صحيفة المثقف

هاشم الطّعّان.. المقبل على التراث بوعي وضرورة

جمال العتابيمنذ سبعينات القرن الماضي، كنت ما أزال أذكر تلك النشوة السحرية التي كانت تمتلك حواسي، أنصت لصوت هاشم الطّعان، حين ينقّب في كنوز الكتب والمعارف واللغة، هو يعرف أوصافها تماماً، يستعيد أسرارها بمفتاح صغير ليدخلها إلى هذا العصر.

كان الطعان مثل المتشبث بالصخر والتراب والجذور، لياذاً من طوفان وشيك، كان يبحث عن أيما مكان لايبعده عن تاريخ نسجته العصور، لكن هاشم لملم زمانه، وإنطوى في زاوية من زوايا التاريخ المثخن بالجراح، والنسيان، والإهمال، ورحل مبكراً في عام 1981، وهو في قمة عطائه .

هاشم الطعان وطن يسكنه من نوع آخر، هو كذلك رمز لوطن صغير في القلب، الزمن لم يعد عاشقاً كما كان من قبل، ولأن تلك العاطفة البدائية لم تعد قابلة للمارسة الحيّة كي يستمر دفق الزمن إلى المستقبل، ومع ذلك لابد للحياة أن تستمر، دون أن تغير من نواميسها الأزلية شيئاً .

هذا الإنسان المتيم بالتراث الفكري العربي، يستمر في حواره معه، ما دمنا نصغي اليه، وجعلنا أقدر على فهم ترتقي فيه اللغة والتجربة الغنية، يستعيد فيه حبّات التراث الضائعة، حتى وهو في أصعب الظروف والمواقف، إذ سلك الطريق الصعب في حياته، يقبل على التراث إقبال العاشقين على مدام الوجد، يبحث في ينابيع المعرفة، ليغمس في مدادها النوراني قلمه وأنهار الحكمة ليترع كؤوسه، في نمو إيقاعي منظم، تستحيل كريم المنثور، وفرائد الشعر، وصافيات الحكم والكلمات، إلى منازل تتجه صعداً الى الأعلى، كأنها تدخل في مدارات من الأنوار الساطعة، قد تغيب عن الأبصار، لكنها لا تغيب عن البصائر، انها صورة الحروف وأقلامها، وموازينها، ومساحاتها وألقابها، وهي تنساب على الرقوق .

إنتماؤه اليساري قاده الى سجن (نكرة) السلمان ما بعد إنقلاب شباط عام 63، مثل مئات من المثقفين – شعراء وأدباء – ومفكرين، في السجن كان يشدد على رفاقه ضرورة قراءة ودراسة وإستيعاب أهم كتب التراث العربي، ويوجه بالنصح الى الشعراء الشباب من السجناء، بأهمية قراءة المعلقات السبع (شرح الزوزني)، أما السجين الراغب في ان يكون قصاصاً أو روائياً، عليه أن يبدا بـ ( كليلة ودمنة لأبن المقفع )، وكتب الجاحظ، وألف ليلة وليلة .

في السجن يراجع ما يكتبه سجناء آخرون، يقرأها بعناية فائقة، ويسجل عليها ملاحظاته النقدية الصارمة، فأعتبره رفاقه (اتاتورك الأدب )، لتشدده في المعايير النقدية، وتطوع الطعان كذلك لتعليم السجناء من أصول ريفية، القراءة والكتابة .

أكمل هاشم دراسته الأولية في الموصل، وعُين معلما، ثم درس الأدب في كلية الآداب، وتخرج منها عام 1960، نال شهادة الماجستير بوقت متأخر من حياته، عن تحقيقه لكتاب (البارع في اللغة )، وهو الكتاب الذي شرح فيه ابو علي القالي البغدادي معجم (العين) للفراهيدي، ونال دردجة الدكتوراه بتفوق وإمتياز، عن اطروحته (الأدب الجاهلي بين لهجات القبائل واللغة الموحدة)، ورفضت السلطة من نقل خدماته الى الجامعة، والإفادة من تخصصه العلمي، بسبب إنتمائه، وموقفه المعارض منها، أثنى على جهوده العلمية استاذه العلامة مهدي المخزومي، كتب الشعر، وله ثلاثة دوواين مطبوعة، تتراوح بين القصيدة العمودية، وقصيدة التفعيلة، كما نشر مع مجموعة من زملائه (قصائد غير صالحة للنشر) عام 1956، وهم شاذل طاقة، يوسف الصائغ وعبد الحميد لاوند، منعته السلطات من التداول حينذاك، كما صدرت لهاشم الطعان العديد من الكتب في التراث، ونشر عشرات الدراسات في تخصصه الأكاديمي، بعد أن هجرالشعر، وانصرف لجهده العلمي .

غادر هاشم الطعان، وهو لايحمل غير بياض كفنه، فيما تنتهي رحلته الأبدية الى حالة من الغياب عن الأنظار، وحضور في مرايا القلوب، متجهاً الى ذلك الأثير الكوني الذي انيطت بالروح مهمة إرتياده، حيث ينتمي الذاهب الى قدرة قادر.... سنقف خاشعين أمام حلم عابر، ربما في صورة كتاب، أو مخطوط خطته يده الكريمة، أراقت دفقاً من انوار الحب في سطوره، حينذاك ندرك ان روحه تقاسمنا الضوء والشوق والوفاء . ومن دون شك لايمكن ان تزول ازمنة المثقف المبدع، لأنها سنوات خلق وعبور للزمن .

 

د. جمال العتّابي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم