صحيفة المثقف

محاصرٌ بين ألمٍ وقلقٍ وضيقٍ

عاطف الدرابسةقلتُ لها:

أويتُ إلى وحدتي أتأمَّلُ شمعةً تحتضرُ، كأنَّها العُمر، أسألُها عن الأملِ الخائبِ، عن الأمنياتِ التي دِيسَتْ بأقدامِ الخيانةِ، أروي لها عن السِّنينِ البائدةِ، أُحدِّثُها عن أشلاءِ الماضي، التي تناثرت بينَ صفحاتِ العُمرِ كحبَّاتِ القمحِ، ثُمَّ حمَلتها الطُّيورُ المُهاجرةُ نحوَ أقاصي الغيمِ، وأخذتها الرِّيحُ نحوَ أراضٍ عواقر ورحمٍ عقيمٍ، وحينَ اهتزَّت الأرضُ، تفجَّرت أحزاني ينابيعَ، وانفرجت أزهاراً دامعةً، كلّما مرَّ عليها ضوءٌ غريبٌ، أجهشت بالبُكاءِ .

هذا الزّمنُ ظلومٌ، لا يرحمُ أزهارَ البَلدِ، ولا يرحمُ عينيكِ، كلَّما رُحتُ أستعطِفُهُ الرَّحمةَ، يأتيني بالعواصفِ والهُمومِ، غابةٌ من الألغازِ هذا الزَّمن، تحكمهُ أشباحٌ من ورائِها أشباحٌ، فتعصفُ بنا أحداثٌ تقصُرُ عن فهمِها العقولُ، ما أقسى أن يمضي العُمرُ بينَ القطيعِ حافياً، يعوي مثلَ كلبٍ جريحٍ، وحينَ يموتُ بينَ القطيعِ، يموتُ بلا ثمنٍ، ويُدفنُ في مكانٍ غريبٍ، بلا عنوانٍ .

يا حبيبةُ:

 

قلبي هنا

وعقلي هناك

ما أبعدَ المسافةَ بين قلبي وعقلي

هل من يدٍ

تعصرُ المسافةَ بينهما

لأفهمَ ما يحدثُ لي 

وما يحدثُ لكِ

وما يحدثُ في هذا البلد

إنّهُ لو تعلمينَ لألمٌ فظيع ..

 

كلُّ المُدنِ

كلُّ الدُّروبِ

كلُّ العيونِ

كلُّ القلوبِ غائرةٌ

بصمتٍ عتيق

بجُرحٍ عميق

وأنا يا حبيبةُ مُحاصرٌ

بينَ أرقٍ

وقلقٍ

وضيق ..

 

يا حبيبةُ:

دعي ضوءَ عينيكِ يحوكُ لي كفناً لأيَّامي، للغتي، لشبابيَ الذي هاجرَ إلى عينيِّ البلدِ، وبعدَ أن صحا من غفوتهِ ليرتقي، اكتشفَ أنَّ هذا البلدَ منذُ أن كانَ، كانَ أعمى، فلا تُقسِمي بعدَ اليومِ بهذا البلدِ، فهو يا حبيبةُ لا يستحقُّ القسمِ .

 

كم تجرَّعنا المُرَّ

من كأسٍ مثلومةِ الحوافِّ

كم شربنا خمراً

حسبناهُ ساعةَ عشقٍ

مُعتَّقاً

كم قطفنا من شفتينا

قُبَلاً

وحينَ ارتجَفنا

اكتشفنَا

كم كانت عواطِفُنا

تُشبهُ هذا البلدَ ..

 

كم صلَّينا بخشوعٍ

ونذرنَا الدُّموعَ

تلهجُ بالدُّعاءِ

لنخرجَ من غابةِ الذُّنوب

ونُطَّهرَ هذا البلدَ

من كلِّ الذُّنوب 

فإذا بنا نُفجَأُ يا حبيبةُ

أنَّ هذا البلدَ

يغرقُ بالآثامِ

والخطايا

والذُّنوب ..

 

يا حبيبةُ: 

نحنُ في منتصفِ التِّيهِ

والطِّينُ عميق

والأقدامُ ضعيفةٌ

ولا دمَ يسري في العروقِ

والعيونُ يابسةٌ،

فلا تحلُمي بالرُّجوع ..

 

تعالي نكتبُ على صفحةِ التِّيهِ

بحروفٍ من جوع:

لم ينتهِ زمنُ الجواري

زمنُ القطيع

زمنُ الرَّقيق ..

 

تعالي نكتبُ وصيَّةً لأحفادِنا:

هذا البلدُ محكومٌ عليه إلى الأبدِ

أن يسوسهُ تُجَّارُ الرَّقيق ..

 

هامش:

هُناكَ ظلُّ أملٍ يلوحً من بعيدٍ

يصرُخُ: الموتُ لتجارِّ الرّقيق ..

***

د. عاطف الدرابسة

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم