صحيفة المثقف

في وجه الريح

بكر السباتينأربع قصص قصيرة

(1) موظف عند عزرائيل

تقدم شاب ثلاثيني ملتحٍي من سائق الحافلة وسأله بلطف شديد لو يستبدل فيروزيات الصباح بمحتوى الشريط الذي معه.. انتبه الركاب للأمر متذمرين، بعدما استجاب السائق إليه على مضض..وقد تلاقت عيونهم خلال المرآة الأمامية.. أخرج السائق القرص المدمج من المكان المخصص له ثم ألقمه بالذي يخص الشاب.. إلى هنا والوضع طبيعي وخاصة أن المقدمة كانت توحي بموعظة دينية هجعت لها بعض الأنفس في الحافلة وهي تهبط الطريق الملتوي إلى عمق الوادي، ومررتها الأخرى دون احتجاج ومال البعض إلى التغافي كأنها رحلة لا تنتهي إلى المجهول. ولكن ما أن بدأ الشيخ مسترسلاً في وعظه المعزز بالشواهد عن عذاب القبر.. يتلوا قصة تلو الأخرى.. تململ الركاب مستعيذين بالله من الموت!! لكنه ما أن راح يجهش بالبكاء والعويل وكانه فقد عزيزاً عليه.. انتفض كل من في الحافلة.. وتعالت الأصوات.. فهذا يقول:

" يا فتاح يا عليم..هل هذا وقته!".

وآخر:

" أعد على مسامعنا الفيروزيات! هذا الشاب أقحم علينا مادة لا يشتهيها الناس وقت الصباح!".

وردد آخر:

" والله توقعت مٍنْ هذا الشيخ ذلك!!".

إلى أن صاح السائق في الجميع:

" طنيب على ولاياكم تسكتوا".

فابتسم الشاب الملتحي بأدب جم قائلاً:

" أثلجت صدري يا طيب".

إلا أن السائق سحب الشريط المدمج الذي يخص الشاب وطوح به عبر النافذة صارخا:

" حل عنا خنقتني.. اجلس مكانك".

جلس الشاب وراح يستغفر الله ويلعن الشيطان طوال الرحلة والسائق يهز رأسه كاتماً غضبه.. وخاصة أن الرحلة إلى إربد في بدايتها.. فما أن انتهت حتى تراضى الشيخ مع الركاب وغادروا الباص متسامحين.. إلا السائق الذي بقي على حاله متمتماً:

" الموت يا شيخ!! هي ناقصة"!

وفجأة انزلقت الحافلة باتجاه عمود الهاتف الخشبي.. لكن السائق تفادى الحادث ببراعة.. فغمر هدير محرك الحافلة الأجواء التي انتشر فيها دخان العادم الأسود.. فهب بعض الركاب بدافع الشهامة إلى الباص الذي ركنه السائق جانباً؛ كي يطمئنوا عليه. فحمد الله. ولكن الشاب عاد يذكر السائق بالموت منبها:

" ألم اقل لك بأن الموت يباغتنا في كل حين ما يستوجب الاستغفار لا التلهي بأغاني الساقطات".

فاستشاط السائق غاضباُ والحروف تمر في حلقه كالجمر فتخرج من فمه وعيونه كالبركان:

"عكرت مزاجي خيبك الله"

ثم حمل السائق المفتاح وتأهب لإلقائه على الشاب:

"أغرب عن وجهي يا خفاش.. اصبحنا واصبح الملك لله.. شو حضرتك موظف عند عزرائيل"!!

**

(2) السلحفاة واليرغول

وقف الراعي ذات صباح على صخرة أعلى الجرف، وراح يتمطى متأملاً الشمس وهي تعلو فوق الأفق!! وأخرج اليرغول من جعبته واستلقى عل العشب.. ثم جعلت أصابعه تتبادل سد ثقوبه بتناغم مع بوحه الشادي.. فتطرب الخراف وتلهوا سعيدة بالغناء.. ويسير الراعي بالقطيع على محاذاة الطريق المتعرج الطويل.. فيبدو لعين الصقر كأنه سلحفاة تزحف كالزمن البليد..

وفي نفس اللحظة!

كان عزمي بكل عنفوان الشباب، يركض إلى سيارته الفارهة كأنه أرنب في مضمار السباق.. شغلها وضغط على دواسة البنزين، مطلقاً لها العنان كأنها شيطان غير آبه بمهالك الطريق.. تعمد قطع إشارات المرور، فعقرب الدقائق في ساعة يده كاد يفجر الرقم ثمانية وهو يثبته ببلادة!! سيصل متأخراً لو حصل ذلك!! داس في طريقه على قطة كانت تسعى لرزقها! فتمتم الشيطان في أعماقه:

" لا بأس.. هذه أرزق عزرائيل"!

استدار بسيارته نحو مدخل المرآب!! سارع لركنها في المكان المخصص لها! أغلقها ثم توجه إلى المصعد وجبينه يتصبب عرقاً.. ضغط على الرقم عشرة!! فما أن أضاء الرقم المنشود حتى تأفف من ضيق الوقت فاستلحق ما تبقى منه راكضاً! وزملاؤه يصفعونه بملاحظاتهم المؤنبة:

" تأخرت كثيراً"..

" المدير وبخ الجميع لأجلك"..

" الأفضل أن تأخذ إجازة فالمدير يتوعدك شراً"..

ماذا يفعل عزمي في هذه اللحظات العصيبة!؟ قلبه يتهالك نابضاً.. أعصابه مشدودة!! ضغطه يعلو حتى أوشكت شرايينه على الانفجار.. الأرض تميد به!! الجدران تدور.. السقف يكاد يتهاوى.. الأصوات تختلط عليه.. كل شيء ينكتم فجأة! كأنه صمت القبور؛ ليجد نفسه مستلقٍ على سرير الشفاء في عيادة الشركة.. ومن حوله الموظفون يطمئنون عليه.. ويضغط البعض على يده تباعاً .. وتمتم أحدهم في أذن المريض معاتباً:

" الدنيا مش طايرة بدها صبر"..

ثم ردد الجميع في تتابع غير منتظم:

" الحمد لله على سلامتك"..

في هذه الأثناء غشاه صوت اليرغول عبر النافذة وسط ضجيج أحدثه قطيع الأغنام حول حاوية النفايات.. تذكر الراعي قصة السلحفاة والأرنب المجنون الذي قادته رعونته إلى الموت.. أعجبه صوت اليرغول فتغافى كسلحفاة ما لبثت تمضي في طريقها إلى الشفاء.

***

(3) (عذرك مقبول)

المتعوسُ بعد أن أغلق علي نفسه بابَ سيارته الفارهة وهمَّ على الإنطلاق بها عبر الطرقات غير المعبدة جيداً؛ فتح النافذة، وبصق على الرصيف باستهتار. وكأنه يمتلك الأرض وما عليها.. لم تعجبه نظراتي التي أرسلتها إليه شزراً، فرد عليها بنظرات متوقدة بالتحدي والإدانة، ثم رماني بسؤاله متحديا:

" ألم أعجبك حتى ترمقني بنظراتك المريبة هذه!".

طويت الشر مشيحاً بوجهي عنه ؛ فكلانا يتقصد باب رزقه ولا نريد تعكراً ليومنا هذا. وتساءلت مندهشاً:

"ربما شتمني هذا المعوق بلسانه المزفر حينما هز رأسه متمتماً بصوت مكتوم..! الجبان الرعديد".

وكأنني أحارب طواحين الهواء إذْ تظاهرت لنفسي بأنني سألحق بالسيارة كيفما اتفق!! كي ألقن ذلك الأرعن درساً لا ينساه في الأخلاق؛ سوى أنها انطلقت كالصاروخ ليبتلعها شارع فرعي يؤدي إلى مبنى وزارة الداخلية.

" إذاً!! ليس باليد حيلة؛ فقد اختفى الجبان".

فبصقت على أثره عفوياً بملئ فمي حتى تطاير الرذاذ على شجرة كنت أستند بظهري عليها فيما أصاب شيء منها جانب الرصيف؛ لأفاجأ أيضاً بمن كان يرمقني بنظرات استهجان ذكرتني بموقفي مع السائق قبل قليل .. فابتسمت في وجهه معتذراً وقد داهمني شعورٌ بالخجل.. فتجاوب الرجل مع موقفي بابتسامة عريضة. كأنه يهمس لي :

" أمضِ في طريقك فلا عليك.. عذرك مقبول".

**

(4) "في وجه الريح"

تعصفُ برأسِك المحمولُ على جسدِك المتعبُ أسئلةٌ تبدأ بمن أنت !! يدور الرأسُ حولَ علامةِ التعجبِ المغروسةِ في نخاعِكَ الشوكيّ؛ تتوترُ رسائلُ الحواسِّ وهي في طريقها إلى رأسِك المعصوفُ بزوابعٍ من الأجوبةِ المبهمة.. ستقف أمامَ نفسِك يا هذا!! كأنك لا شئ.. تعتصرُ الحيرةُ ملامحَ وجهِك المدفونُ بين تجاعيدِ الهرم وخطوطِ الزمن البليد..كأنها شبكةُ صيدٍ تموجُ مع الرياحِ في يدِ المجهول.. تبحثُ عنكَ في زحامِ الأسئلة .. تنعقد بين عينيك المنغلقتين في تقطيبةٍ لا ينبعث منها جواب.. أحلامُك نضبتْ في وجهِ الريح.. سماؤك تستبيحُها الغربانُ..صوتك يُرعِدُ في سماءٍ دون غمام.. تختبئ وراءَ تقطيبةٍ لا ينبعث منها جواب.. تنعصر بين عينيك وقد أثقلتَ بجسدك المأسور شبكةَ الصياد.. وروحك يطاردها الخوف في غياهب الفناء.. فهل تلتقيها فتخرج حياً كالعاصفة من فم الجواب!؟تترنح الخيبة بين عينيك كأنها طفل غرير يبحث عن أمه في مجاهيل الخوف.. وقد أثقلتَ بجسدك المأسور شبكةَ الصياد.. وروحك يطاردها الخوف في غياهب الفناء.. فهل تلتقيها فتخرج حياً كالعاصفة من فم الجواب!؟ تبتسم في وجه زهرة النور فيشتعل النهار.

***

بقلم بكر السباتين

2 فبراير 2020

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم