صحيفة المثقف

أمام المرآة

قصي الشيخ عسكرالجزء (4 و5) من رواية: كورونا

في الليل اتصلت بوالدتي التي كانت ترفض من حيث المبدأ العمل في نوتنغهام.

بعدي عنها بضعة أيّام في الأسبوع جعلها لا تخفي تذمرها كلما حدثتني في الهاتف.

أخي الأكبر صبيح أنهى الثانوية ثم تزوج من فتاة أرجنتينية الأصل وغادر معها إلى لندن يعملان في مشاريع سياحية. بان الانشراح على وجوهنا يوم بعث لنا عبر النت بصور، وتسجيلات لشهر العسل من بوينس آيرس في بيت عمه والد زوجته.. أختاي تزوجت واحدة في الإمارات والصغرى، بيتها قريب من سكننا في برمنغهام. أمي تخشى بعد عمر طويل أن نقذفها في دار للعجزة. وربما تخاف من أن يقتحم البيت ذات ليلة لص فيذبحها. وعلى الرغم من طيبة صهرنا وعَرْضِه السكن معهما إلا أنها رفضت.

تأنف!

تشعر بالحرج حين تعيش في بيت صهر!

ولو كان زوج أختي عراقيا لتلقى الجواب ذاته..

أما أنا فما علي إلا أن أتبع مايحقق مصلحتي. بعد تخرجي في قسم البسايكترسك وجدت فرصة للعمل في نوتنغهام. وظيفة ذات ربح بوجهٍ إنساني.. أختي ماجدة تضجك وتستغرق في القهقهة.

تسخر تضع إبهاميها عند صدغيها وتزعق وهي تفرط في الضحك . ستقضي عمرك مع المجانين وفي النهاية وفق المثل من عاشر القوم أربعين يوماصار منهم تصبح واحدا منهم.

تسنفزني. فابتسم:

والله كلامك صحيح والدليل أني عشت معك!

تلك الليلة استمرت أمي في شكواها شأنها كلما ردت على أية مكالمة لي. تركتموني وحدي. هذا جزاء التربية. ليت اللص يرضى بالنقود وحدها.. القتل.. الذبح.. كم عجوزا وجدت مقتولة في بيتها.. لو كانت جدتك حيَّة لما شعرت بأيَّة وحشة.. طلبت مني أن أكون عندها خلال عطلة الأسبوع، ووعدتها وفي بالي أن أختلق عذرا ما. على الأقل آمل أن أقضي شهرا بكامله لا أغادر نوتنغهام. هذا أول يوم لي في العمل. أول يوم لانطلاق فايروس جديد من الصين.

يوم مرعب حقا.

قد يتحمّل البشر القتل وصنوف الأسلحة الفتّاكة، أما أن يحاربهم شيء لايرونه، يداهمهم فجأة.. . وقبل أن أغلق الهاتف فاجأتني بخبر جديد.

اتصل بزوج عمتك وخذ من خاطره فقد قتل ابن أخيه في تظاهرات الناصرية اليوم!

مجرد أخبار ألتقطها من بعيد.

أسمعها.

أتفاعل معها وقد لا أنفعل.

كان والدي يصحبني بضع الأحيان إلى المسجد في برمنغهام. أصلي معه. يريد أن يترك في نفسي بعض آثار الشرق. لايجبرني قط.. ولا يتدخّل في شؤون أختينا.. يرى أن لكل جيل طباعه وخصوصيته.. أحضر أنا وأخي معه مراسم عاشوراء والعيد. أحيانا أسمعه يدخل مزاحا مع أصحابه في المسجد أو خلال التبضع من المحلات الشرقية. أسمع بعضهم يردد الشجرة الخبيثة. قلت إنه مزاح. وحين أسأل أمي أو جدتي عن معنى الشجرة الخبيثة تقولان.. سفاهة. هؤلاء سفهاء ثم أدركت أن هذا لمز على أهل الناصرية بلد أبي وجدّي. أدركت فيما بعد أنّ الحزب الشيوعي خرج من هناك. حزب البعث. الدعوة.. نحن فقراء لكن مثقفون.. كلّ التيارات خرجت منا.. وبالمزاح والنكتة يرى الآخرون أن هذا هو سبب بلاء البلد.. الطامة الكبرى من هناك. فهد.. الركابي. الرفاعي. أسماء تمرّ بي فلا أعيرها أيّ اهتمام..

ترسخ في ذاكرتي أو تزول بعد بضع دقائق.

أحداث جرت وأنا لم أولد بعد..

وأناس عاشوا وماتوا في بلدآخر مازال جيل أبي يتحدّث عنهم..

لكن ماذا علي أن أفعل أنا المولود في بريطانيا لأبوين جاءا من الناصرية؟زوج عمتي نفسه كان يعارض التظاهرات الأخيرة التي انفجرت قبل كورونا. آخر حديث كان في نوتنغهام. ضغطت أمي على مايكرفون الآي باد لأشترك معهما حول أحداث أجدها بعيدة عن طِرازِ حياتي. تبدو بنظري تافهة أكثر مما هي قبيحة.. كان يقول إن المظاهرات الأخيرة حدثت بتحريض من أمريكا.. الأفعى أثارت الشارع على رئيس الوزراء بعد عودته من الصين. الاتفاقية ستبني لنا محطات كهرباء وتعبِّد شوارع.. تؤسس مجاري.. مشاريع تماطل فيها أمريكا تنجزها الصين بعام، مرّ أربعة عشر عاما والعراق من دون نور أو ماء حلو.. لا شوارع.. لا نظام. فوضى.. كان زوج عمتي يكره الحكومة لكنني أجده مثل زميلي في العمل كالم ينطق بكلام لا أستطيع أن أفنِّدَه.

على الرغم من ذلك فلا بدّ من أن أتصل به.

5

وأقف شأني كلَّ يوم أمام المرآة.

سبعة مصابين بفيروس كورونا.

اثنان بريطانيان واليابان تحجز باخرة على متنها رعايا انكليز.

يستفزّني خبر آخر:

سقوط خمسة قتلى في الناصرية والعدد يصل إلى 525

كان حديثي مع زوج عمتي مقتضبا. إنه الآن يفكر كيف يساعد أقاربه على الهجرة. يتبع طريقة جدتي قبل ثلاثين عاما. تكرّر في أغلب الأحيان الخارج من العراق مولود والعائد إليه مفقود. وأظن أن أبي كان أول ضحية تصبح عبرة لمن يعصي حكمتها الأثيرة. أسمع الأحداث فأشعر بالأسف..

لا أبالغ إذ أصفه أسفا..

انزعاجا..

لا أشعر أنه حزن.. وأجد أن أمي لا تخفي انفعالاتها. أما شغل أبي الشاغل فكان الحديث عن العراق ومشاكله. ربما يشعر بالضجر حين أتحدث أنا وأخوتي باللغة الإنكليزية. نجدها معنا في المدرسة والشارع. في النوادي الرياضية، والمسابح. دور السينما. المسرح. برمنغهام تغص بالمسلمين، والتعاونية العربية الإنكليزية تجد مكانا في مبنى البلدية يتعلّم فيه الأولاد اللغة العربية. ثلاث ساعات يوم السبت أجدها ثقيلة.. .

ضجر..

ساعات تفسد عليّ عطلة نهاية الأسبوع وساعلت التزحلق على الجليد. ذهني لا يتوافق مع الفاعل والمفعول. وضرب عمرو زيدا. كثيرا ما نغتنم الفرصة فندير التلفاز على القنوات الإنكليزية.

X factor

British god talent

Shyn the singer will win

Dancing on ice

أرطن مع أختي وأخي: أراهن أختي أن الروسية الراقصة على الجليد ستفوز هذا العام. الروس أفضل العالم في الرقص على الجليد. في المدرسة أيضا يتوقع معظم التلاميذ فوز الروسية، ونختلف فيمن يفوز في مسابقة أكس فاكتور، أما حديث الثلج فيستفزني:

يثيرني.

أكاد أجربه.

أمي تستنكر:

أخشى أن تقع فتنكسر يدك.

أغرق في الضحك وأعترض:

لو طبقنا هذه القاعدة لأعرض الناس عن جميع الرياضات فلا كرة قدم ولا سلة ولا تزلج على الجليد.

ويعقب أبي :

دعيه يجرب صحيح ليس كل من يفعل ذلك يقع وتنكسر يده!

 ويمد يده إلى الريموت كونترول، فيغير إلى محطّة الأم بي سي أو العربية وأجد أمي لا تكتفي بالتذمّر: قرفتمونا.. وجدتي تضحك وتتساءل بماذا ترطنون.

الماضي مازال يتطفل.

لا يزعجني.

حقّا أراه جميلا في بعض جوانبه.. مشرقا أحيانا.. نضحك من جدتي حين نوضح لها إني أتوقّع مثلما يرى تلاميذ المدرسة أن الجمهور الإنكليزي في صالة استعراض x factor سيختار الشاب الإفريقي الأصل ذا الصوت الأجمل.. فتستغرب.. أبصر الدهشةبعينيها.. تظنهم ينحازون، فنسخر في سرنا من سذاجتها. وعندما يتحقق فوز الإفريقي، تعقب :

في كل مكان، وعندنا في العراق السود يتمتعون بأصوات جميلة.

أغلق المذياع وأستعد لمغادرة شقتي.

اليوم سنخرج إلى المسبح أنا وكالم مع الأسبرجر "تايرون"ذي الثانة عشرة العنيف والهاديء في الوقت نفسه.

لايتكلم.

تعرف أنه جائع أو متضايق من ردة فعله.

معلوماتي الأوليّة عنه:أبواه منفصلان.. الأب شرطي، والأم ربّة بيت.. جلست معه في المقعد الخلفي، وراح كالم يقود السيارة.

سألني :

اليوم ينزلون العالم البريطاني من الاتحاد الأوروبي.

سمعت فقط عدد ضحايا كورونا.

الصين عظيمة إنهم يشوهون سمعتها.

الغائب الحاضر جنبي تململ ثم أطلق ضحكة وأشار إلى شئ ما على الرصيف، ربت على كتفه، والتفت إلى كالم:

هل تظن أن سكوتلاندا ستنفصل.

ربما أرجح الانفصال وأشك أحيانا، الواقع رغبة الانفصال موجودة.. كل الخبراء هناك في اسكتلندا حيث النفط إنكليز كيف سيدير الأسكتلنديون بلدهم ولا خبرة لهم مثل الأنكليز؟

وأنت ماذا تفعل؟

أنا زوجتي إنكليزية وبيتي هنا!

ضحكت وتوقفت السيارة ليبقى تايرون بصحبتي حتى قطع كالم التذاكر ودخلنا المسبح.

توجهنا إلى الماء.

نزلنا ثلاثتنا، وبدأ تايرون يعوم. كان يسبح بسرعة مذهلة .

قوة مفرطة.

 أحيانا يغوص بخفة الضفدع.

تذكرت طفولتي والرقص على الجليد، وسباق السباحة حين يصحبنا المعلم ومعنا التلميذات إلى مسبح بلدية برمنغهام. في الصف السابع عمري ثلاث عشرة سنة.

نلعب .

نسبح

يرش أحدنا الماء بوجه الآخر.

لا أكثر من أن تستعرض في ساحة المدرسة لتثير نظر فتاة أو تستغل استعراضك في المسبح. نعرف نحن الأولاد أن كل بنت معنا في المدرسة معجبة بواحد منا..

الأجساد.

النهود الصغيرة تحجبها الحمالات والأفخاذ.. .

أشياء حية بضة رائعة.

وكانت "كريستي" تحتك بي.

تثيرني.

أقرب التلميذات لي. جعلت مكانها جنبي في الصف. وفي الفرص حالما تجد فراغا تجلس قربي تحدثني.

أحيانا أرتجف.

أخاف.

هل أنا في عالم آخر؟

وزاد من خوفي أن أمي استلمت رسالة من المركز الصحي تخص أختي. وحينما ذهبت فهمت من الطبيبة الهندية أنها رسالة عامة تبعثها المراكز الصحية، إلى الأمهات الوصيات على فتياتهن القاصرات تخص فحصا عن السفلس وأمراض الزهري أو الآيدز. أمي ترى أنها رسالةُ مَنْجَسَةٍ لا تخصنا المسلمين. مثل الكلاب هؤلاء. لاحرام ولاحلال. بناتنا عذراوات. لايعرفن الجنس إلا يوم الزواج. ويميل أخي بفمه على أذني مقهقها:

والتفريش؟ أكيد لا يعدي.

لكن أمي تحس بلمزه المكتوم عن البنات الشرقيات:

أنت ماعندك غيرة ولا نقطة حياء. لم يخربكم إلا شيء اسمه التلفزيون والنت لكن ماذا بمقدوري أن أفعل وأنا وحدي مع دنيا مليئة بساعات الكترونية ومجوعة بورد وهواتف نقالة وأفق مفتوح على كلّ ماهو وقح، وتضيف بعد سَوْرةِ حنق. والله تربية البنات أسهل في أوروبا على الأقل البنت لا تفلت مثل الولد!

قد يذوب هاجس التردد.

يقل الخوف حين أدرك أن الأمهات بعد مرحلة الابتدائية يعلمن بناتهن كيف يمارسن ويستعملن حبوب منع الحمل. وتظل الحالات النادرة تثير خوفي. حالة أبوة لشاب إنكليزي عمره اثنتا عشرة سنة وفتاة بعمر الثالثة عشرة. معلمة تمارس الجنس مع طفل في مرحلة الابتدائية. وأخرى تعلم أن شريكها يمارس الجنس مع ابنتها، فتصمت..

أضحك.

أصل إلى قمة التلّة وأنا ألهث، فأضم كريستي إلى صدري. أقبلها قبلة طويلة.

أتلفت حولي فيقع بصري على ساحة خيل تسيجها أسلاك معدنٍ مبروم، وحقول خردل صفراء. أعود إلى تقبيلها ثانية ثم ترفع رأسها وتقول وسط اللهاث:

لننزل إلى هناك

ننزوي خلف أجمة تغصّ بشجيرات الهندباء، ترتمي على ظهرها وتفرج ساقيها..

أندفع

قوة لا أقاومها.

صخب في داخلي.

عنف لامتناه.

فأرتمي فوقها.

لحظات.. دقائق.. . أنفاسي تتلاحق.

ألهث.. .

فأجد أن روحي الصاخبة تكاد تخرج من ذلك المكان وتسيل فيها، فأطلق صيحة وترسل صرخة قصيرة..

أهدأ..

كأني أحلق إلى عالم ناعم يشيع في السكون والخدر..

تغيب في الأفق فأهبط من فوقها، فتلتفت أسفل عجيزتها ترى بقعة دم تختلط بتراب الأرض الرملي الداكن، فتبتسم، تقبلني وتقول:

لم أعد الآن عذراء.

كنت يوم المسبح قد أسرعت إلى الحمام، ثورة أخرى، حركت يدي.. صورتها.. فخذاها اللامعان.. وأطلقت تحت الدش لهاثا مكتوما كأنني أرتب الأمر للقاء اليوم. لا أخفي أني خفت. في الثالثة عشرة من عمري. أمارس مع فتاة بعمري. صورة الصبي الأب والصبية الأم، أصغر أبوين في بريطانيا تلاحقني.

هل أعترف لأمي.

يشغلني بعض الوقت أن أصبح أبا صغيرا لمولود جديد فأقع تحت رقابة البلدية وأهلي، وأجد أمي تصرخ فيّ أن حفيدها ابن حرام وليتها ماتت قبل أن تعيش إلى هذا اليوم ثمّ أتخلّى عن أفكاري السوداء، وأراهن على أن أم صديقتي دربتها على استخدام حبوب منع الحمل، وقد فزت في الرهان على نفسي. ظلت كريستي صديقتي إلى السنة التاسعة. بقينا نلتقي عند أجمة الهندباء، ومرة دعتني إلى بيتها. كانت أمها في العمل. في غرفتها فعلنا الذي نفعله في الأجمة.

كنت أبدو مطمئنا والجميع في المدرسة يعرفون أن كريستي صديقتي!

سنغادر الآن!

ينتشلني صوت كالُم من الماء، فنخرج وبيننا تايرون الأسبرجر. وفي طريق العودة قلت مشجعا :

أنت سباح ماهر ياتايرون!

أطلق هممهمة، وتجاهل كلامي:

مادمت رائعا بهذا الشكل فسنأتي إلى هنا مرة أخرى.

قال كالُم ذلك، ولم يتوقف تايرون عن الهمهمة طول الطريق!

 

قصي الشيخ عسكر

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم