صحيفة المثقف

جَهْلٌ أَمْ تَجاهِلٌ أَمْ هُوَ الأصْرارُعلى ذَبْحِ العِراقْ؟

ابراهيم الخزعليسبق لي وأن تطرقت الى شريحة المثقفين وشريحة السياسيين، والعلاقة الجدلية بينهما، وتأثير كلتا الشريحتين على كل جوانب الحياة

 السياسية والأقتصادية والأجتماعية والثقافية في المجتمع . وقد بيّنت وقلت: (إذا كان هناك خلل في مجتمع ما، فهذا يعني ان الخلل الأساسي هو في الشريحة السياسية والشريحة الأخرى المثقفة) .

وكما أشرت في أكثر من مكان، وأؤكد مرة أخرى على أن الحكومات المتعاقبة إستلمت العراق بلا (دولة) بعد سقوط الدكتاتورية الصدامية المستبدة الرعناء، لِما تركته من خراب في البلاد وبؤس وحرمان للعباد، حيث لم تكن هذه الحكومات بالمستوى المطلوب في تلبية حاجات المجتمع، فاصطدم المواطن بما لم يكن يتوقعه بعد خلاصه من كابوس الرعب الصدامي المتوحش، مما أدّى الى تولّد ألأحباط والخيبة عنده، بعدما كان يحلم بغدٍ أفضل .

فكان إخفاق الحكومات المتتالية وعجزها في إعادة بناء دولة حديثة بعد استلامهم مقاليد الحكم، له أسباب عدة، أولها وأهمها هو انها لم تكن حكومات تكنوقراط، والسبب الثاني هو الفساد المستشري بين خليطها الغير متجانس، والتناحر فيما بينها، لتباين الرؤى والمقاصد والأهداف، الناتج عن الأرتباطات الخارجية المختلفة، التي أضعفت عندها روح الأنتماء للوطن والشعب و أنعدم الشعور بالمسؤولية لديها، والسبب الثالث هو عبء التركة الثقيلة التي خلفتها الحروب الصدامية الرعناء، والحصار الظالم الذي فرضته قوى الشر والعدوان على العراق، والسبب الرابع هو الأحتلال المتوحش بقيادة (الشيطان الأكبر) أمريكا وحلفائها الطامعين بخيرات العراق وموقعه الستراتيجي في المنطقة، وما تبعه من خراب ودمار شامل، وإهلاك الحرث والنسل، وما تعرض له العراق من كوارث، طيلة سنوات ما قبل وما بعد الأحتلال، وتدخلهم في الشؤون الداخلية للعراق، ودس سموم الفتنة الطائفية بين أوساط المجتمع والأقتتال بين الأخوة، ومن ثم صناعة عصابات الشر الداعشية وجلبها للعراق لتدميره، وتخريب ما لم يخرب، وما نتج عن ذلك من خسائر بشرية ومادية أنهكت الأقتصاد العراقي، وشلت عجلة التنمية والبناء والتقدم. كل تلك الأسباب أدّت مجتمعة الى ما وصل اليه الحال في العراق .

وقبل نفاذ صبر المواطن وبعده، قلنا ان الحكومة هي المسؤولة في الدرجة الأولى عن تردّي الأوضاع في البلاد، والحق كل الحق مع المواطن في مطاليبه المشروعة، وذلك ما قبل أكتوبر 2019، وعلى الحكومة أن تلبي مطاليب الشعب، وكذلك على الجماهير عدم الأنجرار الى العنف والعنف المضاد الذي لايخدم البلاد ولا المصلحة العامة، وعدم اعطاء الفرصة لضعاف النفوس والمتربصين في استغلال تردي الأوضاع، والتغلغل بين الجماهير للتآمر على الشعب والوطن .

ولطالما تتردد مصطلحات (الديمقراطية والدستور) بين اوساط المجتمع وفي وسائل التواصل الأجتماعي، وعبر وسائل الأعلام المرئية والمسموعة، وفي الصحف، نجد هناك الكثير من الأشكاليات والتناقضات فيما لا تنقل الصورة بالشكل المطلوب، ويبدو أن هذه الأشكاليات والتناقضات، أما مقصودة وذات أبعاد تخص الذين يطرحونها، ولغايات مَنْ هم ورائها للوصول الى مقاصد وغايات ومآرب أخرى معروفة، وأما غير مقصودة، وذلك لعدم المعرفة التامة وبالشكل الصحيح لمفهوم الديمقراطية، وكما قال الشاعر :

" فإن كنت تدري فتلك مصيبة

        وإن كنت لا تدري فالمصيبة أعظم"

وما نراه اليوم في الشارع العراقي أن أغلبيّة المتظاهرين هم من الأعمار الشابة ( دون السادسة عشر والى عمر الخامسة والعشرين ) وبحكم هذه الأعمار الشابة التي لا تمتلك الوعي السياسي الناضج، ولا التجربة والخبرة التي تؤهلهم لمواجهة ذُؤبان السلطة الفاسدة التي أكلت لقمة عيشهم، وسلبتهم حقوقهم، ولم تقدم لهم أدنى مستوى من العيش الحر الكريم، وحرمتهم من أبسط مستلزمات الحياة، فظهروا من دون سابقة إنذار، ومن دون قيادة واعية تمتلك الخبرة السياسية والتجربة، كي تكون الواجهة والممثلة والمعبرة بالشكل الصحيح عن مطالبهم المشروعة، وحقوقهم التي يكفلها الدستور في حق التظاهر السلمي، فظهر الفتية ومن دون إخطار الحكومة التي من مسؤوليتها وواجبها توفير الحماية لهم، وحماية المواطنين في ذلك المكان الذي يتظاهرون فيه، ونشر الأجهزة الأمنية وحفظ القانون .

 ومثلما يكفل الدستور حق التظاهر السلمي، فالدستور كذلك يضع القوانين لضبط التظاهر من أجل أن لا يكون سوء إستخدام حق التظاهر واستغلاله من قبل أفراد أو جهات في الأعتداء على مؤسسات الدولة والممتلكات العامة والخاصة .

ومعلوم ان التظاهر في أي مكان من العالم إذا كان بدون ترخيص، واستحصال موافقة الدولة يعتبر جنحة يعاقب عليها .

 وما دام الدستور يكفل حق التظاهر السلمي من أجل التعبير عن المطالب والحقوق المشروعة، إذن ما المانع من تقدم بعض الأحزاب التي تقف الى جانب الشعب في حراكه ضد الفساد، ومع مطالب الشباب وحقوقه المشروعة، وتعلن انها مسؤولة وممثلة وقائدة للحراك في تظاهرهم وتتقدم بطلب للحكومة للتصريح لهم بالتظاهرالسلمي، وليس التظاهر الذي يخل بالأمن والنظام.

وبما أن الجميع يتكلم عن الديمقراطية والدستور الذي يكفل الحق للمواطن بالتظاهر السلمي للتعبير عن رأيه، والمطالبة بحقوقه المشروعة، فلِمَ لم نجد أحداً منذ بداية الحراك في اكتوبر وولحد الآن باعلانه قائدا وممثلا عن الحراك والنضال السلمي من اجل الحقوق المشروعة والوقوف بوجه الفساد والفاسدين كما عرفناه في تاريخ المسيرة النضالية للحركات الثورية والتحررية بوجة الحكومات الفاسدة والمستبدة والأنطمة العميلة التي كانت حينها (أي تلك الأنظمة والحكومات أنذاك) لا تسمح بلفظتي مطالبة وحقوق، ومع ذلك النضال كان على قدم وساق وبكل تحدي لأساليب السلطات القمعية . بينما الآن الكل يتكلم بالديمقراطية وحقوق الأنسان والدستور العراقي الذي يكفل حق التظاهر السلمي، والكل يدعي انه مع المتظاهرين وحقوقهم المشروعة، ولكن لا أحد يتقدم خطوة واحدة ويقف أمام الشباب ويعلن نفسه قائدا وممثلا عنهم ويتحمل المسؤولية امام الدولة، ويتقدم بطلب تصريح رسمي ما دمنا نتحدث عن الديمقراطية وعن الدستور الذي يكفل حق التظاهر السلمي . والكل يعرف انه لا توجد دولة ذات نظام ديمقراطي في العام تسمح بالتظاهر إلاّ ضمن ضوابط، وهو أن يتقدم مجموعة من الذين يمثلون المتظاهرين بطلب استحصال ترخيص من الحكومة وان يتعهد مَنْ يمثلهم (أشخاصاَ أو حزباً أو نقابة أو منظمة او ماشابه ذلك) للحصول على الموافقة والترخيص بالتظاهر للتعبير عن المطالب المشروعة، على أن لا يتجاوزوا الخطوط الحمر التي لا تخص مطالبهم، مثل الشعارات المسيئة والتخريب وحمل السلاح، أيٍّ كان نوعه، ويجب أن يكون طلبهم الخطي يتضمن مطاليبهم وما يريدون، ويتعيّن يوم التظاهر والمكان الذي يتظاهرون فيه، ولا يجوز أن يتجاوزوا ما إتفقوا عليه .

وإذا أخلّ المتظاهرون بالأمن والنظام العام، أو حصلت خروقات منهم، فيتحمل المسؤولية أولئك الذين تقدموا بالطلب من الحكومة ويعاقب كل مَنْ مارس التخريب والقتل والأعتداء على الآخرين .

 ولكن، وللأسف الشديد هل أن ما يجري على الساحة العراقية، هو حقّاً تظاهرا سلميا أنطلاقاً من الأجواء الديمقراطية التي تتدا ولها الألسن في وسائل الأعلام المرئية والمسموعة، و تكتب عنها الأقلام في الصحف الورقية والألكترونية.

 فعندما لا يوجد من يعلن عن نفسه ممثلا او قائدا للجماهير المنتفضة، ولم يتقدم أحد بإخطار الحكومة، وطلب ترخيص للتظاهر السلمي في التعبير عن مطاليبهم المشروعة، فهذا لا يمكن أن نسمية التزاما بالدستور وما يكفله لهم بحق التعبير والتظاهر، بل هو خرق للدستور.

فاذن ما الفرق بين الشرعية التي يتكفلها الدستور في حق التظاهر السلمي وبين الفوضى التي لا تلتزم بما نص عليه الدستور . فأما أن نتكلم عن الدستور بالشكل المنطقي، او لا نربط كل ما يجري بكلمة الدستور . إلاّ إذا كان المقصود من الدستور الذي ينعق به الأعلام المشبوه، والمدفوع الثمن، وهو (دستور سوق مريدي) وهذا بحث آخر لا نقاش فيه، ولا يجوز أن نخلط الأوراق بهذا الصخب والضجيج المكثف، والمعروف والواضح من هم وراء برمجته .

فالتجاوز على المؤسسات الحكومية والممتلكات الشخصية وحرقها، وحرق الأطارات، وقطع الطرق وحرق الجامعات، وتعطيل الدوام المدرسي ومنع الأساتذة والطلاب من الذهاب الى المدارس والجامعات وتهديدهم بالقتل في حال ذهابهم للدوام، وقتل الناس الأبرياء الذين هم من ضمن المحتجين، وقتل ابطال من الحشد الشعبي المقدس، الذين قاتلوا قوى الشر والظلام الداعشي، وكذلك القتل البربري المتوحش وفي وضح النهار ووسط المنتفضين، كقتل طفل وذبحه وتعليقه على الأعمدة الكهربائية، ويهلل ويكبر كل المتواجدين في الساحة، وكأنها حفلة عرس، فكل هذه الممارسات الأجرامية والخارجة على القانون والدستور التي لا يسمح لها ولا تقبله اي دولة في العالم، لا بل لا يرضى بها كل إنسان ذو ذرة من ضمير وومضة وجدان، وكل صاحب ذوق . بالأضافة الى الأعتداءات على رجال الأمن التي جردتهم الحكومة الفاشلة الفاسدة من أي شئ يحمون به أنفسهم، حتى يلقوا حتفهم على أيدي العملاء المأجورين، والمندسين من أيتام الجرذ المقبور بين صفوف المتظاهرين الحقيقين الذين يطالبون بحقوقهم المشروعة، وهي مصورة في الكامرات . فالأفعال التي يقوم بها أذناب الجرذ المقبور اللا أخلاقية، والممارسات المجرمة المتأصلة في نفوسهم والتي وراح ضحيتها بنات العراق وأبناء العراق وآباء العراق وأمهات العراق وأطفال العراق، طيلة حقبتهم الدموية السوداء وما قبلها في تأريخ العراق المعاصر وحتى هذه الساعة، وبعد أن فشلوا بلعبتهم الشيطانية الداعشية أنذاك تسللوا اليوم كالجرذان من بين المتظاهرين، ومثلما النَّعام تخفي رؤوسها في الرمال من الخوف، كذلك أزلام الجرذ المقبور يخفون رؤوسهم بين أحذية المتظاهرين، خوفاً من دماء ضحايا العراق التي تلاحقهم، فتراهم يندسّون في الساحات بين المتظاهرين، ولا تجد للخنازير أثرا سوى نخيرها وعفونتها التي تزكم الأنوف، وما تسللهم في الساحات بين المتظاهرين، إلاّ لنشر الفساد والخراب والفوضى، ظنّاً منهم أن ابناء وبنات وآباء وأمهات الضحايا في حقبتهم السوداء، سينسون جرائمهم بهذه الأساليب المجرمة والقذرة، وليخلطوا الدم بالدم والجريمة بالجريمة، والحقيقة بالكذب والفوضى بالدجل، ولكي تختلط الأوراق . فنقول أن ما يجري من دم وخراب ودمار وفوضى، هو ليس من أؤلئك الشباب السلميين الذين يطالبون بحقوقهم المشروعة وانما من فعل المندسين البعثيين الجبناء حتى يسيؤوا للشباب، ويعطوا الصورة السيئة عنهم، والتأثير على بعض المغفلين من الشباب وجرهم الى العنف، ليحرفوا التظاهرات من السلمية الى الفوضى، وهو ما يريدوه زعزعة الأمن العام، وانعدام الأستقرار، واشعال نار الفتنة والشغب بالتحريض الأعلامي المسموم والمدفوع الثمن . وما نراه من الأموال التي تأتي من الخارج، إلاّ تدخلا وقحاً في الشأن العراقي الداخلي، وتآمراً على العراق، وهذا ما لا يسمح به أي بلد في العالم، وهو ما تم الكشف عنه، باعتراف الكثير من الذين القيَ القبض عليهم .

فما أسهبت فيه هو بشكل عام عمّا يجري على الساحة من خراب ودمار لا يتقبله أي انسان يحب وطنه ويحترم الدولة التي هي ملك الجميع وليست ملك فئة سياسية، أو سلطة حكومية.

 فالحزب او الجهة السياسية الفاسدة تزول مهما حاولت أن تتشبث بالكرسي، ولا ينبغي أن يكون ثمن إزالتها هو التضحية بالعراق وذبحه، كما حصل في عالمنا العربي، وهو ما تريده إسرائيل وحلفائها .

 

الدكتور ابراهيم الخزعلي

8.02.2020

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم