صحيفة المثقف

مُحي الدين بن عربي: أدينُ بدينِ الحُبِ

بشار الزبيديبقلم: شتيفان بومر

ترجمة عن الألمانية: بشار الزبيدي


كما يحدث مع أي شخصية عظيمة، تعرضَ مُحي الدين بن عربي (1165-1240) للكثير من النقدِ والاتهامات بسبب أفكارهِ إلا أن هذا الأمر قد يعكس واقعية الرؤى التي كان يتمتع بها ابن عربي ؛ فمن علمهِ إستقى الآخرين وصنعوا لأنفسهم مكانة. وهكذا فإن العديد من القُصصِ والأساطيرِ التي تتحدث عن ابن عربي هي شاهد على إتقانهِ المُطلق لوظيفةِ المُعلم والقائد الروحي. وحتى اليوم ما زال يُطلق عليه الكثيرون "الشيخ الأكبر".

ولد محمد بن علي بن محمد بن عربي الحاتمي الطائي الأندلسي الشهير ب مُحيي الدين بن عربي  في مدينةِ مُرسية الإسبانية لعائلةٍ مرموقة أجبرتها أحداث الحرب عام 1172 على الانتقال إلى مدينة إشبيلية، حيث أمضى ابن عربي شبابه هناك. ثم قام برحلاتٍ كثيرة إلى الأندلُسِ وإفريقيا والشرق الأوسط ومكنه هذا الأمر من الدخول مُبكرًا في تواصلٍ شخصي مع أهمِ الصوفيين والكهنةِ والفلاسفةِ في عصرهِ. وظلَ لفترةٍ طويلةٍ في مصرِ والعِراقِ وسوريا وتركيا. وفي عام 1223 استقر به المقام في دمشق حيث مكثَ هُناك مع مجموعةٍ من التلاميذِ حتى وفاته فيها.

على الرغم من أنه صنع العديد من الأعداءِ لنفسهِ باعتبارهِ ناقدًا صريحًا للعقيدة الدينية والفلسفية إلا أنه ما فتئ يحظى باحترامٍ عالٍ على اعتباره أحد أكابر الصوفيين في جميع العُصُور وكمُدرسٍ لحالةٍ لا مثيل لها. ألقاب مثل "الشيخ الأكبر" و "قطب المعرفة" و "دكتور ماكسيموس" شاهد على احترام الشرق والغرب له. دَرَسَ ابن عربي  بصفته أول مُمثل للصوفية وبوضوحٍ كبير في الرؤيةِ الوحدة المُطلقة للوجود ومسارات الكشف الذاتي وهي رسالة تنطوي على إمكاناتٍ لا تُقدر بثمنٍ للتفاهمِ بين الثقافات وخاصة في أوقاتِ التعصُبِ الديني الشرس والوهم الأصولي.

بفضلِ كتاباته العديدة المحفوظة بعناية فإن سيرة ابن عربي الأدبية موثقة بشكلٍ جيد. قضى ابن عربي كُل حياته في الدراسةِ ككاتبٍ ومُعلم روحي. وفي الوقتِ نفسه انغمسَ في بيئتهِ الاجتماعية وفي السياسةِ ما جعله مُستشارًا لبعضِ المُلُوك. كان عمله واسع النطاق ومعرفتهِ ومُنجزاته الأدبية وفقًا لأحدث الأبحاث تقدر بما لا يقل عن 350 وهي جزأ من أعمالهِ الموسوعية. ولذلك ليس محض صدفة أن يُكنى ابن عربي ب "قُطب المعرفة" في بعضِ التقاليدِ الإسلامية.

كان الوقت الذي عمل فيه ابن عربي مُضطرب ومُتغير روحانيًا أيضاً بالنسبةِ لليهودِ والمسيحيين. كان ذلك في وقت كانت فيه المُجتمعات الدينية الإبراهيمية الثلاث على اتصال قوي ومباشر مع بعضها البعض. ما تزال أعمال ابن عربي الأدبية لها تأثير تصالحي فجميع الديانات الإبراهيمية الثلاث تعبد إله واحد تحت سقفٍ واحد. ويجد المرء مثلاً هذا التصالح في إحدى قصائده:

“قد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي .. إذا لم يكن ديني إلى دينه داني

لقد صارَ قلبي قابلاً كلَ صُورةٍ ..... فمرعىً لغزلانٍ ودَيرٌ لرُهبانِ

وبيتٌ لأوثانٍ وكعبةُ طائفٍ ......... وألواحُ توراةٍ ومصحفُ قرآنِ

أدينُ بدينِ الحبِ أنّى توجّهتْ ...... ركائبهُ، فالحبُّ ديني وإيمَاني”

عبقرية فريدة في التربية الصوفية

ابن عربي هو عبقري فريد من نوعه في عالم التربية الصوفية. حتى القرن العشرين لم يكن معروفًا نسبيًا في الغرب، كان مُبجل من قبلِ الصوفيون لأنه اقتحم" العالم الإسلامي في مطلع القرن الثالث عشر.

كتب أكثر من 350 كتابًا ومقالًا. وكانت أعماله في أعلى مستويات الجودة وتستحق الاعتراف بها ككلاسيكيات للروحانية الغربية. أعماله تتعامل مع كل جانب من جوانب التعليم الروحي وتشرح ليس فقط جميع العلوم الإسلامية التقليدية للقرآن والأحاديث النبوية الشريفة، وإنما أيضًا كُل التقاليد النبوية الكاملة للغرب. إنه يقدم هذا التقليد وفقًا لمعناه الداخلي ويعرضه ضمن كيان مُتماسك. ويقدم أيضًا تعليقًا على التقليدِ الروحي الذي نشأ في الإسلامِ لنحوِ مائة عام ؛ لقد وضع ابن عربي كل العقائد والأشكال المختلفة للمعرفة الصوفية في السياق الأوسع للروحانية الإنسانية.

أن الميزة الأبرز لهذه الكتابات هي شموليتها واتساعها، إلى جانب اختراق مُذهل للمواضيعِ المركزية للتجربةِ الإنسانية. وقليل من الناسِ يستطيعون الادعاء بأنهم قرأوا أكثر من جزء من هذه الأعمال وعدد أقل ممن يجرؤون القول بأنهم فهموها. إنها تُمثل كنزًا لا يُضاهى لجميعِ باحثي الحقيقة الحقيقيين وتصوغ أو تتنبأ برؤى تعزو بشكل عام إلى شخصيات لاحقة. وهكذا فإن مفهوم التطور البشري  قبل عدة قرون من ظهوره في الغرب، ظهر في واحدة من قصائدهِ.

من الواضح أيضًا أن أعماله لها قوة ملحوظة تستطيع تغيير حالة وعقلية القُراء. لطالما أثار ابن عربي مشاعر قوية ولم تُعتبر كتاباته "سهلة" إطلاقاً. وبينما كان يُعتبر بالنسبة للبعضِ نموذجٍ للقداسةِ والإدراكِ الحقيقي الروحي، رآه آخرين شخصية إلحادية مُثيرة للجدلِ إلى حدً ما. يبدو أن كل هذا يعكس أو يعبر عن أحكامِ مُسبقة وأفكار عقائدية في عقول وقلوب قُرائه أكثر مما يُعطي صورة واضحة عن موعظتهِ. وكما هو الحال مع جميعِ العباقرة العُظماء، فإن الهوية والمبادئ الإنسانية الحقيقية غالبًا ما كانت محجوبة بسببِ الجدل الأيديولوجي أو سوء الفهم الشعبي.

تاريخيا، يُعد ابن عربي حد فاصل يوحد بين الروايات الشفوية السابقة والتوليفات التحريرية،ليمثل بذلك تتويجاً على مدار خمسة قرون ونصف من الروحانيةِ الإسلامية وبعد مرور ثمانية عشر عاماً على وفاتهِ، زعزعت الغزوات المغولية لمنطقةِ الهلال الخصيب الجزء الأكبر من الحضارة الإسلامية في الشرق وغيرت وجه الشرق الأوسط إلى الأبد. ومع تعافي الثقافة الإسلامية من هذه الكارثة الملحوظة،اخترقت تعاليم ابن عربي العالم الإسلامي،خاصة تركيا وإيران. وأصبحت مُصطلحاته أساسًا للتعاليم الصوفية اللاحقة،وكانت أعماله تمثل أهم اتجاه لجميع الرِهَابٌ العظيمة مثل، القادرية  والمولوية و النقشبندية.

لا أحد يستطيع أن يدعي بأنه كان ذو تأثير في العالمِ الإسلامي مثل المعلم الروحي محي الدين بن عربي. النقش فوق باب قبره في دمشق هو بيت شهير كتبه بنفسه. وعلى الرغم من أن البعض يعتبره مُباهاة وغرور، إلا أن البيت الشعري يُظهر وعيًا رائعًا بمركزهِ على اعتبارهِ مُعلماً روحيًا:

 " لكل عصرٍ واحدٌ يسمو به وأنا لهذا العصرِ ذاك الأوحدُ "

أساس العقيدة الإسلامية هو عقيدة التوحيد (تأكيد وحدة الله) ومحققات التوحيد تكمن في صميم شخص ابن عربي وعلمهِ. وبينما رأته الأجيال اللاحقة ككاتب عظيم، كان يُنظر إليه في حياتهِ كصوفي استثنائي، وشخص لديه نظرة ثاقبة عن الطبيعة البشرية وله فهم عميق قادراً على التدريسِ بالكلمةِ والعملِ. لقد كان أحد الأشخاص الذين أدركوا طبيعتهم الحقيقية من خلالِ التجربة وحالة الوعي بدلاً من التفكير الذهني. ومع ذلك وفي الوقت نفسه، كان قادرًا على التعبيرِ عن رؤيته شفهياً بالكلماتِ.

يجب أن تُحسب حياة ابن عربي ضمن السير الذاتية الاستثنائية للإنسانية. أي شخص يأتي من بعده لا يُمكنه إلا أن يكون مُمتنًا لثروةِ الأفكار التي كتبها وكتبها معاصريه عن تجربته. وفي الحقيقة يعود الفضل أساساً في إننا نعرف الكثير عن حياة ابن عربي الباطنية والظاهرية إلى أوصافهِ وكتاباتهِ الخاصة. كتب أحد معاصريه وهو صفي الدين بن أبي المنصور، الذي قابله في دمشق خلال الفترة الأخيرة من حياته، عنه ما يلي:

"كان مُحْيِي الدين بن عربي من أكبر علماء الطريق، جمع بين سائر العلوم الكَسْبِيَّة، وما قرأ من العلوم الوهبية.و شهرته عظيمة، وتصانيفه كثيرة. وكان غلب عليه التوحيد علما وخلقا. لا يكترث الوجود مقبلا كان أو مُعرضًا، وله أتباع علماء، أرباب مواجيد، وتصانيف".

كتب ابن عربي كما ذكرنا سلفاً ما لا يقل عن 350 عملاً، بدءاً من كتاب الفتوحات المكية، التي تملأ آلاف الصفحات باللغة العربية وصولاً إلى عدد لا يحصى من المقالات. يتكون الاختيار الذي سنقدمه من كُتُبهِ التي يُمكن أن تُصنف كأعمال رئيسية له وقد تعطي للشخص العادي نظرة عامة عن كتاباتهِ. تم اختيارها بسبب الإشارات المتكررة لها في كتاباته الخاصة وتوفرها كمطبوعات، ولكن يجب أن نذكر أن هذه القائمة ليست شاملة بأي حال من الأحوال.

كان تصنيف أستاذ الدراسات الصوفية عثمان يحيى، المكون من مجلدين عام 1964 "مؤلفات ابن عربي تاريخها وتصنيفها"  هي المحاولة الأولى والوحيدة لفهم نطاق أعمال ابن عربي. سيتم ترتيب الاختيار الحالي بشكلٍ تقريبي وفقًا للعناوين القصيرة ترتيبًا زمنيًا، على الرغم من أن إكمال بعض الأعمال استغرق سنوات عديدة وتمت إعادة كتابة بعضها.

من أعمال ابن عربي الشهيرة:

مشاهد الأسرار القدسية، التدبيرات الإلهية، الإسراء إلى المقام الأسرى، مواقع النجوم، عنقاء مغرب، إنشاء الدوائر، مشكاة الأنوار، حلية الابدال، روح القدس،التنازلات الموصلية،الجلال والجمال، ﻛﻨﻪ ﻣﺎ ﻻ ﺑﺪ ﻟﻠﻤﺮﻳﺪ ﻣﻨﻪ، إشارات القرآن في عالم الإنسان، رسالة الأنوار، كتاب الألف، أيام الشأن، الفناء في المشاهدة، ترجمان الأشواق،اصطلاحات الصوفية،  كتاب الأسفار، العبادلة، فصوص الحكم، فهرست المؤلفات، إجازة للملك المظفر، نسب الخرقاء، أوراد الأسبوع، الديوان الكبير، الفتوحات المكية.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم