صحيفة المثقف

ماركس وقصة (التحفة المجهولة) للروائي الفرنسي بلزاك

جمال العتابيألحّ ماركس على زميله أنجلز قبل فترة وجيزة من تسليمه مخطوطة المجلد الاول من رأس المال، بضرورة قراءة قصة (التحفة المجهولة) للكاتب الفرنسي بلزاك، القصة عن فنان عظيم، اسمه (فرنهوفر)، صرف عشر سنوات من عمره يرسم ويعيد (بورتريه)، كان يعتقد انه سيحدث ثورة في الفن التشكيلي، سمح فرنهوفر لصديقيه ان يطلعا على العمل بعد الانتهاء منه، أصيب الصديقان بالذعر لمشاهدتهما عاصفة عشوائية من الاشكال والالوان متكومة بعضا على بعض بطريقة مشوشة، صاح فرنهوفر: اظن انكما لم تتوقعا مثل هذا الكمال؟ رد احدهم: لم يبق فيها اي معنى!

تمعن فرنهوفر في اللوحة للحظة، وبدأ يترنح ثم قال: ليس ثمة  معنى! بعد عشر سنوات من العمل! ثم سقط على الكرسي وأخذ ينتحب، طرد الرجلين، وبدأ بإحراق جميع لوحاته، ثم أحرق نفسه.

بلزاك مارس تأثيره الكبير على ماركس، لان مضمون القصة كان يعتمل في داخله، في رسالة اخرى لانجلز، نقل فيها حرفيا مقطعا من قصة اخرى لبلزاك بعنوان (قس القرية)، وطلب منه ان يؤكد له صورة من الواقع في المقطع، اعتمادا على معرفة انجلز بالاقتصاد التطبيقي، قضى ماركس عشرات السنين لاكمال (تحفته) التي لم يشاهدها احد بعد، ليقول هارولد ولسن رئيس الوزراء البريطاني بعد مائة عام من صدور رأس المال، متباهيا انه لم يقرأ سوى صفحتين من الكتاب، كان اكثر مما يطاق تحمله.

كان ماركس مأخوذا بالكمال وتطلب ذلك منه على الدوام البحث عن الوان متدرجة لإكمال لوحته (رأس المال).

لماذا استدعى ماركس قصة بلزاك في اللحظة التي كان فيها يتهيأ لإزاحة الستار عن عمله امام عيون الناس؟ هل كانت تراوده المخاوف من ان كتابه عصي الفهم؟ الاجابة نعم، لان شخصية ماركس عبارة عن مزيج غريب من اعتداد بالذات وشكوك معذبة بها في آن. اذ يقول: لم يزل يتحتم علي وضع اللمسات الاخيرة، البارحة اعتقدت، عندما هبط المساء، اني انتهيت من كتابته.... لكن، عندما طلع الضياء هذا الصباح، ادركت انني كنت مخطئا.

رأس المال يتخطى المؤلفات المكتوبة بعناية فائقة في عصر ماركس ليصل الى عصر حداثتنا، وماركس، مثل فرنهوفر كان حداثيا طليعيا بامتياز، يقول: حين يتبخر كل شيء صلب في الهواء، قرين (الرجال الجوف) لأليوت، كان يتخطى التقليدي، وراء كولاج ادبي راديكالي، ماركس يعتبر نفسه فنانا خلاقا، وشاعرا للديالكتيك، يتطلع للروائيين اكثر من تطلعه الى الفلاسفة، حسب ما وصفه فرنسيس وين في كتابه (قصة حياة كارل ماركس)، ترجمة سعدي عبد اللطيف الصادر عن دار سطور، 2020،قدم له، دكتور حسين الهنداوي، وراجعه جمال كريم.

يصف الكاتب ماركس، انه واحد من العمالقة العظماء المعذبين في القرن التاسع عشر، جنبا الى جنب بيتهوفن، غويا، تولستوي، ديستوفسكي، أبسن، نيتشه، فان كوخ، الذين يدفعوننا الى الجنون، لكن شقاءهم ولّدَ كماً هائلا من الرأسمال الروحي، لا نزال نقتات عليه.

كم واحد منا يفكر ان يضع ماركس في قائمة الكتاب والفنانين الكبار، يتساءل الكاتب، كانت بداياته ادبية محضة، فكتب الشعر وهو طالب في كلية الحقوق في جامعة برلين، وألف مسرحية شعرية، وحتى رواية بعنوان (العقرب)، كان يستعيد مقاطع شعرية من هوميروس، وشكسبير في كتاباته، وجعل رأس المال يتكلم عبر صوت شايلوك، ويورد مقتطفا من تيمون الاثيني (شكسبير)، النقود هي البغي المشتركة بين البشر، ومقتطف اخر من انتيغونا سوفوكليس :النقود لعنة الانسان، ليس هناك لعنة اكبر، النقود هي من تخرب البشر، من ينفي الرجال عن اوطانهم.

قرأ الرياضيات، وعلم الفلك. وتعلم الانكليزية والروسية والايطالية والفرنسية، فضلا عن لغته الالمانية، كان يعيش حالة من الفوضى والفقر المدقع طيلة حياته، كتب لصديقه انجلز :ليس بمقدوري ان اطعم عائلتي الخبز والبطاطا، اني اشك بذلك!! توفيت ابنته والطفل الاصغر (غايدو) بسبب المرض، وابنه الاعز (ادغار)، فقد صوابه اثناء الدفن، وكاد ان يرمي بنفسه الى القبر، ومنعه المعزّون في اللحظة الاخيرة.

ماركس احكم القبضة على الفلسفة الالمانية، وعلم السياسة الفرنسي، والاقتصاد الانكليزي،

واحسرتاه، يقول ماركس، كان يعتقد ان لوحته اكتملت لكن هناك بعض التفاصيل التي يجب اعادة تمرير الفرشاة عليها، ولن يرتاح دماغي الا بعد تنقية بعض الشكوك التي تساوره، يسافر الى تركيا واليونان بحثا عن بعض الموديلات كي يقارن لوحته مع الطبيعة عبر اشكالها المختلفة.

لم يكن فرنهوفر خبيرا في الاقتصاد، او فيلسوفا، او مؤرخا، ولا بلزاك كان كذلك، لكن ما يستوقفنا فهم ماركس لقصة (التحفة المجهولة)، من انها تسودها روح سخرية بهيجة. تعقبها خيبة مريرة وعرض رأس المال لقطات من نتاجات الادباء الكبار، تعطي انطباعا عن طموح ماركس الادبي المعلن .

ماركس اخلص تلقائيا للبعد الانساني فيه، ومن هنا اليقين الذي يدافع عنه فرانسيس وين، من ان ماركسية ماركس، لم تكن ايديولوجيا، بل كانت عملية نقد ديالكتيكي  متواصل وواثق. ورأس المال عمل غير كامل ومتشظ،على حد وصف احد الباحثين (الماركسيين)، ماكسيملين روبل اذ يصفه : ليس بين ايدينا انجيل ماركسي مقدس، يتضمن قوانين ازلية . هكذا يتعامل البعض مصرين على قبول كل ما قاله ماركس صحيحا ، وكل ما لم يقله خاطئاً ، وكلا الرأيين خط

 

د. جمال العتّابي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم