صحيفة المثقف

كورونا

قصي الشيخ عسكرلكنني

سألتقي الآنسة ياسمينة.

ذلك يحدث بعد أسبوع من ظهور الوباء الجديد.

كورونا...

هكذا نطقت مذيعة النشرة الكلمة.

الشرق مرة أخرى والصين أيضا التي عرفتها بعدة وجوه، أما في هذا اليوم بالذات وهو أول يوم أباشر فيه عملي الجديد، فقد وقفت أمام المرآة متأنقا، أعدل هندامي وأصفف شعري.لكن بقية الأيام عادية لا رونق فيها فلتكن فقط إطلالتك الأولى ذات معنى.

وجوه جديدة لعاملين وعاملات يصبحون من زملاء مهنة بمرورالأيّام إلى أصدقاء.

بلا شكّ لن ترتاح لبعضهم. مثلما هي الأخبار التي تحمل السعادةوالكوارث...

وفاة شخصين والسلطات الصينية تعلن حالة الطواريء.وزارة الخارجية تحذر البريطانيين المقيمين في الصين .الأمور تلوح لي من قريب أو بعيد مريبة إلى حد ما مع العلم أن لمذيعة النشرة حلاوة لسان تفوق أية لكنة في تصوري.لم أرها لكني أعترف أني وأنا أنصت إليها عند الصباح أجدها أكثر قربا إلى نفسي من مذيعات التلفاز.

أرسم وجهها في ذهني.

لا بد أن يكون الأمر جللا، وأنا أخطو هذا اليوم أول خطوة للعمل في حياتي.

علي أن أصل في الوقت المعلوم وأباشر مع هؤلاء المصنفين ضمن عوق أسبارجر.

عدوانيين إلى حد ما...

عنيفين بشكلّ غير متوقع...

قال السيد إيفان مدير مركز "حقل الزعفران" لذوي الاحتياجات مرحبا بك نحن حقا بحاجة إلى نقص في المختصين ستباشر عملك مع السيد كالم إلى أن تلتحق مسؤولتك المباشرة جاسمينه!

لا أدري لِمَ أمتلك حاسة تجاه الآخرين ظننت السيد إيفان اليوناني مجرد صورة أما كل شيء فهو بيد السيدة كيلي مكنزي المساعدة التي قدّمت لي المنهاج وقانون العمل :مؤكد أنك درست البسايكترسك وطبقت عمليا في مدرسة الوردة راجع المعلومات وإن كان هناك من شيء فيمكنك أن تسألني مباشرة.

سألت بعفوية:

متى تأتي ياسمينة

إنها في إجازة بقي لها منها أسبوع.

خرجا فسمعت صرخة، أعقبها ضجيجا في الممر وتناهت إلى أنفي رائحة قلي من المطبخ، قد تكون مسؤولتي ياسمينة من الهند أو الباكستان.الاسم شائع عند الاوروبيين.أختي المتزوجة في السويد تقول إنها تعرف الكثيرات من السويديات يحملن اسم ياسمين،

خفتت الزعقة،

غادرت مقعدي إلى العارضة أتطلع في صور الموظفين وأسمائهم.Jasmine بيضاء في في الثامنة والعشرين ذات شعر أسود.ابتسامة يزينها بريق.ملامحها لا تدلّ على أنها من باكستان أوالهند.

ليس هو الوجه الذي رسمته لقارئة الأخبار في المذياع.

لكن لِمَ يلفظ الجميع اسمها بالجيم.على أية حال سأقابلها بعد أسبوع.تلك ليست مشكلة كبيرة لموظّف جديد يباشر العمل في مؤسسة تعنى بذوي الاحتياجات الخاصّة.لاحرية لنا في أن نختار أسماءنا وأنا شخصيا لو خيرت لفضلت التعامل مع النساء على الرجال.أجدهن حنونات.يمكن أن يغفرن.مع ذلك أبدو أحيانا لا أحب أحدا ولا أكره أحدا.موقف يصعب علينا أن نجد أنفسنا تميل فيه إلى أي اتجاه.

أنهيت تصفيف شعري وترتيب هندامي.

كان المذياع يثير اهتماهي بالخبر الجديد.

ضحيتان لحد الآن.

الصين تعلن حالة الطواريء.

المذيعة تدخل في تفاصيل أخرى ضروروية:الصين مليار ونصف يأكلون كل شيء إذ المرجح أن يكون فايروس كورونا ناتجا عن نوع خاص من الفئران.المطبخ الصيني ثانية.every thing possible

تطلعت بوجهي في المرآة وتمتمت ممكن لاغرابة في الأمر.

وكنت أغادر.

2

بسط السيد كالم يده مرحبا بي وقد ظنني من إيران.خلال أسبوع من التنسيق معه في العمل وجولاتنا مع الأسبرجر تايرون عرفت منه أنه شيوعي.اسكتلندي درس اللغة الإنكليزية في جامعةنوتنغهام، والغريب أنه جاء من اسكتلندا إلى نوتنغهام بلكنة غريبة أما الآن وفق قوله فلا أحد يجدصعوبة في فهمه.أحيانا في فترات الاستراحة يثرثر.يتحدث عن زيارته لإيران وإعجابه بشارع الثائر بوبي ساندس.تصوّر بوبي ساندز له شارع باسمه في طهران، يقول ذلك، ويتساءل بعفوية أي من الدول الأوروبية أطلقت اسم الثائر بوبي ساندس على أحد شوارعها. أن هذا إنجاز جدير بالاحترام...ياسيدي أنا في الأصل عراقي جذوري من الناصرية.وإن ولدت عام1999 في برمنغهام.جدتي رحمها جاءت بوالدي إلى بريطانيا تذكر لي كأنها تفتخر أكثر مما تسرد واقعة حقيقية أن جدي أول شهيد يسقط في الجولان عام 1973 في ذلك الوقت كرمنا الرئيس السوري ببيت، فاعتذرنا، قلنا له نشكرك ياسيادة الرئيس عندنا بيت في العراق، حينها أصبحت جدتي تحمل مسؤولية طفلة عمرها ثلاث سنوات وهم أبي الذي لم يتجاوز عمره السنة بعد!

لن أتحدّث بكل التفاصيل فليس علي أن أثرثر بماض لم أكن شاهدا ولا مؤثرا فيه ولا أحبّ أن أسهب للسيد كالم اليساري الطيب القلب.

سألته بخبث: هل سمعت بأخبار كورونا اليوم؟

فقطب حاجبيه :

هذه حملة إمبريالية وسخة.

لكن الصين اعترفت؟

الصين مليار ونصف ياصديقي اليوم مات اثنان ومن قبل سارس. الرأسمالية دائما تضخم الأمور.

لا أستغرب..

أجد نفسي في تناقض..تعجبني أشياء كثيرة تأتي من الصين:الأقمشة والبلدات، أجهزة الكهرباء والألكترونات، أسواق بريطانيا تغص بصادرات الصين، أي صاحب سوبر ماركت يقول لك:الصين عام 2000 ليس هي عام 1960، كالآخرين أرتاح..أنتعش لكل ناعم وجميل يأتي، ويرعبني عالم الغموض والخفاء..فايروس يقطع مسافات طويلة ليحطّ في جسدي:

يبدو لي أن موجةرعب بدأت تجتاح العالم.

كل ما أعرفه أن جنون البقر خرج إلى العالم من إنكلترا فأحدث وقتها ضجة ثم بعده جاء السارس وقبلهما الآيدز.اليوم كورونا وغدا تخرج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي فيتغيّر لون الجواز وتتناسل العملة !

وقد يصل الفيروس إلى بريطانيا.

ياصديقي .ولو وصل فإنه لن يصل إلى قصر صاحبة الجلالة، ولن تصاب الملكة بسوء.انظر إلى ملكة هولندا تخلت عن العرش، وملك اسبانيا، انها جاوزت التسعين، تظنّ نفسها ظلّ الله، غنيةولديها أملاك في كندا سوف تدفع رشوة إلى عزرائيل much money she will pay bribe

قالها وقد أدركت أنه يقابل كل شيء بسخرية مرة لا يعيها الآخرون ربما لا يبوح بها لأحد سواي.

3

يبدو أن كثيرا الأمور تبدو غريبة لي ومألوفة..

في كثير من الأحيان

بعيدة عنّي وقريبة مني.

قد أجد عاة لهذا التداخل الغريب كوني ولدت في أوروبا.

لعل السبب يعود إلى جدتي التي اكتفت بحرب واحدةفقط، ولم تغامر بأخرى.كانت تفخر ببطولة جدي في حرب أكتوبر حين نفدت ذخيرته فهبط من دبابته ولجأ إلى السلاح الابيض.

كان أول شهيد يسقط على الجولان.

ولا أشك أن جدتي فتنة عبد الله كانت علىخطأ يوم تركت المغامرة بحرب ثانية.أعني حَدَثَ الانتفاضة.والدي أطاعها طاعة عمياء وتعلق بها بشكل مذهل.وقد راهنت على الزمن.يوم اندلع العنف بعد الانسحاب من الكويت.بكلّ جبروتها وقوّة شخصيتها عجزت عن أن تمنع أبي من الخروج إلى الشارع بالتأكيد عز عليها أن تخسر ابنها بعد زوجها.كان عمره عاما حيتن ترملت، فأصبحت له المثال: الأم والأب.فتى راوده الطيش وهو في العشرين من عمره، فوضعت أمه يدها بيد عمتي، وصرخت:

هيا لنهرب مع الهاربين!

وسأل أبي:

إلى اين!

مع هؤلاء .

تركت البيت وكل شيء فدخلت رفحاء مع الداخلين، كانت هي اللولب الذي يدير حياة ابنها وابنتها.زوجت عمتي من عراقي في السويد، واختارت لأبي بنت أختها المقيمة في الإمارات، ولم تكن أمي أكثر من مدللة عندها لكنها لم تكن لتستقر في بلد معين.تسافر إلى السويد تبقى عند عمتي، تأتي شهرين أو ثلاثة ثم تسافر عند أقاربها في المانيا.وتشد الرحال فتزور ضريح السيدة زينب بدمشق ولا تنسى أن تمر على مقبرة الشهداء حيث قبر أبي.وكأنها إذ اطمأنت على عمتي وأبي وجدت ضالتها في السفر المتواصل

أو تريد أن تنسى.

تجد الجلوس الطويل يشلّ حركتها..

ولو كانت حاضرة في بريطانيا يوم سقط النظام لما تجرأ أبي على السفر إلى العراق.اغتنم وجودها عند عمتي واتصل بها عبر الهاتف..

ولعل أبي وجد حريته في غيابها.

يطيعها ولا يخاف منها.

يخجل يستحي.

إذا كذب اكتشفت كذبته من عينيه.

احترام مفرط وطاعة بلا حدود.

قال لي جدتك تخشى عليّ منذ استشهد جدك.لا أنكر أني اندفعت خلال الانتفاضة شأن الشباب الآخرين، فحسمت الأمر.الآن انتهى النظام، ولا خوف عليّ.الذي يهم أبي البيت في الناصرية، بيت أبيه، وبعض الأملاك.لابد أن نأخذ حقوقنا.حالة الخوف والغضب جعلتنا ننسى، وننسى.

وبعد أسبوع من الاحتلال الامريكي سافر أبي ليبحث عن بيت فقده وبعض الأملاك.

وفي حلمه الجديد أن يصحب معه مستمسكات يعتزبها وصور جدي..

لكنه لم يعد.

قتل في احد الانفجارات.

وبقيت أمي تقول والله لو أطاعنا والدك ولم يذهب ماذا استفدنا من العراق؟

4

في الليل اتصلت بوالدتي التي كانت ترفض من حيث المبدأ العمل في نوتنغهام.أخي الأصغر علي أنهى الثانوية ثم تزوج من فتاة أرجنتينية الأصل وغادر معها إلى لندن.أختاي تزوجت واحدة في الإمارات والصغرى بيتها قريب من سكننا في برمنغهام.تخشى بعد عمر طويل أن نقذفها في بيت للعجزة .وربما تخاف من أن يقتحم البيت ذات ليلة لص فيذبحها.وعلى الرغم من طيبة صهرنا وعرضه السكن معهما إلا أنها رفضت.

تأنف!

ولو كان زوج أختي عراقيا لتلقى الجواب ذاته..

أما أنا فما علي إلا أن أتبع مايحقق مصلحتي.بعد تخرجي فيقسم البسايرستك وجدت فرصة للعمل في نوتنغهام.عمل ذو ربح بوجهٍ إنساني أختي ماجدة تضجك وتستغرق في الضحك.

تسخر تضع ابهاميها عند صدغيها وتزعق وهي تفرط في الضحك .ستقضي عمرك مع المجانين.

تسنفزني.

تلك الليلة استمرت أمي في شكواها شأنها كلما ردت على أية مكالمة لي.تركتموني وحدي.هذا جزاء التربية.لو كانت جدتك حية لما شعرت بأية وحشة.طلبت مني أن أكون عندها خلال عطلة الأسبوع، ووعدتها وفي بالي أن أختلق عذرا ما.على الأقل آمل أن أقضي شهرا بكامله لا أغادر نوتنغهام.هذا أول يوم لي في العمل. أول يوم لانطلاق فايروس جديد من الصين.يوم مرعب حق!ا، قد يتحمّل البشر القتل وصنوف الأسلحة الفتاكة، أما أن يحاربهم شيء لايرونه، يداهمهم فجأة...وقبل أن أغلق الهاتف فاجأتني بخبر جديد.

اتصل بزوج عمتك وخذ من خاطره فقد قتل ابن أخيه في تظاهرات الناصرية اليوم!

مجرد أخبار ألتقطها من بعيد.

أسمعها.

أتفاعل معها وقد لا أنفعل.

كان والدي يصحبني إلى المسجد في نوتنغهام.أصلي معه.يريد أن يترك في نفسي بعض آثار الشرق.أحضر أنا وأخي معه مراسم عاشوراء والعيد.أحيانا أسمعه يدخل مزاحا مع أصحابه في المسجد أو خلال التبضع من المحلات الشرقية.أسمع بعضهم يردد الشجرة الخبيثة.قلت إنه مزاح.وحين أسأل أمي أو جدتي عن معنى الشحرة الخبيثة تقولان..سفاهة.هؤلاء سفهاء. ثم أدركت أن هذا لمز على الناصرية.الحزب الشيوعي خرج من هناك.حزب البعث.الدعوة.فهد.. الركابي. الرفاعي. بلاء العراق من هناك.لكن ماذا علي أن أفعل أنا المولود في بريطانيا لابوين جاءا من الناصرية؟زوج عمتي نفسه كان يعارض التظاهرات الأخيرة التي انفجرا قبل كورونا.آخر حديث كان في نوتنغهام.ضغطت أمي على مايكرفون الآي باد لأشترك معهما في الحديث.كان يقول إن المظاهرات الأخيرة حدثت بتحريض من أمريكا..أثارت الشارع على رئيس الوزراء بعد عودته من الصين.الاتفاقية ستبني لنا محطات كهرباء وتعبد شوارع، مر على أمريكا أربعة عشر عاما والعراق من دون نور أو ماء حلو..لا شوارع..لا نظام. فوضى.. كان زوج عمتي يكره الحكومة لكنني أجده مثل زميلي في العمل كالم ينطق بكلام لا أستطيع أن أفنده.

على الرغم من ذلك فلا بدّ من أن أتصل به.

***

رواية قصيرة

قصي عسكر

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم