صحيفة المثقف

وجوه ملونة.. قراءة في مشهدها السردي

1331 رجاء الربيعيعندما يفرغ المرء من قراءة مجموعة (وجوه ملونة)(1) للقاصة رجاء الربيعي، تصبح لديه قناعة قارة، بأن هذه المجموعة القصصية ذات شجن ومعاناة حادة، تعيشها الذات الأنثى وخصوصية علاقتها مع الآخر.. هذه الخصوصية أدت في مضمونها إلى إدانة للمجتمع أو إدانة للعصر،  من خلال هيمنة العلاقات الإنسانية على التجربة المعاشة في المجتمع العراقي... وبعد: فإن هذا المقال يحاول استغوار المَشاهد المكثفة المتلاحقة التي تتحرك فيها... إن المشهد كما يرى ليون برميليان (عبارة عن فعل محدد حدث مفرد، يحدث في زمان ومكان محددين، ويستغرق من الوقت الذي لا يكون فيه أي تغيير في المكان أو قطع في استمرارية الزمن)(2) وعلى هذا الأساس ؛ يكون المشهد (هو كل ما يعرض ليسترعي النظر ولاسيما إذا كان مثيرا غير اعتيادي)(3) من خلال اللحظات المكثفة والعلاقات الحميمية التي تنماز بتقريب اللقطة ؛ فتثير المتلقي وتحفز قابلياته التخييلية، فالمشهد يتكون إجمالاً من عناصر عدة (شخصيات وحوار وحركة داخل المكان الموصوف) وإن هذه العناصر كما أزعم، تخلق لدى المتلقي نوعاً معرفياً للوعي... إن هذه المجموعة القصصية تضم بين دفتيها (24) قصة قصيرة تتبعها (8) قصص قصيرة جداً صيغت بلغة سلسة لا إسفاف فيها ولا تقعر أو هذيان، انصهرت فيها - القصص - قضايا اجتماعية، تجسدت فيها حقائق الحياة ومفارقاتها... توظف القاصة المشهد في إبراز تلك القضايا، من ذلك ما جاء في قصة (آذار) (عادت لغرفة الأضابير، وأخرجت من إحدى المجرات سكيناً حادة، بعد أن فتحت النافذة القريبة إلى أرضية الغرفة، وفي الحال مزقت بقوة المشبك الحديدي المانع لدخول الحشرات، عملت شقاً ليمر كلاهما تباعاً، فيما تحاول التهدئة من روعه، وهي تمازحه، حاذر كي لا تتعثر ! سارا خلف البناية، وولجا بناية أخرى كشفت عن ساحة كبيرة لشاحنات متخصصة لنقل المواد الغذائية.... أماكن لم يعهدها قبل، فيما استغرب لمثل هذه الفتاة كيف تعرف مسالك تلكم الأزقة والطرقات ؟!) ص 28 إن ما يثير الانتباه في هذا المشهد، الحركية التي تضيء لحظة التوتر والقلق والخوف من رجل الأمن ؛ كون بطلة القصة خاتلته ومكرت به ؛ كي تهرب زميلها في العمل.. أما في قصة (وجوه ملونة) فتتجلى نقاوة الروح، وتماهيها (أخرجت مظلتي الصغيرة، ذات وجوه الأطفال الملونة.. شرعت أرقص على إيقاع القطرات النازلة على أوراق الأشجار، فاح عطر النارنج والليمون وبدا يداعب أنفي بقوة... لمحتني أمي بقلق، فصاحت تطلب مني أن أدخل البيت مسرعة خوفاً من نزلة برد.. لم أنتبه إلى ملابسي التي تبللت، أحسست بأني أكثر جمالا ونقاء وخفة، حاولت الهرب منها إلى بيت الجيران، فأنا أحب اللعب مع الأطفال في الزقاق) ص 56 إذ نرى في هذا المشهد بنية التفصيل باستعمال الجمل الفعلية المتتابعة التي جسدت لنا مشهداً لفعالية اجتماعية عراقية مألوفة ؛ لتكون أكثر حرارة وحميمية وتأثيراً في تركيز المتلقي الذي ينتظر بلهفة ما سيحدث وراء هذا المشهد. في قصة (حلم بطعم الحياة) نجد المشهد الحزين ضمن فضاء الفقدان (لم تجد منه شيئا إثر الانفجار الذي صادف تواجده في شارع مزدحم، ذهب لشراء زهور جديدة ؛ لأن زهورها ذبلت.. ترجل من سيارته ومعه أجمل باقة تناثرت فوق جسده المتفحم، فقط بقيت الزهور هنا وبقي هو فيها ؛ لأنها تحمل منه صبياً كان ينتظر وصوله بلهفة الأب الحنون) ص 62 إن الحزن قد فرض حضوره في هذا المشهد بأدوات سردية، ذات مرتسمات لغوية، منحت لكل كلمة عدستها اللاقطة ؛ نظراً لحدة الموقف الذي يحكي قصة ألاف الشهداء والأرامل في العراق... وإذ نعطف على قصة (حلم ذات نهار) نجد المشهد ينساب في عيون الساردة ؛ لغرض إبراز علاقتها بالمكان المقدس (مع ارتفاع الأذان وتوجه السابلة إلى ذلك المرقد ذي القبة المذهبة، هلعت روحي وهي تسبح في أزقة وشوارع غريبة عني لا أعرفها، كيف سأوحي لنفسي أنني أعرف الطرق وهي تعرفها سرا وأقدامي تعاجل تلك السيارات القادمة من بلاد الفرات والنخيل، تلك البلاد التي ودعت فيها أنفاسي، وحبست فيها دموعي، وخرجت إلى ما لا نهاية، ولا قرار معلوم) ص 68 إذ حرصت القاصة هنا على نقل هذا المشهد إلينا ؛ لأجل استيعاب العين بما تمر به في حالة السفر إلى بلاد أخرى، من خلال الحوار التعبيري للموقف أو التوصيفي له، أما في المضمون، فتطرح القاصة شدة الشوق الأنثوي للأم... إن المشهد في هذه المجموعة يعد بؤرة الإثارة في بنية هذه القصص، ولاسيما أن الجسد يتمظهر شاخصاً في غالبيتها ؛ لدوره في تدعيم الحدث وتحريكه، فضلا عما يعنيه من عاطفة ؛ ولذلك يرى دي سي لويس في المشهد بأنه (رسم قوامه الكلمات المشحونة بالإحساس والعاطفة)(4)  وتأسيساً على هذا، نجد أن المشهد في هذه المجموعة جاء عن طريق تقانة التجسيد أو التشخيص أو التصوير أو تبادل الحواس ؛ لأن طبيعة النصوص السردية تتنوع بتنوع الأحداث التي غالباً ما تستعين بالمشهد بوصفه مسرحاً يستمد مادته من الحواس...

 

د. مثنى كاظم صادق

...........................

الهوامش:

1- وجوه ملونة / مجموعة قصصية / رجاء الربيعي / دار ميزوبوتاميا ط1 2018م.

2- بناء المشهد الروائي / ليون برميليان / ترجمة فاضل ثامر / مجلة الثقافة الأجنبية ع 3 / 1978 ص 78.

3- معجم المصطلحات الأدبية / إعداد إبراهيم فتحي / الموسوعة العربية للناشرين المتحدين / تونس ص 330.

4- الصورة الشعرية / دي سي لويس ترجمة أحمد نصيف الجنابي مراجعة عناد غزوان / منشورات وزارة الثقافة والاعلام / دار الرشيد للنشر 1981 ص 23.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم