صحيفة المثقف

قراءة في المجموعة القصصية: نزهة في شوارع مهجورة

جمعة عبد اللهالكاتب أحمد خلف

لابد ان نقيم عطاءات البدايات رواد القصة والرواية العراقية، الذين حملوا راية التحديث والتطوير في اساليب السرد وتقنياته الفنية الحديثة. ومنهم بامتياز المبدع الكبير أحمد خلف. من اهم الاسماء البارزة التي تركت بصماتها الابداعية الواضحة في الابداعي السردي والخروج من عباءة التقليدية القديمة نحو الحداثة . وما زال هذا المبدع في عنفوان عطائه في قمة الرواية والقصة الحديثة. في اسلوبيته المتميزة بالخصائص الابداعية، وصهر المدارس والاتجاهات في عالم السرد في بوتقة واحدة، مثلاً هذه المجموعة القصصية، تمزج السريالية بالواقعية، تمزج الميتاسردية (النص وما وراء النص اي خلفية النص) بالتداعي الحر، اي يترك هواجس الوجدان النفسية او السايكولوجية، تطلق عنانها في الحوار الداخلي والخارجي، وفرض وجوده في الوسط الثقافي والنقدي بالاشادة الابداعية، بما يمتلك من مواصفات في عالم السرد، في القيمة الجمالية الفنية، والقيمة الانسانية في مشاعرها المرهفة، منذ قصته الشهيرة (خوذة لرجل نصف ميت) التي نشرها نهاية الستينيات القرن الماضي، واثار الاهتمام النقدي بولادة مبدع حقيقي في الابداع السردي، في اساليب تقنياته وتكتيكاته الحديثة، في بعدها الانساني، في ابراز المعاناة والمحنة الانسانية في اساليب متعددة في السرد الابداعي وحبكته المتمكنة، في التوغل في اعماق المحنة الانسانية، وما تتركه من بثور في الظلم والقهر الحياتي، التي تنزف في الخيبة واليأس والاحباط والانكسار. وفي الوقت ذاته تخلق حالة التمرد والرفض في الازمة النفسية. لذلك نجد في هذه المجموعة القصصية الاولى للمبدع الكبير احمد خلف. كشفت المعاناة الاجمماعية والسياسية والنفسية وحتى الجنسية، مما تخلق في دلالاتها الاحباط والهزيمة الحياتية والاجتماعية. انها تغوص في الواقع الاجتماعي ومحنته، وخاصة الاجواء المشحونة بالاحباط والهزيم والانكسار النفسي، بعد هزيمة الخامس من حزيران عام 1967، والقصص انتجت بعد الهزيمة مباشرة، وخاصة ان هناك ثلاث قصص من مجموع ثماني قصص من المجموعة، تتناول آثار الهزيمة في اجوائها السلبية وانعكاساتها النفسية. ولكن حالة الاحباط الشديد تخلق الرفض والتمرد. لان اجواء الحروب تعكس بتشويهاتها في الروح والبدن. وتجعل الحياة في حالة اختناق ومطاردة ومحاصرة، في آثارها النفسية المدمرة. على الواقع الاجتماعي والفردي الذاتي، مما تخلق المحنة الحياتية والنفسية. لاشك ان المبدع يملك شجاعة في الطرح عن المعاناة الذاتية والاجتماعية العامة. في عملية ابداعية متناسقة في الطرح السايكولوجية النفسية، والميثولوجية الشعبية من الموروثات التي تخلق آثارها على الواقع الاجتماعي، في عملية ربط وامتزاج، لتعطي اجواء ومناخات البعد الانساني المتولد والخلاق. ضمن الظروف المشحونة بالانهزام والانكسار من آثار هزيمة حزيران. وهناك ثلاث قصص مشحونة في هذه الطقوس المحبطة، ونأخذ قصة واحدة من هذه القصص الثلاث، التي هي في انعكاساتها السلبية والنفسة على الفرد والمجتمع، وهي: 1 - قصة خوذة لرجل نصف ميت. 2 - قصة المغارة. 3 - قصة هجرة في وقت غير مناسب.

 1 - قصة خوذة لرجل نصف ميت:

شاب في الخامسة والعشرين يجند ويزج في الحرب، ويترك أمه وزوجته  التي هي لم تتجاوز عشرون عاماً، كان خلال ايام الحرب (الفلسطينية / الاسرائيلية) يفكر في مشكلته النفسية والاجتماعية، ويرجع من الحرب مقعد مشوه الوجه من حروق قنابل النابالم، ينتابه الرعب الحياتي، بأنه لا يصلح للحياة والبقاء وهو نصف ميت، ولم يتمكن على التغلب على كوابيس الحرب ومعاناتهه النفسية، وحالته النفسية بالجزع والتذمر، وانه متزوج من فتاة صغيرة لايستطيع ان يؤدي دور الزوج بشكل كامل. يمتلكه الجزع الحياتي من الاحباط الذي خلقته الحرب، بأنها اخرجته معطل تماما. لذلك تواجهه زوجته الصغيرة بالحقيقية المرة، بأنه فقد دور الزوج الذي كانت تنتظره بشغف وقوة، وانها غير مستعدة لهذه الحياة الجديدة، وافضل حل هو الطلاق وتوجه كلامها بتذمر المرير (- أني في عشرين من عمري وكنت عارية تماماً

- وتريدني ان ابقى زوجة

- ركضت وراءك بقوة رجل مدفعي

- أني لا اطيق ذلك أبداً

- وصحت بك أنت طالق. طالق. طالق.) ص19.

هذا الجزع الحياتي الذي جعله يتمرد على الحياة ويطلق ثلاث رصاصات على الساعة الجدارية، الذي يزعجه طنين رقاصها الذي يتحرك يميناً وشمالاً، لتصيب هذه الرصاصات الثلاث زجاج الساعة، ليوقف الزمن الذي يرفضه، لانه ليس بحاجة اليه، يعلن اللعنة على الزمن الذي شوه حياته ووجهه. وانتهى الى نصف ميت، ليعلن احتجاجه على الحروب التي تشوه الناس وترميهم الى المزابل .

2 - قصة المحطة:

اعتاد (سلمان) منذ مدة ليس بالقصيرة في الذهاب الى محطات القطار، ويظل هناك حتى اخر الليل، يتابع حركة القطارات والناس الداخلة والخارجة. كأنه ينتظر شخصاً ما، لا يأتي ابداً، او ينتظر غودوا الذي لا يأتي بداً، لكن هواجس الروح تنتظر، ليعود متعب مثقل بالهموم والتعب في اخر الليل دون جدوى، يعاني من ازمة نفسية وحياتية يفرغها في انتظار غودو الذي لا يجيء، في الجلوس ساعات طويلة في محطات القطار، ليعود في الليل وسط الشوارع المهجورة من الناس والحركة، وسط الظلام الدامس يهزه القلق الحياتي من الوحدة والوحشة، بأن غودو لن يأتي. ولكن تطلع وسط الظلام شاهد امرأة تأتي زغرد قلبه بالفرح بأن غودو الذي ينتظره جاء اخيراً. هب واقفاً وبحلق بها، كأنه يعرفها من زمن بعيد، قد يكون منذ ولادتها، وتبعها لكنها ضاعت في الظلام خسرها تماماً، لكن خرج عليه شاب مفتول العضلات، اندفع اليه بعنف ويمسك بخناقه (ماذا تريد منها ؟ شاهدتك تتبعها) ص64، حاول (سلمان) ان يتخلص منه، لكنه عالجه بضربات قوية اوقعته على الارض يترنح من الضربات الموجعة. جاء حارس المحطة وساعده على على النهوض، وسار وسط الظلام يندب حظه العاثر، ويندب غودو الذي يخلق له ازمة ومشكلة حياتية.

3 - قصة (نزهة في شهوارع مهجورة):

تمثل روح وتداعيات التشتت الحياة في الضياع، في حياة تحرث في المجهول والتخبط وعدم الثبات، سوى انها تقود الى الآهات والتيه والضياع. جنازة محمولة على اكتاف  مجموعة من الناس، في تشيعها الى القبر . وفي مراسيم التشييع، تظهر فتاة. مما جعل مجموعة المشيعين يتركون الجنازة الى المجهول، والتطلع بالاغراء والغواية الى المرأة القادمة. ولكنها تحاول ان تميل الى احدهم الذي يكشف معاناته الحياتية وتتعاطف معه وتميل اليه بالشفقة العاطفية، مما اثار حنق الاخرين عليهما بعداوة وكره. ويحاولون الايقاع بالمرأة والشاب الذي تعاطفت معه، وينسون مسألة الجنازة والتشييع، الى تقرير مصير الشاب والشابة ماذا يحكمون عليهما (صوت مذعور يعوي. ماذا تريدنا ان نفعل به ؟

صوت (2) يقتل أم يسجن ؟

صوت (3) نحرق جثمانهما معاً) ص 77.

احاطت جمهرة من المشعين بالشاب، ودفعوه الى المقبرة بعنف وانهالت الضربات عليه من كل مكان حتى كسروا عظامه، وسحبه نحو سور المقبرة وعلقوه على حبل مطاطي. وجعلوه يتأرجح في الهواء، كما صرخ احدهم بأن هذا الحكم بأسم العدالة، وختفوا في الشوارع المهجورة، وبعد ذلك تأتي فنتازية بوليس السلطات، بأن تعتبر المقتول هو القاتل، وتفتش في جيوبه فلم تعثر على شيء يدلل على هوية الشخص، مما يعلن البوليس بأن القاتل مجهول الهوية. هذا العبث الحياتي، في الفوضى والتيه وغياب المعايير.

كما ان المجموعة احتوت على خمس قصص قصيرة، نأخذ منها قصة (قرارات جديدة) :

الحدث السردي يعتمد على التناص على حكاية او مسرحية (هاملت) ولكن بشكل مقلوب. مخالف بما سطره المؤلف. ليس كما هو المتعارف عليه، هاملت يقتل ابيه ويتزوج من أمه. وانما هاملت يرغب بالزواج من طبقة اخرى غير طبقة الامراء، من طبقة فقيرة. ان تكون خادمته هي الاميرة، وهو الخادم. بهذا الشكل يتمرد على المؤلف. منصات الرمزية الدالة من القصة القصيرة، بأن القدر والموروثات يمكن رفضها والتمرد عليها. حتى لا يقع في محنة حياتية، ليس هناك شيء ثابت عير متغير في المعادلة الحياتية. لذلك يحتج المؤلف على المتغيرات الواقع (ان المرأة التي تبحث عنها لا تخدمنا ياعزيزي هاملت...

أية أمرأة كانت اوافق عليها شرط إلا تكون أميرة

 - هل تريد الزواج من فتاة فقيرة ؟؟

- هذا ما أريده بالضبط ألا تجدها ملائمة لي أكثر من الاميرات

ضحك المؤلف : الاميرات لهن تقاليدهن في الطاعة

- سوف اتزوج من خدامتي) ص141.

 

× الكتاب : المجموعة القصصية : نزهة في شوارع مهجورة

× المؤلف : أحمد خلف

× اصدار : عام 1974

 

جمعة عبدالله

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم