صحيفة المثقف

التشكيل في مسرحية ديبليكاتا

الكبير الداديسيإذا كانت كلمة مسرح "Théatre" في أصلها الإيتيمولوجي تعود إلى الكلمة اليونانيّة  (Theaomai) والتي تحيل على الرؤية والتمتع بما يُشاهد، فتعني "لنرى" أو موضوع الرؤية، فإن من أكثر الفنون إمتاعا للعين  الفنون التشكيلية، لذلك ارتبط المسرح بالتشكيل والرسم خاصة منذ القديم،  لدرجة  قد لا نجد معها مسرحية دون إبداعات تشكيلية في الديكور والأثاث، ومع ذلك قلما جعلت مسرحية الرسم موضوعها وبؤرة أحداثها، ومحور حواراتها...

  ومسرحية ديبليكاتا التي تعرضها هذه الأيام فرقة محترف أسيف من آسفي  من المسرحيات القليلة التي تقطر تشكيلا من خلال خلق تزاوج فني بين المسرح والتشكيل موضوعا وشكلا: والمسرحية من تأليف الناجي الميراني، إخراج عبد الجبار توريت وتشخيص ثلاثة ممثلين هم صالح مياه، فطومة حينة، ونوال جيراني، أجادت لطيفة حنان في لباسهم ومكياجهم. وعلى الرغم من قلة عدد أفراد الطاقم الذي اشتغل على هذه المسرحية، فقد تمكن من تقديم نص ماتع يترفع عن الضحالة التي تقدمها أغلب المسارح العربية في الفترة الراهنة في عمل مدروس بدقة عبر سبع لوحات بعدد الأيام تتمسرح تحت نفس الديكور.  

قبل ظهور الممثلين على الركح أبدع المخرج في تأثيث الفضاء المسرحي بعدد من القبور على كل قبر رسم جمجمة، وجثتين كبيرتين بلباس أبيض معلقتين تكادان تلامسان الأرض، تطل من كل واحدة جمجمة مجسمة، وتعليق لوحات بخلفيات سوداء تبرز منها جماجم بيضاء ويتوسط المشهد لوحة تشكيلية كبيرة على حامل لوحات تتضمن إبداعا فنيا لملامح جمجمة غير مكتملة توحي بأنها في مرسم... يرافق ذلك انبعاث الدخان وموسيقى تبث الرعب في المتلقي وأصوات أشباح تستغيث وهو المشهد الذي لم يتغير طيلة العرض المسرحي...

من وسط هذا الفضاء تنبعث شخصيتان تحاولان التخلص من كفنيهما والخروج من القبور ومن اللوحات التي تؤثث الفضاء، ليمثل على الركح شبحان بملابس فيها إبداع وإخراج فني لا يظهران للمشاهد تحت الإنارة إلا هيكلان عظميان  يفهم من كلامهما أنهما خرجا من لوحات رسامة: لتكون  لوحات المسرحية  حوارات ومنولوجات حول سؤال الهوية من أنا؟ من أنت؟ من هؤلاء؟ ومحاكمة الرسامة ـــ التي ظهرت بوزرتها البيضاء الملطخة بالألوان والصباغة ـــ لأنها رسمتهما فقراء، وحكمت عليهما إلى الأبد بوضعية لم يختاراها، ولم تكن لهما القدرة على تغييرها. كل لوحة تقدم وضعا إنسانيا مرتبطا بالكينونة والهوية وهده اللوحات هي:

- في اللوحة الأولى  يحاكم فيها الشبحان الرسامة لأنها لم ترسمهما من الأغنياء والوجهاء "وزيرا أو مسؤولا كبيرا" لتقدم الشخصيتان أحلام البسطاء بالغنى والترف، واستهتار المسؤولين وعدم تقديرهم للمسوؤلية الملقاة على عاتقهم، وتنتهي بعبرة (اللي ما عندو ضمير لا يمكن إكون وزير أو مسؤول كبير)

- اللوحة الثانية:  ترسم معاناة الأنا من خلال احتجاج شخصية ممادو كيتا التي تمثل صورة اللاجئ المهجَّر من بلده قسرا، والذي وجد نفسه متسولا يطلب عطف الناس وصدقاتهم وأمام فشله في كسب عطف الناس، يضطر لحمل يافطة مكتوب عليها (لاجئ صوري يطلب المساعدة)  تنتهي  بعبرة (لا تكن غيرك)

- اللوحة الثالثة: ترسم علاقة الحاكم بالمحكوم، تنطلق والشبح المرسوم يستكشف ويتطلع للأفق  ليقف على صمت مريب وتواطؤ الجميع، وهو يهذي من خلال مونولوج يبرز فيه أكل الذئب للقطيع في تواطؤ مكشوف مع الراعي، إننا أشخاص مجرد لوحات رسمها المسؤولون واختاروا لكل شخص صورة نمطية حنطوه فيها، لنعيش (احوالنا مهمومة والعين تبكي مكلومة) لذلك كان طبيعيا محاكمة الرسامة وسمل عينيها، وقطع أذنيها وقطع الريزو (Réseau) عنها باعتبارها مسؤولة حتى تكون عبرة لغيرها ممن يتحكمون في رقاب الضعفاء.

- اللوحة الرابعة: فتاة مرسومة تحاكم الفنانة التي رسمتها عاهرة  تقضي ليلها في احتساء كؤوس الخمر، والغناء بالحانات، وتتهم الرسامة بالمرض النفسي وأنها شخصية "معقدة" سادية يعجيها تقديم الناس في مشاهد مأساوية  لتكون اللوحة  مناسبة لملامسة ملامح الفقر وحياة الفقراء وكيف يوهم الأغنياء الفقراء أن حريتهم وسعادتهم في قبورهم،  لتنتهي اللوحة بضرورة النضال والعمل من أجل تغيير الأوضاع وأن الحقوق تنتزع ولا توهب وأن ما لا يتحقق بالنضال لا يمكن أن يتحقق إلا بمزيد من النضال.

- اللوحة الخامسة: الشخصيتان المرسومتان وقد استأنستا بحياتهما ولم يجدا إلا التكيف مع الواقع والبحث عن سبل تبعدهما عن الواقع المأساوي (السحر والخمر) فيقصد الرجل ساحرة (شوافة) لترسم له مستقبله، وتنتهي اللوحة بتعالقهما وارتباط بعضهما بالبعض في مشهد سكر وثمالة عجزت سيقانهما عن حملهما بعدما لعب الخمر بعقلهما، فتظهر الرسامة متسائلة عمن عبث بمرسمها، وخرب لوحاتها.

- اللوحة السادسة: حوار بين شبحي اللوحتين / الشخصيتين الرئيسيتين حول من يقود سفينة الأسرة الرجل أم المرأة، لتغوص بالمشاهِد في ثنايا الصراع الأبدي بين الذكر والأنثى، وتنتهي بتعداد فضائل ومميزات المرأة المغربية التي لا يضاهيها مخلوق على هذه البسيطة وتفانيها في القيام بواجبها وحفاظها على بيتها وأسرتها...

- اللوحة السابعة: المحاكمة الكبرى للفنانة ومن أعطاها الحق لترسم واقعا متفاوتا تعلي فيه من شأن البعض فترسمه ملكا أو وزيرا وتحط من شأن آخرين فترسمهم فقراء منحطين لتنتهي المسرحية باعتراف  الفنانة  وتبرير مواقفها بالإكراهات التي يشتغل فيها الفنان...

يتضح إذن أن لا شيء مجاني في المسرحية، وأن الرسم ظل حاضرا بقوة  في جميع لوحاتها فكان موضوعَها قلبا وقالبا، رافضا أن يبقى مجرد تقنية مسرحية وأداة للتزيين والديكور وتأثيث الفضاء المسرحي، ليكون آلية فعالة لتبليغ الرسائل، فكان الديكور وأجساد الممثلين لوحات تعبيرية دالة، وكذلك كان في كلامهم جملا مشحونة بدلالات متعددة، وفي تطويع الرسم وإنزاله من برجه العاجي ليلامس هموم الناس البسطاء، وجعله فنا قريبا من هموم الإنسان البسيط وحياته اليومية، وقادرا على مقاربة الأسئلة الحارقة، وتحويل خشبة المسرح لمعرض تشكيلي تفاعلي تتحرر فيه الشخصيات المرسومة في اللوحات من إطارها ومسندها لتحاور المتلقي بعد أن تنبعث فيها الروح وتكون لها القدرة لتحاكم مبدعها.

 

الكبير الداديسي  

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم