صحيفة المثقف

صحوة

عبير خالد يحيىلم يصدّقوا أنني سأهبط من عليائي يومًا ما..

صمتي الذي أشعلَ أوارَ ألسنتهم بالرجاء والاستجداء قبل عشرين سنة، أخمدَها اليوم صوتي الذي انطلق ضعيفًا، ممتطيًا لسانًا ملجومًا، متكسرًا عند الفواصل، كسيحًا عند النقط :

-" أريد بدلة كحلية، وقميصًا أبيض، وربطة عنق وردية.

أريد عطرًا فاخرًا.

أريد أن أحلق ذقني وشعري.

وسأنزل ...."

لم أكمل كلامي، قوطعتُ باندهاش الوجوه التي تكرمشتْ وتغيّرتْ سحناتُها، وهربتْ منها الحياةُ هنيهة، كأنها رأتْ شبحًا، وجوهٌ طيبة تأسّفتُ بيني وبين نفسي أنّني عكّرتُ سماحتَها وصفاءها، زعزتُ أمنَها، وتمنيتُ لو أنّني لم أُخرِجْ صوتي من قمقمه.

كانت أمي أول من أخرجتْها (زغرودةُ) أختي من الذهول! وأعادتها إلى أرض المحسوس، فانطلق لسانُها بعبارات الحمد والشكر لله...

 لم أغادرْهم إلّا مُرغمًا، أمي وأخوتي وأصدقائي، كنتُ على موعدٍ قَدَريٍّ مع صمتٍ كئيب أطبق بنواجذه وأنيابه على حياتي، يوم فاجأني الموتُ بابتلاعه نصفيَ السفلي وكأنه لم يكن جائعًا بما يكفي لابتلاعي كاملًا، أدركتُ لاحقًا أنه كان متخمًا بعد أن ابتلع المئات من الأشخاص كاملين في انفجار إرهابي، وكان حرمُ الجامعة مائدةَ وليمتِه!

انتهيت مشلولًا بفعل شظية هشّمتْ فقراتي القطنية، على سريرٍ لم أشأ أن أغادرَه!

لم يُغرِني الكرسيُّ المتحرك بركوبه، وسرقَ الرعبُ صوتي.. إرادتي، وبعضًا من ذاكرتي !.

وبقيتْ هي.. حوّائي..

تراودني عن نفسي، تريدني أن أمتطي صهوةَ الحياة من جديد! كيف أفعل ذلك؟ وهل تقبل الحياة بأنصاف بشر؟ كيف يكون ذلك وقانون الاصطفاء الطبيعي الذي يحكمها هو البقاء للأقوى؟! وأنا لستُ قويًّا أصلًا لأدخل في تصنيف القوة! أم أنها احتفظتْ بنصفيَ العلوي لتضعني في قوائم قوانين المعاوضة؟! أو لعلّي حصّتها من اتفاقية تقسيم بينها وبين الموت؟! وكلٌّ أخذَ حصّته مني ومضى!.

عشرون سنة وهي مسجونة معي، نأكل ذات الطعام، في ذات الصحن، ونشرب ذات الشراب، من ذات اليد المغضّنة الحنونة، ننامُ معًا، نتناصفُ ذاتَ السرير، تدلّكُ نصفيَ الميّت، وكلُّها أملٌ بحدوث المستحيل، أضحكُ من أوهامها، تغضبُ مني، ترفعُ في وجهي تفاحةً حمراء شهية، قطفتْها ذاتَ غفلةٍ من شجرة كنتُ حدّثتُها عنها في إحدى حكاياتي، تهدّدُني بأنّها لن تشاركني بها، وأنها ستأكلها بمفردها، لتهبطَ إلى عالم الضجيج!.

عشرون سنة مضتْ بنا وهي تهدّد، بالأمس نفّذت تهديدها.. غادرتْني..

تركتْ على جدران ذاكرتي المغتصبة رسالةً، فحواها أنها تريد أن تنجبَ ولدًا من طين وماء! وعلينا أن نهبط إلى أرض الطين والماء معًا ! سبقتْني لتستنهض عجزي، تاركةً ثوبها الوحيد على نصفي الميت، لأدركَ أنها هبطتْ عارية! وعليَّ أن ألحقَ بها لأسترَ سوءتها!.

على كرسيّ مدولب، وأمام باب العمارة استويتُ بكامل أناقتي، ببدلة كحلية وقميص أبيض وربطة عنق وردية، أربعيني أودّع شبابي، وأخطو أولى خطواتي باتجاه الكهولة، تاجٌ فضيٌّ يزيّن رأسي، لا أدري متى  ولا من أين اقتنيتُه، أدركت لاحقًا أنه هديّة الأيام والشهور والسنوات بالتقسيط..شعرة شعرة...

بقيتُ في مكاني، أرتّبُ مراسمَ احتفالية للقادم من حياتي، وأوزّعُ المهامَ على المحيطين، كلُّهم كبروا، على غفلة من زماني، لا أدري كيف تمكّنوا من تجاوزي ونسياني على حدود سباتي؟! أم أنّي أنا من تجاوزتهم؟! لا أدري...!

حالما حسِبتُها قادمة بسرعة البرق في سيارة فارهة، أمرتُهم بإخلاء المكان إلّا منّي على كرسيّيَ المدولب، ستخطفني حتمًا، لكن بمفردي، وليس بوجود تلك الحشود، لأنها عارية، خجولة  إلّا مني، وثوبُها الوحيد معي، أبيضَ لم تمسسه أدرانُ الزمن، سألقيه عليها ليرتدَّ إليها العنفوان، سنتزوّج، ويتكوّر بطنها، وستنجبُ ابن الطين والماء، يرثُ منها عزيمةً يرمّم بها فجواتِ عجزي وقلّةَ حيلتي، ويرثُ مني أنَفَةً وقوّةً تحميه من ذلّ الاحتياج، وسيرثُ من كلَينا الخوفَ، نعم.. الخوفُ الذي تسلّل إلى كلِّ خليّة في أعضائنا النبيلة وغير النبيلة، عند أول خطيئة ارتكبناها، وعُوقبْنا عليها بالطّرد...

 إنها تقتربُ بسرعة كبيرة، سأتهيّأ لعناقها لأسترَ بدنَها بحركة تمثيلية، يااااا قسمتي العادلة، هيا حوااااائيييي...

أنا الآن مسجّى على سريرٍ مدَولبٍ أمام عربة الإسعاف، وقد استوى الموتُ في كِلا نصفَيَّ، متدثّرًا ببدلتي الكحلية وقميصيَ الأبيض وربطة عنقي الوردية، وأصواتٌ كثيرة تأتيني من عالم الضجيج، وعويلُ امرأة  أزاحتِ الناسَ من حولي، ووقفتْ تحملقُ بي، غريبةُ الملامح، لم أعرفْها، غطّتْ خطوطٌ حمراء ودوائر زرقاء مساحاتٍ كبيرة في وجهها، هل كل هذه الألوان أصباغ زينة؟  مهلًا، سأدقق أكثر، لا لا، سحجاتٌ نازفة وكدمات...! سمحت لبصري أن يبحث عن حوائي في باقي أنحائها، قبلَ عبوريَ الأخير، فنقل إلى دماغي المحتضِر صورةً  لامرأةٍ تمزّق ثوبُها، وتعرّى الكثيرُ من جسدِها، تصرخُ بهلعٍ:

-" سامحوني، اغفروا لي أرجوكم، كنتُ في عجلة من أمري، فررتُ من مكان سُجِنتُ فيه  عقدين من الزمن، هربتُ من زوجي، بعد أن أمعن كثيييييرًا هذه المرة بإيذائي، تملّصتُ من بين يديه، ضربتُه بتمثال أفروديت الذي كان يضربني به كلما لعبَ الجنونُ والسكرُ بعقله".

لم يكنِ الصوتُ صوتَ حوّائي! بل صوتُ امرأة بدأتْ تلسعُني بسِحاحِ دموعِها، تنشجُ مع كلماتٍ تفرّ منها مع تلاحقِ أنفاسِها الخائفة:

 -"لا أدري كيف فرّ الدمُ من رأسه، ولطالما فرّ من رأسي أنا، هل ارتكبتُ جريمة؟! أخشى أنني قد فعلت! يا ويلي..... ياااااا ويليييي.. وجدت مفاتيح سيارته أمامي، أخذتُها وغادرتُ البيت، قدتُ السيارة بسرعة جنونية، نعم أعترفُ بذلك، ولم أرَ شيئًا أمامي، لم أرَ الرجل، ولم أرَ كرسيه.. لم أرَه... صدّقوني!".

***

د. عبير خالدي حيي

.......................

من مجموعتي القصصية الجديدة

تحت الطبع

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم