صحيفة المثقف

انا الآخر

ناجي ظاهرنصف الغرفة يغرق في الظلام.. الضوء في نصفها الاخر شحيح.. دخان السجائر ينتشر في كل مكان، وسط الغرفة طاولة وحولها عدد من الرجال. وجوه الجميع تغرق في بحور التساؤل والتوتر.. بالطبع.. مع تفاوت بالدرجات، هناك من ارتاح وهناك من تعب، لكن حتى من ارتاحت اساريره، لم يخل وجهُه من لمحة توتر. كلهم يجلسون الا انا، الرجل الاخر، اقف وارسل النظرات اليهم. دخلت الغرفة قبل قليل، وقررت ان اتخذ موقف المراقب، اراقب ما يحدث هناك باستمتاع مَن يرى ويراقب ويختزن ذخرًا لساعة آتية لا ريب فيها.

الجالسون حول الطاولة، ينقسمون رويدا رويدا، الى مجموعتين يقف في رأس كل منهما شخص نصّب نفسه رئيسا لهذا السبب او ذاك.. او هم نصبوه، اللعبة، لعبة الريمه، تبدا باردةً ثم ما تلبث ان تسخن.. بعدها تأخذ سخونتها في التصاعد. خلال اللعب اسجل عددًا من الملاحظات: رئيس المجموعة الاولى، يبدأ كما هو واضح.. بالتراخي لرئيس المجموعة الثانية، حتى يصل الشوط الأخير المُحدّد في اللعبة، عندها يبدأ بالهجوم الكلامي.. انت بتعرفش تلعب إسه بعلمك اللعب على اصوله. سجل الهزيمة رايحة تكون من نصيبك. انا بعرف كيف العب. وينتهي هذا الشوط بتغلّب المجموعة الاولى على الثانية، بعدها تتداعى هذه المجموعة شوطا شوطا، حتى تعلن استسلامها للغلب.

بعد قليل يقترح رئيس المجموعة الاولى ان يتم اللعب على الملان، ويعود الى كرّته الاولى، يترخّى لمن قُبالته من اعضاء المجموعة الثانية، فيحرزون الفوز تلو الفوز، الى ان يصلوا الى حافة الفوز الأخير، عندها يبدأ الهجوم النفسي، وتبدأ المعركة بالتحول من غالب إلى مغلوب، العَرق يظهر على وجوه المجموعة الثانية مثل قطرات من نار، فيما يبادر رئيس المجموعة الاولى بجمع الانفال والغنائم.

في الدق او الصراع الثالث، يترخّى اعضاء الفرقة الاولى، منذ البداية مرروا بالوسط فالنهاية، وتكون الهزيمة من نصيبهم، لكن باختيارهم. في الدق الرابع أغرس عيني بعيني رئيس المجموعة الاولى، فيرسل تجاهي ابتسامة ذات معنى، اشعر انه يعرفني، بالضبط كما عرفته خلال مراقبتي لعبه. هل يعرف احدنا الآخر؟ اعتقد اننا سبق والتقينا. أين.. لا اتذكر. لكني اشعر انني اعرفك. لا اعرف.. يخلق من الشبه اربعين. انا متأكد انني اعرفك. هل سبق وتواجهنا في لعبة ريمه؟ لا اعتقد. هل تود ان تجرّب؟ هذا ما اردته. لكن.. ضمن مواجهة فردية، وهو كذلك.

وتبدأ اللعبة باردة.. لا حياة فيها، ارتكب خلالها الحماقة تلو الحماقة، فيأخذ المحيطون بالضحك. علّمه اللعب يا معلم. علمه اللعب. أين تعلمت اللعب يا شاب؟ دعه يا أخي.. يبدو انه مبتدئ لمّا ينبت له ريش، اخسر اللعبة. يقترح منافسي رئيس المجموعة الأولى أن نضرب بالمليان، اوافق شريطة ان ينتقل الغالب الى لاعب آخر، فآخر، يضحك منافسي هذا اللي بدي اياه.. يللا خلينا نشوف شطارتك.

يتخذ كل منا مجلسه قُبالة الآخر متحفزًا مثل أسد ضمن كسب الفوز في الصراع، نبدأ نحن الاثنين مسترخيين، عندها اشعر انني يفترض ان انتقل الى استراتيجية اخرى، لأنازله بطريقة اخرى، اذا شدّ أُرخي، واذا ارخى اشد، بهذه الطريقة اعتقد ان المعارك يجب ان تدار، وهكذا يمكنني ان أخربط حساباته كلها، أنظر إلى عينيه اقرأ فيهما حيرة ما، أهاجمه، أنت لا تعرف مع مَن تلعب ومَن تواجه. أضعه في موقع المهزوم قسرًا وغصبًا عنه، ومن تكون.. انا سيد هذا المكان وقائد سفينته. كان هذا زمان، اما الان فإنني انا الاسد الآتي من صحراء العرب سأتولى دفة قيادة السفينة. لن يكون هذا.. أغرس عيني في عينيه.. بل سيكون.

بين رخي وشد، يعود الفريقان الاول خصمي والثاني خصمه، إلى متابعة اللعب بنوع غريب وغير مألوف من التوتر. في البداية يؤيد كل منهما أحدنا، الأول يؤيد رئيسه ويصفّق له، والثاني يؤيدني ويتشجع لي. اما انا فإنني الجأ طوال الوقت الى التسويف والمماطلة، وما ان تهدأ الامور حتى ابادر إلى اشعال فتيلها مجددا.

اللعبة تتواصل بيننا نحن الاثنين، لا احد يأخذ فيها حقا او باطلا، على هذا النحو نبقى حتى منتصف الليل، شباب هل نواصل؟ بالطبع سنواصل.. اللعبة تتواصل حتى منتصف اليوم التالي، اهتف به هل تريد ان تستسلم؟ يغرس عينيه في عيني، وهل يستسلم من هو مثلي. مَن هو مثلك يستسلم فقط.

مع مضي الوقت اؤكد للجميع.. دون أن اوضح.. أنني انا المنتصر، اوحي اليهم أعبئهم بهذا الاحساس، أشعر انهم باتوا ميالين لي، فانا لا اصرخ ولا اعرّبد، ولا اتحفز للهجوم وبعده الشجار، وانما انا احكّم لغة العقل، واواصل اللعبة بحكمة من راقب الحياة والف خدعها جيدًا، بل مَن قرّر أن ينتصر فيها. في منتصف الليلة التالية أوجّه الى خصمي ضربتي القاضية، فينقلب الموقف. أرى الوجوه تتهلل مسلّمة بتفوقي.. هل يريد احدكم ان يواصل؟ ترتفع الاصوات.. كفانا اليوم، واشعر ان طرفّي اللعب قد قررا الاستسلام لي... لقد اصبحت الزعيم

يدب الهرجُ في الغرفة مجددًا. يدخل شاب جديد إلى الغرفة، يقف حيث وقفت، ويشرع بمراقبة ما يحدث بيننا.. وسط عتمة الغرفة وضوئها الشحيح وفي بحر دخان سجائرها المشتعلة. يدق قلبي.. ارجو الا يكون.. أنا الآخر.

 

قصة: ناجي ظاهر

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم