صحيفة المثقف

لذة المرثاة في مجموعة: وفيٌّ لرقم حذائي

احمد الشيخاويللشاعر فريد اليوسفي

في هذه المجموعة المعنونة "وفي لرقم حذائي" لمبدعها فريد اليوسفي، الصادرة حديثا، عن جامعة المبدعين المغاربة، في قطع متوسط، وتوزيع لمواضيع موغلة في الخطاب الواقعي، في حدود حيّز قارب المائة صفحة، تتجسم تيمة الفقد، وتنضح تجربة الإحساس براهن الفراغ النفسي الذي خلّفه رحيل شقيقة الشاعر، مشّفة عن فعل إبداعي يجترح من متون المأساوية، ويسبح مع تياراتها ما يدمي القلوب، علما أن كهذه مغامرة كلامية، لا تبرح مستوى البوح الخفيض، مدغدغة بمرثاة ضمنية، كأنما تعيد إلى إدراكنا بعضا من طقوسيات المأتم الذي جعل من الشاعر العربي الجميل الراحل نزار قباني، كائنا حروفيا بدرجة أولى، يحمّل الحرف والشعر دم شقيقيته المنتحرة جراء ضغوطات وإكراهات حياتية، بل من أجل الحب، كما جاء على لسان نزار قباني، أدت به إلى الالتزام بقسم، ووعد قطعه على نفسه، بأن يثأر للراحلة أخته، إبداعيا، فكان أن انطلقت الشرارة الأولى لفورة شعريته، إلى أن انتهت بما انتهت به، ريادة وتألقا وخلودا في العقل والوجدان العربي.

من قلب القصيدة المحمولة على روح الانكسار والفقد، يتم الاحتفاء بهذه الملهمة، قدرا يضطرم به حضورها المستفز، وتنزف له الذات المصدومة والموجوعة، بما يجعل الشعر متسربلا بأبدية وصحو وواقع مواز يغذيه الذاكراتي، والاسترجاعات التي ما تفتأ تتشرّب نبضها فسيفساء بوح جريح يمارس على المتلقي سلطة وجلدا من نوع آخر بتفاصيل عوالم الجنائزية وفصول المرثاة، وشاعرنا يحاول ترتيبها مجددا، وجعلها ألصق لحمة بدفاتر يومياته وألوان معيشه.

نقتبس له القول التالي:

[ جرح على جرحٍ

والبوح جهات البوصلة

سفَرُ الروح

في محراب اليوتوبيا

وانتفاضة بحجم الشنق

على واضِعِي المقصلة ](1).

ويقول :

[من أعلى البرج في الليل

أعترف

أن جرحي سؤال

يواري سؤال

وصمتي نشيد

يعلو

على كل حال](2).

بذلك، وعلى هذا النحو من التصوير الفني البديع، لمشهدية باهتة، مطفأة المقال، فصيحة الحال، نستوعب أو نستسيغ حجم الجرح الناجم عن كهذا فقد، يتحول له الكائن بالكامل، فتنزف له قصائد روحية، مسترسلة في الانسكاب، قاهرة بسياقات الرثاء المدثر بوجع ثان مطايف، يفرزه واقع التحديات والتجاوزات الجائرة على حقوق وهوية وإنسانية الكائن.

من تمّ هذه القصائد المتسامية عن الثغرة أو الغفوة، كي تكون جديرة بتخليد سيرة أنثى خطفت في سن الزهور واشتهتها يد الردى، مبكّرا.

إذ الحاصل هاهنا، أن الذات الشاعرة، دائما تستشعر هذا التأنيب، كونها، مهما حاولت لتضميد جراحات الفقد، إبداعيا، يستفيق الوجع والمكابدة، من زاوية أخرى شاردة وغير متوقعة، كأنما يطالب بميلاد القصيدة المختلفة التي في مقدورها جب الأقدم، وتناسيه.

نطالع له كذلك قوله:

[ حينما يدنو الليل

من أجراس أناملي،

يرقبك الطيف ثملا

كما الحبر

يمدد اشتهاءه

بعيون يقظة

على أسرّة من بياض

كما الشوق

يقود اللوعة سرّا،

خارج مدارات البوح،

ينقل عينيّ

تنقل الدهشة يديّ

نحو قصيدة

لوحة

رسمتها الغواية علنا،

ومضت

تحكي قصتها

في رحم الظلام](3).

وإذن هي سلسلة أسئلة تتناسل، كلما زاول جرح الفقد، صحوه في القصائد، بما يمدد المتاهة الوجودية، ويستنزف الذات الشاعرة، ويعرّي واقعها الذي تزلزله إيقاعات المرثاة.

إنها متوالية اعترافات تكشف عن كامل هذا العجز ولقصور، عجز الشعر، ومن ورائه قائله أو صاحبه، وحيلولة دوخة الفقد، دون رسم ملامح نهائية قد تخمد زمجرة الجرح .

يقول كذلك:

[ أيا مناديا بالبياض

جفف حيرتي

على جبين الورق السميك

واقرأ ألمي سعيدا

مع مطلع كل جرح،

علها قصائدي الصغيرة

تنمو في أحداقك

سنبلة

متى حاصرتك الأسئلة ](4).

ويقول:

[امرأة من ثلج

تغمرني بالبياض

وكثير من المرح

تتدفق بهاء

وتنساب في غفلة من مشاعري

ماء طيعا بين الظلال

امرأة

توشحني دوما

بوسام من درجة طفل](5).

كل هذا مقصودا، ولعلّه أريد للشعر، من خلال فعله المخملي هذا والنافذ في ضمنية المرثاة المدبجة بحضور نفسي قوي.

كون الميلاد المتجدد للقصائد، ومعه روح الشاعر المظللة بأطياف الشخصية المفتقدة، شقيقته، باعتباره لم يزل تحت الصدمة، هو ميلاد تظل ترعاه تلكم القراءة المتلعثمة للجرح في كمونه.

وهكذا معايشة قدر الفقد، بروح طفولية، محرّضة على مزيد من الأسئلة، وتفجير المواقف في ديباجتها الفلسفية، على الدوام، وبلا انقطاع.

إنها لذة المرثاة، في هذه الشعرية، وقد استطاعت أن تصون للشعرية خطاّ للتسامق، وتأمم اللامحدود.

 

احمد الشيخاوي - شاعر وناقد مغربي

........................

هامش:

(1) مقتطف من نص" مكابدة "، صفحة 12.

(2) مقتطف من نص "اعترافات" صفحة 15.

(3) نص "سرّا ألهو مع الطيف "، صفحة 21/22.

(4) مقتطف من نص "دعوة عامة"، صفحة40.

(5) مقتطف من نص "امرأة من ثلج"، صفحة 90.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم