صحيفة المثقف

ذلك الرجل المجهول

عمار حميداستطيع وعبر ضوضاء الآلاف  من الساعين خلف قوتهم أن أصغي الى الطرقات والأبنية وهي تئن تحت الثقل المجرّد للإسمنت والحديد الصدئ والنفايات التي تحاصرها حيث شوهت سكين القباحة وجه عبقها القديم، لا زالت بعض آثار تدل على ذوق ولمسة من جمال كانت تسري في الماضي البعيد ذبلت الآن وذوت، لكن صوتا ما أو لحنا ما خرج عن المألوف الرمادي والسخامي .

 كان مزيجا ساحرا من  زقزقة عندليب يترافق مع صوت غناء لفلفل كرجي قارئ المقام العراقي الذي ترك وطنه قسرا ومات حزنا وكمدا عليه فانطلقت كلمات غنائه (كلما أمر على داركم أذكر زمان الفات ...) تتبعت عيناي مع الأذن مصدر ذلك الصوت من أحد الدرابين الهادئة التي دلفت اليها فأزداد الصوت ارتفاعا وما زاد جمال الألحان الا جمال المكان حين وقعت عيناي على شرفة احد الأبنية القديمة المتهالكة، شرفة هي الوحيدة التي تكللت بنبات المتسلّق اللطيف وأصص زهور حمراء وصفراء وبيضاء.

وفي وسط الشرفة جلس رجل عجوز أمتلئ وجهه بالحمرة والطمأنينة منغمساً في قراءة جريدة بين يديه وآلة التسجيل الى جانبه تصدح بالشريط الغنائي لقارئ المقام (كرجي) وقفص العندليب بقربها، ادركت عند رؤيتي لهذا الرجل المجهول الذي صنع لنفسه بقعة من الجمال وسط البؤس ان الأمل يبقى حتى وأن أنزوى في الأزقة الضيقة المنسية ليحيي في داخلي بهجة أيام الخير والمحبة والألفة التي كنت اسمع عنها من جدي ووالدي وان هناك من يصرُّ على صنع المحبة ونثرها على غيره، تأملت الرجل طويلا وسرحت معه ومع أزهاره وعندليبه وشدو فلفل كرجي لكن وقوفي امامه بل في حضرته لفت اهتمامه فنظر الي، تبادلنا الابتسامة فألقى التحية عليّ بانحناءة بسيطة ... أكمل قراءة الجريدة وأكملت أنا طريقي مرنماً مع الأغنية (كلما أمر على داركم وأذكر زمان الفات ...)

 

عمار حميد مهدي

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم