميرا ويُوهم الناس بأنه يملك حلولاً لمشكلاتهم، فهو بخلاف السحرة والمشعوذين ورجال الدين قادر على أن يصدّق خِدَعهُ وأوهامه لكنه يحتاج إلى شخص مثل "الرجل الضئيل" كي يدّربه على عدم قول الحقيقة من دون أن يكون كذّابًا فيخصص له ثلاث ساعات يوميًا ويعلِّمه  كل حِيل السياسة ودروبها، فالشعوب تفضّل دائمًا أن تعيش في واقع موازٍ يُوهمها بالقدرة على تحقيق مصيرها.

كلما يتقدّم الكاتب في روايته يتراجع ضجيج الشارع وتظهر الأبواب والنوافذ تباعًا في شقته ذات الغرفتين المحتفيتين بعزلته، وبعد عشرين يومًا تستعيد المدينة أبوابها ونوافذها المختفية بينما تُشارف روايته الجديدة على الانتهاء غير أن الرجل صاحب اسمه لا يردّ على مكالمات الكاتب ورسائله البريدية. وفي الوقت ذاته تعلن نشرات الأخبار عن قبول السيد جمال حميدي بتسيّير الدولة لحين انتخاب رئيس جديد. يسقط حميدي من كرسيّه في حضرة الرجل الضئيل الذي بقي مستمتعًا بمشاهدته وهو غارق في عجزه. ينتقم الرجل الضئيل من عصام كاشكاصي شرّ انتقام حينما جعله يعيش على الهامش لكنه يعترف بأنه ظل عصيًا على الموت. أما جمال حميدي فقد أعاد أولغا إلى عصمته بينما تمكّن سكّان المدينة الدولة من استبدال وصفهم "الغاشي" بالشعب الذي استحقوه عن جدارة. أما الكاتب الذي اقتنى صورة الزنجي غريجا فسوف نكتشف في خاتمة المطاف أنها وجه الكاتب نفسه الذي قرّر أن يكتب اسمه الحقيقي على الرواية التي تحمل عنوان "سلالم ترولار" لمؤلفها سمير قسيمي.

أصدر قسيمي تسع روايات نذكر منها "يوم رائع للموت" و"هلابيل" و"الحالم" و"حُب في خريف مائل" التي تُرجم بعضها إلى لغات أوروبية متعدة.

 

لندن: عدنان حسين أحمد

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم