صحيفة المثقف

تحليل نظرية أفلاطون حول أنتقال الناس في خط المقسم

محمد كريم ابراهيميعد فيلسوف أغريقي أفلاطون (428- 348 قبل الميلاد) واحد من أبرز الفلاسفة وحكماء الغرب قديماً في عصره حتى الوقت الحالي. فالأسم أكاديميا وهي تعني تعليم العالي اليوم، كانت أسماً لبيته والمكان الذي أنشأ مدرسة تعليمية فيه. ولد في مدينة أثينا الأغريقية ومات فيه، وما بين هذين الزمنين سافر أفلاطون إلى عدة مدن كبرى منها مصر وأيطاليا وصقلية وتعلم الكثير من عدة فلاسفة آخرون من مختلف الخلفيات. لم يتزوج ولم ينجب أطفالاً، وكان طوال فترة شبابه يصاحب دائماً معلمه سقراط وتعلم منه عديد من المعارف في مختلف العلوم والمجادلات، وقد كتب أغلب كتبه على لسان معلمه (أغلب كتبه يتكون من حوارات بين معلمه سقراط وبين أناس اخرين). في حين رجوعه إلى أثينا بعمر يناهز الأربعين، أسس أفلاطون مدرسته أكاديميا، وأصبح معلماً لواحد من كبار فلاسفة الغرب أرسطو الواجد علم الفيزياء والأحياء والمنطق.

وقد كان لأفلاطون تأثير كبير جداً على فلسفة الغربية وعلى تفكيرات الدينية- خصوصاً الديانة المسيحية- حيث قال عنه فيلسوف رياضياتي ألفريد وايتهيد (يمكن القول بشكل عام أن كل الفسلفة الأوربية موجودة اليوم هي عبارة عن ملاحظة هامشة لأفلاطون).

ألف أفلاطون عدة كتب مشهورة منها: الجمهورية (وهي عبارة عن حوارات مسرحية يحصل بين معلمه سقراط وبين الآخرين)، فيدو (حوارات عن خلودية الروح)، الندوة- سيمبوزسم- (حوارات مع شخصيات المشهورة في اثينا القديمة حول المائدة)، والأعتذار (يتكون من حوارات معلمه سقراط في دفاع عن نفسه عند محاكمته).

وهو معروف اليوم بوضع عدة نظريات في مختلف المجالات منها أشكال أفلاطونية خمسة الهندسية، و حب الأفلاطوني العفيف، ونظرية الهيئات المثالية (الذي نما منه الميافيزيقيا وهي دراسة ما وراء الطبيعة الفيزيائية)، وكذلك ما سنقوم بشرحه في هذا المقال هي نظرية خط المقسم.

يفيدنا نظرية خط المقسم في كثير من المواقف والأشياء في حياتنا اليومية كأفراد ويفيد أيضاً المجتمع الذي نحن جزء منه، وذلك في معرفة كيفية عمل دماغ وعقلية الأنسان في ضوء هذه العوالم (في العوالم الخيالية والحقيقية)، وكذلك يرشد الفرد إلى طريق الفاضل في العيش والتفكير وتصرف صحيح عندما يأتي الأمر للأستفادة بشكل معتدل من حياتنا ومعيشتنا. زيادة على ذلك، يدعمنا هذه نظرية في وضع خطة مناسبة للخروج وعدم التعلق بالأشياء مزيف والمصورة، وعدم أتباع المشاعر من دون المنطق، والنظرة صحيحة إلى الفنون والآداب.

يتكون خط المقسم من خط مستقيم أفقي يقطعه ثلاث خطوط عمودية بشكل غير متساوي فيصبح أربع خانات فيه من اليمين إلى اليسار. في اليسار الخط يوجد خانة عالم الحقيقة والمنطق أو ما يسمى بالعالم الوجود أو المثالية، فهي أعلى أماكن العلم والحقيقة التي يمكن ان يصل إليه الأنسان ويوجد في داخله كيانات أو كائنات مثالية غير قابلة لتغيير مثل الآلهة، أما في الخانة الثانية من اليسار يوجد أرقام وأشكال الهندسية وهي عالم الرياضيات فهي عالم منسوخ من عالم المثالي ويكون العالم الأشياء الطبيعة الموجودة في كوننا، والخانة الثالثة سماهُ أفلاطون عالم الأشياء والمعتقدات أو عالم الطبيعة الفيزيائية ويوجد فيه كل أشياء الذي نراه و نتحسس به أو نأخذ فقط فكرة عنه ونتصور هذه أشكال في عقولنا كشكل الكلب فنحن نعرف شكل كلب اينما ذهبنا ونقدر أن نفصله من باقي الاشياء لأن صورة كلب المعتقد مطبوع في عقولنا وهذا العالم هي نسخة من العالم الرياضيات كما قلنا، ونأتي أخيراً إلى خانة الرابعة في أقصى اليمين وهي خانة الخيال والأوهام، يتكون عالمه من لوحات وأشعار وأنعكاسات ونحوت فنية، عالم الخيال والاوهام هي نسخة من العالم طبيعة (عالم الاشياء والمعتقدات)، فهي عالم الظلال لا يوجد في الواقع الكون وإنما ينمو في داخل عقل الانسان و يرتبط بمشاعره بدلا من عقلانيته و منطقه، فيتهاوى الفرد و يمشي على هوى هذه كائنات الموجودة (أي اداة يستهدف المشاعر بدلاً من المنطق) في هذا العالم. اذا أستمر الشخص في رؤية هذه الوحوش مضادين للحقيقة (فهُم في الأساس انعكاس للعالم الحقيقة لأنهم يصورنه فالرسام يرسم صور من الطبيعة و الواقع، و مؤلف الروايات يستنبط القصص من الواقع او جزء من الواقع، وكذلك المنحت ينحت اشكال الانسان من حقيقة الترشيحية للفرد المصور وهكذا الفنون كلها هي تقليد للعالم الطبيعة عند أفلاطون)، إذاً فهو يؤدي إلى هلاك نفسه ولا يستطيع أن يفهم الواقع و يكون مع انسجام معه. لكن لا يوجد أمل من الهروب من هذا العالم كما أعتقد أفلاطون. كل البشر موجودين في عصره واناس الذين أتوا قبله و يولودون بعده سوف يقعون في هذا العالم لا محال. الطريقة الوحيدة للإرتقاء من هذا العالم السفلي هو فقط عن طريق التعلم و الخبرة،التعلم عن طبيعة الأشياء الموجودة في الحياة وأكتساب الخبرة في تعامل مع الظروف، والتعلم عن أسس الاشياء ورؤية مكونات الكون على شكل أنماط رياضياتية يتعرض عقل الفرد فيه للإشياء ما وراء الطبيعة (ميتافيزيقيا) والسمو للأعلى للوصول إلى عالم الحقيقة وعالم المثالية في الخانة أولى.

طرح أفلاطون فكرته بأن الناس ينتقلون بين هذه العوالم مع مضي حياتهم وتقدم في مسيرتهم سواء بشكل نشط آتي من قبل الفرد لسير نحو أفضل أو بشكل غير نشط آتي من الأحداث الجارية والتجارب التي يحدث للفرد من دون تدخله بنفسه. نلجأ الآن إلى تحليل رئيسي لطريقين أساسين التي يمكن للأنسان الأنتقال في هذه العوالم:

أولاً: أنتقال الناس من خط اليمين وهي عالم الخيالي والمظاهر إلى خط اليسار العالم المثالي والحقيقي. ظن أفلاطون هكذا تجري العملية بالفعل، فكلما أزداد معرفة وخبرة الفرد في الحياة، كلما تبين له عالم الخيال والزيف وتحول منه إلى العيش والتفكير في عالم المثالي والحقيقة. الأمر واضح، مثلاً يمكن للفرد بالأول أن يقلد بما في التلفاز والمسرحيات من حركات وكلمات وتصرفات، ويمكن للمرء الشعور بالأحاسيس وتفكير مثلهم عند مشاهدة هذه الصور ونسيان بزيفه ولكن مع مرور الزمن ومع أكتساب الخبرات والتجارب ومع نضج العقل والفهم يدرك عنده أن هذه المصورات هو من عالم الخيالي له صلة قليلة بالواقع المعيشي حتى لو كانت تنقل الأحاسيس نفسها التي يشعر بها المرء من واقع حياته. يأتي الدافع من خروج من العوالم الخيالية والمصورة بسبب عدم تطابق ما يعطيه العالم الخيالي مع ما يتحسسه الفرد من عالم الواقعي مثلاً عدم تطابق ما ينقله التلفاز من معلومات مع حقيقة الأحداث أو عدم تطابق ما يراه في أفلام والمسلسلات من حب وغرام في الزواج مع حقيقة الحياة الزوجية، وهذا لكونه يضر الفرد ويصبح غير قادرا على تصرف صحيح وأستجابة صحيحة لكون معلومات التي تلقاه خاطئة، ويجعله منفصلاً عن مشاكله ومسؤوليات حياته (الذي يجب أن يعالجه قبل أن يصدمه بمشاعر أسوء بكثير من مشاعر المتعة والشهوة الذي يعطيه عالم الخيال)،يبدأ الشخص بأخذ طريقاً أقرب وأقرب ليكون بأنسجام مع العالم الطبيعي بدلاً من الخيال بمرور الزمن. لكن الأمر لا يقتصر فقط على ان تكون بأنسجام مع الطبيعة وأن تبقى في عالم الأشياء والمعتقدات، فهي ليست نهاية المطاف في خط المقسم. يجب على الفرد أن يستمر في المشي نحو عوالم أعلى وأرقى وأنفع.

للأنتقال إلى عالم أعلى من عالم الطبيعة والأشياء نحو عالم الرياضيات، يجب على المرء (بالضبط كما خمنت يا عزيزي القارئ) أن يتعلم علم الرياضيات وما فيه من أرقام والهندسيات والعمليات حسابية ليتسنى للطالب معرفة على أقل حقيقة العالم الأشياء والطبيعة كنسخة من عالم الرياضيات. مثلاً رقم واحد هو كائن يعيش في عالم الرياضيات والأشياء التي نراه ونتحسسه في الطبيعة التي يتكون من شيء واحد هي نسخة غير كاملة من عالم الرياضيات، وكذلك الأمر لشكل الدائري فهو يعيش في عالم الرياضيات وليست له وجود مستقر في عالمنا الطبيعي الذي نراه، نعم، حتى لو أستطعت أن ترسم أمثل دائرة في تاريخ البشرية فهي ليست إلا نسخة رديئة من فكرة الدائرة، وهي تصوير لها وليست الدائرة نفسها. وقد كان أفلاطون نفسه معلماً للرياضيات وحرض جميع تلاميذه في قراءة والبدء بالعلوم الرياضيات. ويحكى أنه كان مكتوباً على باب مدرسته (لا يدخل هنا أحد يجهل علم الهندسة). ونعلم أيضاً أنه حاول تعليم الرياضيات لدايونايسيس الثاني ملك سيراكيوز في صقلية، أيطاليا، ولكنه فشل في ذلك لعدم أهتمام الملك بتعلم الرياضيات وإنما كانت غايته فقط كسب سمعة على أنه درس بيد فيلسوف شهير الأفلاطون.

العالم المثالية وعالم الهيئات هو نهاية العوالم في خط المقسم والمطاف الأخير. يصبح الشخص الوافد إليه عليماً في كل الأشياء (لإنه الأصل الذي ينسخ منه عوالم الأخرى) ويفقه المعنى الحقيقي للخير والوجود، لكن أفلاطون لم يفسر كيف ينتقل الفرد إلى ذلك العالم بل بين في كتاباته أن بعض الأشخاص يولودن وهم مدعمون برؤية هذا العالم المثالي قبل الولادة، ويتذكرون ذلك العالم المثالي والمعرفي عن طريق مشاهدة نسخ منه وتعرف عليهم في حياته. أي أن الشخص طبيعي "غير المحظوظ" برؤية ذلك العالم قبل الولادة لا يمكن أن يتأملوه أو يدركه، وكل مايقدر عليه الفرد من أكتساب المعارف والتجارب من الحياة هو الوصول الى عالم الرياضيات وتقليد عالم المثالي الى أقرب ما يمكن .

علم أفلاطون أنه حتى بعد أكتساب المرء معرفة الحقيقة وأدراكه ورؤيته للعالم الأعلى من الذي فيه، لا يجعله بالضرورة ينتقل إلى ذلك العالم. من ممكن أن يكون هناك عوائق ما بين الطرق ومتاهات الذي يعيد أو على أقل يمنع الفرد من الذهاب إلى عالم التالي. مثالها هي الفنون كما أتهمه أفلاطون. الفنون بأنواعه المصنعة قادر على أن يعيق المرء من الوصول إلى عوالم الآخرى ورؤية حقيقة الكون كما هي من خلال سحبه نحو مشاعره الداخلية بدل من منطقه ويغريه نحو عالم الظلال وأنعكاس (بالرجوع نحو يمين الخط) كما تحدثنا سابقاً.

أما الحكيم الذي فعلاً وصل إلى نهاية العالم المثالي عن طريق المعارف والتجارب والرياضيات يبقى له خط واحد ليفهمه وهي الخط المشترك التي تربط كل هذه العوالم مع بعضها. فيجب على الحكيم الذي علم حقيقة الكون أن يعلم أيضاً ما هي الربط مثلاً بين عالم الأنعكاس وعالم الطبيعة (يمكنه أن يفرق بين الجبل وبين صورة أنعكاس الجبل من الماء) أو ما بين عالم الطبيعة الفيزيائية وعالم الرياضيات (يستطيع أن يدرك الرابط المشترك بين أشكال الهندسية لمختلف الأشياء مثلاً شكل مثلث متساوي الأضلاع مكون من حجارة أو من الحديد فهي نفسها وينطبق عليها نفس قواعد مثلث متساوي الأضلاع بغض النظر عن مادة المكونة).

ولو كان أفلاطون محقاً حول أنتقال الناس وأكتسابهم للمعارف وتبصرهم للحقيقة مع مرور الزمن عليهم إلا أنه نسي نقطة جوهرية في نظريته وهي أن الأنتقالات بين هذه العوالم هي متناظرة تماماً ويمكن أن يحدث العكس بالضبط مثل ما يحدث السابق كما سنقوم بشرحه.

ثانياً سوف نقوم بتحليل وتدليل أنتقال الناس من خط اليسار وهو عالم المثالي والحقيقي إلى خط اليمين العالم الخيالي وعالم الظلال.  وهذا لم يدعمه أفلاطون ولكن يحسن ذكره لتنبيهنا بأن الأمر المعاكس يمكن أن يقع أيضاً ويظهر بالفعل في عصرنا الحاضر. نأخذ على سبيل المثال من التاريخ البشرية القديم النظر إلى اللوحات والمسرحيات وتنقيب مشاعر وتجارب وأفكار منه بدلاً من الواقع التي يجسده، مثلاً النظر إلى اللوحات التي تصور الطبيعة وما فيها من أشجار وأنهار وحيوانات بدلاً من الذهاب إلى الغابة أو الخروج إلى المناطق التي تتوفر به تلك المتطلبات. وكذلك يمكن أن نستمد مثال شرب الكحول وأخذ المخدرات وهي أيضاً تعتبر من عالم الخيال والظلال لأنها تعطي للمتعاطي الشعور المزيف بالسعادة والمتعة بدلاً من الشعور الحقيقي الآتي من تجربة معينة أو عمل معين. مثال التالي من قرننا الحالي هو زيادة مشاهدة الأفلام والمسلسلات والتواصل الاجتماعي الالكتروني وقراءة كتب الخيال العلمي وأستمداد معلومات منهم لتطبيقه على الواقع، فهي كلها مستمدة ليعكس لنا الصورة الحقيقة لطبيعة أو الموقف التي تجسده ولكنها بالطبع لا تزال مزيفة وليست حقيقية مثل الذي يراه ويتحسسه الشخص أمام عينيه مباشرتاً من الواقع. كل هذه الأمثلة  تمثل أنتقال الناس من عالم الأشياء (عالم الحقيقة والتجارب مستمدة من الطبيعة) إلى عالم الصور والخيال. نحن عندما نأتي إلى هذه الحياة نكون موسومين بالتجارب الحقيقية وسكان من أهالي عالم الواقع، فالطفل الذي يولد ويكبر (فلنقل لسنة أو أكثر)  يحب أن يتحسس الأشياء الحقيقية من حواسه فلا يفهم من الصور ولا من الأفلام والمسلسلات ولا من الكتب الخيال العلمي ولا من اللوحات الفنية ولا من التماثيل المجسدة، هي كلها أشياء تصورية لا قيمة له عندما يأتي الأمر إلى عالم الطفل. لكن مع مرور السنين ونمو الطفل سوف يقوم بأستيعاب ورغبة لذلك التصورات الفنية –بالطبع لا تعتبر ذلك تطوراً كمثل فهم الطفل لدين والعلوم الطبيعة مع كبر العمر وإنما فقط فهم لطريقة ترابط هذه التصاوير مع المشاعر واللذات- مثل الألعاب الاطفال وألعاب الفيديو التي تجسد العالم الواقعي ويحفز من خيال ومشاعر الايجابية للطفل. والحاصل هو أنتقالنا من عالم الحقيقة وتجارب الطبيعة إلى عالم الخيال والظلال. لكن لماذا يحدث هذه العملية ولماذا يجعلنا عالم الخيال نشعر باللذات وبالمشاعر الايجابية أكثر من عالم الحقيقة والتي يجعلنا نبقى في بقاع الخيال ونفضله على الحقيقة؟ تفسير واحد متاح في الوقت حاضر عندي هو تقليل من الجهد البشري الذي يهدف إليه عالم الخيال. نرى مثلا أن الشخص الذي يحب الطبيعة وينتفع من النظر إليه سوف يكون أمامه خياران، أما أن يذهب إلى طبيعة بنفسه ورصد تلك الأحداث والوقائع التي تتخلله، أو أن يقعد في بيته، في كرسيه المفضل ليشاهد مسلسلات بي بي سي عن الطبيعة. نعلم بالطبع أي خيار هو منطقي بالنسبة للفرد العادي. وكذلك الأمر بالنسبة لمتعاطي المخدرات، فالسعادة يمكن أن تكون على بُعد حبة أو أبرة بدلاً من السعادة الحقيقية صعبة المنال، بعض الأحيان حتى للأشخاص ذو سلطة والمال.

يحفر عالم المصور لنا طريقاً مختصراً لملئ مشاعرنا الأيجابية (مثل الشعور بالمتعة والسعادة والراحة والتسلية والحب) بدلاً من درب عالم الحقيقة ومثالية الذي يكون طريقه شاقاً بعض أحيان (أو على أقل شاق نسبياً، بالنسبة إلى عالم الخيال). لا يوجد عقبة في الوصول إلى تلك الرغبات المشاعرية بغض النظر عن الطريق الذي أخذته (الشعور بالسعادة هي نفسها وحقيقية في دماغنا سواء كانت مصدره من الواقع أو من مشاهدة المصورات مثل التلفاز)، ولكن مشكلة تظهر في عقلانية ومنطقية التفكير بالذهون، في أكتساب تجارب منسجمة مع الطبيعة، وفي معرفة العلم الحقيقي عن البشرية والطبيعة (من الجدير بالذكر أن عالم الحقيقة لا تنكر رغبات المشاعرية للأنسان فهي تعطي حقه من هذه المشاعر بالانسجام مع طبيعة الأمور وآنية الوضع). تفشل عالم الخيال والمصور في أعطاء هذه المتطلبات، لذلك عند أختيار المرء عالم الخيال على عالم الحقيقة، فأنه يختار رغبات المشاعرية الأيجابية على متطلبات ورغبات المنطقية والمعرفية.

هذا أمر خطير بحد ذاته، لأن هؤلاء الأشخاص البدائيون قد رفضوا العلم وبدأو بالجريان مع أتجاه مشاعرهم بدلاً من منطقية عقولهم، فهم يبحثون عما يؤثر أكثر على مشاعرهم سواء كانت هذه الأشياء والمواقف حقيقية أم مزيفة. إذا كان الخيال أو الكذب هو ما يحفز فيهم المشاعر الأيجابية أكثر من الحقيقة الموضع والصدق، فهم يتلمسون بذلك الكذبة بدل الحقيقة. لا يفضلون أي كذب على الحقيقة وإنما يفضلون الكذب التي تنقل مشاعر ممتعة أكبر من الحقيقة. تجدهم أحياناً يرفضون الواقع الأمر الذي هم فيه ويتلمسون بالمؤمرات الخالية ونظريات الباطلة وعلوم الخيالية.

ينقل لنا خط المقسم لأفلاطون عبرة قديمة وحكمة أقدم نرى عاقبة عدم أتباعه في يومنا الحاضر; كثرة تكوين الفنون مثل الموسيقى والأفلام والمسلسلات، وتَعود الملايين عليه لأشباع مشاعرهم، وفشلهم في أتصال مع ما هم عليه ومع واقع بيئتهم، وكذلك تجسيد وتقليد تلك التفاهات في تصرفاتهم وسلوكياتهم بشكل غير طبيعي. وأستخدام الكحول والمخدرات بشكل واسع على نطاق كرة الأرضية للهروب من عالم الحقيقة إلى عالم الظلال، في السعي نحو العلوم البشرية والعلوم الطبيعية بنية كسب المال أو الشهرة الأجتماعية، وهو كله صادر من المشاعر الأيجابية للفرد وليس من رؤية النافعة من هذه العلوم والمنطق من الحصول على حكم منه وما ينقله من حقائق (وهذا بالتأكيد له تأثير عظيم في نتيجة تلك العلوم، فقط تخيل كمية ملفات المزيفة والعلوم الفاسدة التي ظهرت في عصرنا اليوم، والتي تشوه سمعة الحقيقية للعلم، وكذلك أن التطور العلوم في هذه الحقبة قائمة على جوائز نقدية كجائزة نوبل وأعترافات أجتماعية للعلماء المكتشفين بدلاً من قيامه على سعي حقيقي نقي صادر عن فضول والرغبة في معرفة أسرار الكون أو الوصول إلى عوالم أخرى).

نرى في جزء الثاني أن أفلاطون قد أخطئ قليلاً حول أنتقال الناس في خط المقسم، فيمكن للناس أن ينتقلوا الى عكس أتجاه أيضاً، الأمر يعتمد على طبيعة المجتمع ومؤثرات الأجتماعية. إذا كان الفرد يعيش وحيداً تاركاً المجتمع، بالطبع يمكن القول بأنه سوف ينتقل من عالم الخيال والزيف -لا يبقى فيه طويلاً- إلى عالم الحقيقة، وسوف يكون بأنسجام مع واقعه وآنية زمنه. لكن أغلبنا يعيش داخل مجتمعات مؤثرة عليه وهذه المجتمعات تخلق أساطير وقصص وأداب وفنون تؤثر مشاعرياً على الفرد ويغيره نحو عالم الخيال ملتهياً عن الواقع وزمان عصره.

خلاصة النص:

عرض أفلاطون نظريته حول أنتقال الناس من يمين خط المقسم وهو عالم الخيال، إلى يسار وهو عالم الحقيقة. وعلمنا من خلال بعض أمثلة كيف فكر أفلاطون بأنتقال الناس نحو عوالم أفضل مع مرور الزمن. بتحليل هذه الأعتقاد، رأينا كيف أن التجارب والحوافز الفردية يحفز الفرد للأنتقال إلى عالم أفضل. رأينا أيضاً كيفية الأنتقال وترابط بين هذه العوالم. ثم بدأت بالتحليل عكس ما أعتقده أفلاطون وهي أنتقال الناس من اليسار خط المقسم إلى اليمين نحو الأسوء، وأتضح فيه كيف أن الخط المقسم متناظر من جهتين وكيف يمكن للفرد والمجتمع أن ينتقلوا من الأفضل إلى الأسوء، ولعل ذلك أعطانا معنى وفهم أكثر لتطابقه مع ما نراه في عصرنا اليوم ومع ما أصبحنا عليه بمرور التاريخ.

ساعدنا تحليل نظرية أفلاطون في شرح لماذا وكيف ننتقل من العالم الواقع إلى العالم الخيال وبالعكس، ولماذا نفضل الكذبة على الحقيقة، وما هي أفضل طريقة لعمل توازن بين أكتساب المشاعر وأقتناء المعارف.

يحسن الإشارة بالأخير أن الأنتقالات في هذه العوالم تكون بشكل تسلسلي ولا يمكن القفز بين هذه العوالم أبداً، فالشخص موجود في عالم خيالي لا يمكنه أدراك عالم الرياضيات أبداً، وحتى لو حاول ذلك، فأنه سيفشل منطقياً لأنه لا يمكنه أستمداد المعلومات الذي يريد تحليله من عالم الصحيح (يكون مصدر معلوماته من عالم الخيال بدلا من عالم الطبيعة).

 

محمد كريم إبراهيم

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم