صحيفة المثقف

سر العلبة الفارغة

صالح البياتي لم تبق في دكان  العطارة التي ورثها عن أبيه، سوى علبة معدنية فارغة، استعملها  لشئ آخر غير ما كانت مخصصة اليه.

 انحصرت في أسرته المعروفة منذ أجيال متعاقبة، حرفة التداوي بالأعشاب الطبية.

 كانوا محل احترام وتقديرأهالي مدينتهم الصغيرة، للخدمات الجليلة التي قدموها، في هذا الحقل من المعرفة، فكانت العطارة في زمنهم تجمع بين الطب والصيدلة معا، ولكن الإبن بحسه البدهي ادرك ان مهنة الأجداد ستنقرض قريبا، وسيأتي اليوم الذي تنتشر فيه عيادات الأطباء والصيدليات، فعول بالإعتماد على نفسه، لتعلم اسرار تركيب الأدوية، وبجانب ذلك درس العلوم الدينية التي كان شغوفاً بها، لكنه عندما حصل على الإجازة، لم يتخذها خلافاً للعادة، وسيلة للإرتزاق، لإيمانه ان ارشاد الناس لمكارم الأخلاق وتعاليم الدين الحنيف، عملٌ جليل، ينبغي ان يكون أجره ان شاء الله، الثواب يوم الحساب، لذا انصرف للعمل الحرفي، فصار الناس يدعونه بالشيخ الحكيم.

 لم ينافسه احد في الحرفة، لكن كما يقال لكل شاخص في الشمس ظل يشابهه ويخالفه في آن، فكان ظله رجلًا دجالاً، فمن جهة المشابهة زعم انه يداوي علل الجسد، ومن حيث المخالفة ادعى انه يداوي علل النفس أيضا، كان يسخر من الذين يؤمون دكان الأعشاب الطبية، يشيع انها ستضر بصحتهم على المدى البعيد، لم يصدقونه في بداية الأمر، لكنه استطاع بسحره ومكره ان يقنعهم، فتحولوا عن العشاب، وإلتجأوا اليه طلبًا للإستشفاء حين يمرضون، فكان يعالج المريض بالعوذة والحجاب، وبحرز ورقي يخفيه في محفظة جلدية صغيرة، مكتوبة بطلاسم ، نقشت عليها كتابات بأحبار مختلفة الألوان، على هيئة أشكال هندسية وأرقام وأحرف وصور غريبة.

بعد ان استفحل امر المشعوذ الدجال، واضمحل عمل العشاب، لم يعد العوام يأتون لدكانه، ورغم قلة مواراده من الأعشاب الطبية، وإقتصار عمله على زبائنه التجار والمتعلمين، بقى صامدًا، لكن في  نهاية المطاف، اضطر ان يقلص عمله، فتخلص من العلب المعدنية، المصفوفة بإنتظام على رفوف خشبية، افرغ محتوياتها، في أكياس قطنية بيضاء، راح  يرطب بلعابه طرف قلم  الكوبيا، ويخط  أسماء الأعشاب، فهذه علبة زهرة البنفسج ، وآخرى  نبتة الورد ماوي وتسمى أيضا لسان الثور، وهذه فيها قرون القرنفل، نبتة اليانسون وأنواعها بحسب موطنها الطبيعي، وهكذا كل علبة ألصقت عليها رسمة النبتة التي تحتويها، وبعد ان انتهى من وضع الأكياس بصندوق خشبي أودعه المخزن، لم تبق سوى واحدة فارغة، كانت تحوي عشبة السنامكي، وهي عشبة مباركة، أزال الرسمة التي عليها، وإستذكر مع نفسه فوائدها الجمّة،  لعلَّ أعظمها: (انها شِفاء من كلِّ داءٍ، إلَّا السَّامَ، وهُوَ الموتُ)*.

 كان في صلاة الليل،  يبتهل متضرعا الى الله الا يجربه في محنة يعجز فيها عن مساعدة الناس ، كوباء الطاعون، الذي حكى له والده عن أهواله الفظيعة، وأعداد الذين فتك بهم اثناء تفشيه في العراق، ايّام حكم الدولة العثمانية.

  ترك العلبة على الرف، تتوسط الجدار الخلفي لواجهة الدكان، ظاهرة للعيان لكل من يمر به، وأخذ يجلس في دكانه لمجرد الإجتماع بأصدقاءه، الذين يأتون لرؤيته والحديث معه، او لطلب المشورة ، كان هؤلاء الأصدقاء  هم القلة، الذين لم يؤثر عليهم المشعوذ، يشترون منه ما يحتاجون من أعشاب، او يتبرع بها لهم أحيانا، كما كان يفعل من قبل مع الفقراء المحتاجين، او القرويين الذين كانوا يقايضون البيض والخضار الطازجة بالدواء.

 لم يفصح لسائل، ما تحتوي العلبة المعدنية الوحيدة، ترك الأمر للحدس والتخمين، كل بحسب ما يتفق وفهمه.

 استفحل امر الدجال، وازداد تأثيره أكثر، كالمرض الذي لا يسترجى شفاؤه، حتى سيطر على عقول الناس، فتحكم بأرواحهم وأجسادهم، واجترحت له بطانته من الأعوان والمروجين، قدرات خارقة، أشاعوا انه أحيا ميتاً، وعندما يُسألون، من كان ذاك الميت الذي أحياه، وأين هو؟ يقولون كان رجلا غريباً عن البلدة، عابر سبيل لدغته أفعى سامة، فأحياه العراف، وزوده بما يحتاج من مؤونة الطريق، ورحل دون ان يعلم بقصته احد، شيء غريب، غامض ومبهم في إجابتهم، يوحي في الظاهر انها معجزة، وهكذا يقع بعض الناس أحيانًا في مشاكل نتيجة عدم الفهم، بسبب الإستعماء وأخذ الكلام على عواهنه دون تمحيص وتدقيق في فحواه ومعناه، ولذا نجد ان الإذكياء عادة  لا يخجلون من الإستفسار عندما يستعصي عليهم فهم كلام الآخر، يسألون ماذا تعني؟

 فهل مات الرجل فعلاً من لدغة الأفعى، ثم أحياه العرَّاف المشعوذ بعد موته، ام انه أنقذه من الموت؟

 انتشرت هذه المعجزة الزائفة بين الناس، وأمثالها من الخرافات، وصدقوها.

كان العراف إذا مَرِضَ هو او واحدًا من اتباعة، يبعث امرأة بصفتها خادمة سيدة ثرية، تصف العلة للعشاب وتطلب الدواء وتدفع له بسخاء، ولا يعلم احد بذلك.

 كانت الأمراض العادية التي تصيب الناس آنذاك، مثل نزلات البرد، والزكام شتاءً، والإسهال والزحار صيفاً، نتيجة شرب مياه ملوثة، كانت هي الأمراض الشائعة، التي تعالج بالأعشاب الطبية آنذاك.

يذكر احد جلساء العشاب انه أصيب مرة بالدزانتري (الزحار) صيفا، فوصف له الترياق*، أعطاه فص صغير بحجم حبة اللوز، لونه بني داكن، وشُفي بعد ثلاثة ايّام، كادت أمعائه تتقطع من شدة الإسهال والألم، ولكن بعد ذلك اعتاد على الترياق ليريح أعصابه ويساعده على النوم، وحاول العشاب ان يثنيه بأن يستبدله بزهرة البابونج المهدئة والمساعدة على النوم الهادئ، لكنه لم يفلح، فتركه بعد ان تعهد انه لن يتجاوز الحد المسموح به، الذي  يؤدي الى مرحلة الإدمان.

أخذت الأمراض تفتك بكبار السن والأطفال في العامة، لأنهم وثقوا وإعتمدوا على العراف المشعوذ، وازدادت الوفيات بينهم، فكان العشاب يؤم المآتم، يعزي ويواسي، ويترحم عليهم، لفت أنظار المعزين، انه قبل أن يغادر المكان، يخرج من جيبه دفتراً صغيرا وقلما، يلتفت الى الجالس بجانبه يسأله عن اسم الميت، اذا كان لا يعرفه، وسبب موته، ثم يدون ذلك في الدفتر، ويخرج، دأب على ذلك، وأعتاد الناس على حضوره، كانت له حاسة  استشعار طويلة، يكتشف او يشم الموت عن بعد، كان يعود لدكانه، وينقل ما دونه في سجل كبير، حتى ان بعض المتفكهين، اطلقوا عليه كاتب عزرائيل، وفِي احدى الليالي، بعد عودته لبيته، من احد المآتم، رآى ملاك الموت في المنام، أمره ان يأتي اليه، ويحضر معه سجله الخاص، ليطابقه مع سجله الأصلي، وعندما تمت المطابقة بين السجلين، سأله الملاك، لماذا لم أجد اسم العراف ضمن أسماء الأموات، إعتذر العشاب انه لم يكن يعلم بموته، وسأل متى مات؟ لم يجبه الملاك، ولكن نظر اليه يؤنبه، ارتعب العشاب من نظرته، بعد ايّام من هذا الحلم، توفي العشاب. وبعد مراسم التشييع والدفن، ومأتم التأبين، قام ابنه بفتح الدكان، وانزل العلبة المعدنية الفارغة من الرف، فتحها، وجد فيها ورقتين، وصية العشاب اليه، يوصيه بأن يدرس علم الصيدلة الحديث، وأن يتخذ من دكان العطارة مكانا لعملة، وفِي الثانية، مكتوب فيها بخط انيق، هذه الحكمة التراثية:

 "لكل داء دواء يُسْتَطَبُ به إلا الجهالة أعيت من يداويها"

تمت

***

قصة قصيرة

صالح البياتي

...........................

- تنشر للآول مرة في الصفحة الأدبية للمثقف.

- السنا مكي، نبتة عشبية موطنها مكة المكرمة، وشبه الجزيرة العربية، ينسب هذا الحديث للرسول صلى الله عليه وسلم، رواه الألباني.

- الترياق او الأيفون: مادة مخدرة، وتستعمل أيضا لأغراض العلاج.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم