صحيفة المثقف

الوهم واغتيال الشخصية وسبل مواجهته

بكر السباتينالوهم هو شكل معين من أشكال التشوه الحسي (تشوه سلوكي) المحفز، وهو من أشكال البرمجة اللغوية والعصبية سلبياً كانت أو إيجابية، أي أن المصاب بالوهم يتعامل مع خليط من الحقيقة والخيال. وهو يختلف عن الهلوسة التي هي تَشوُّه مرضي بسبب غياب الحافز وفقدان البوصلة ما يؤدي بصاحبه إلى اقتفاء أثر المجهول دون هدف.

وإذا أردنا أن نفهم كيف يُصنع الوهم حتى يسيطر على سلوكنا! علينا قبل كل شيء أن نقتفي أثره في عملية التفكير حتى نحلل كيف يشوه أحد أركانها المتمثل بالذهن (الحواس) عن طريق برمجة العقل لغوياً وعصبياً، وسبل معالجتها.. ويحدث ذلك على النحو التالي:

أولاً- مداهمة الوهم للعقل الباطن من خلال الرسائل الخيالية المخادعة حتى يستحوذ على مخرجات التفكير غير المتوازنة ويشوه السلوك محدثاً اختلالات بين الوهم المخادع والحقيقة في العقل الباطن.. حيث أن عملية التفكير التي تقوم على (العقل والدماغ والذهن) تحدث من خلال العقل الباطن الذي يشكل مع العقل الظاهر ما يصطلح عليه بالعقل الكلي.. وفي الظروف المثالية فإنه يتم تطويع العنصر الثاني المتمثل بالدماغ والذي بدوره يقوم بإرسال الأوامر إلى العضو المعني في الجسم استجابة لتفاعل عنصر الذهن (الحواس الخمس) مع المؤثرات الواقعية المختلفة الموجودة في المحيط الملموس، إضافة لتلك الرسائل الناجمة عمّا يرسله العقل الباطن إلى الدماغ والناجمة عن تكرار الرغبة الإيجابية في التغيير، التي يوجهها الإنسان إلى العقل الباطن فيصدقها، ويتعامل معها كرسائل حسية يستجيب لها الدماغ، وهنا تتم عملية البرمجة العصبية بنجاح. أما إذا كانت المؤثرات الخارجية مجرد خيالات تسيطر على الرسائل التي تمر عبر الذهن (الحواس) إلى الدماغ فإن الأوامر الصادرة ستكون غير واقعية أي أن سلوك الإنسان سيبدو مشوهاً.. أي أنها خادعة ومن هنا يولد الوهم. ومعالجة مثل هذه السلوكيات تتم من خلال إعادة توجيه الرسائل المحفزة والواقعية إلى العقل الباطن لتعديل النتائج حتى تتفق مع الصفات الإيجابية المستهدفة.. وهذا يعني أن الإنسان يهيئ نفسه للتطور واكتساب معرفة جديدة والتدرب على ما يستجد عليه من معرفة وخاصة في المبادرات والعمل.

* (الإنسان عبارة عن حقل طاقة تتفاعل مع العقل الممتد بما يعرف بالطاقة الكونية الممتدة، لأن الدماغ يحتوي على موجات دلتا كطاقة كهرومغناطيسية والسيال العصبي كطاقة كهرو كيماوية).

وللتعمق أكثر في آلية التفكير دعونا نتعرف على مهام العقل الكلي بجزئيه (الباطن والظاهر)..

فلدى العقل الكلي مهمتان، تناط الأولى بالعقل الظاهر (الواعي) الذي يفكر بحرية ويكوّن أفكارَ جديدة فهو المسئول عن المنطق والحساب، ويعمل بسرعة 40 بت بالثانية، والبت هي أصغر وحدة قياس للمعلومات الرقمية في الحاسوب والاتصالات.

أما الثانية فتناط بالعقل الباطن وهو مجموعة من العناصر التي تتألف منها "الشخصية"، وقلنا بأنه يحتوي على المحركات والمحفزات الداخلية للسلوك أو أنه مقر الطاقة الغريزية النفسية والجنسية، إضافة إلى الخبرات والتجارب السابقة في جميع مراحل أعمارنا، ويمثل أيضاً مركز العواطف والانفعالات ومخزن الذاكرة، ويعتبر أيضاً الجزء الأرشيفي للعقل حيث يحفظ المعلومات القديمة منذ كان الإنسان طفلاً حتى تلك التي يعتبرها العقل الظاهر عابرة وغير نافعة.

فالعقل الباطن لا يستطيع أن يخرج عن برمجته المحددة، آلياً وتلقائياً، بناءً على ردود الأفعال السلوكية المخزنة مسبقاً، ويعمل بدون علم أو سيطرة العقل الظاهر بطاقة عالية ومؤثرة. فمن بين 96% إلى 98% من القرارات يقررها العقل الباطن دون إرادة الإنسان؛ لذلك يمكن أن نفهم لماذا لا نستطيع الامتناع عن ممارسة ما نحبه حتى لو تضارب الأمر مع مصالحنا أحياناً، أو كان وهمياً لا ينسجم مع البيئة التي ينتمي إليها الشخص المعني فيبدو مشوهاً سلوكياً مؤذياً أحياناً كأن يفترض الإنسان لنفسه عدواً بمعطيات خيالية مخادعة فيتركز هدفه على الانتقام، لذلك فالعقل الباطن هو الأقوى والأسرع بكثير من العقل الواعي، فهو الذي يشكل وينظم طريقة حياتنا. فتَعَلُّمْ قيادة الحاسوب على سبيل المثال، وخاصة الطباعة بداية الأمر يلزمها التركيز التام لأنها عملياً تكون في عهدة العقل الظاهر، ولكن بعد مدة من التدريب تصبح القيادة عادة يتحكم بها العقل الباطن فيصير بوسع المستخدم الطباعة أحياناً بمهارة فائقة دون النظر إلى مفاتيح الأحرف، كذلك الحال بالنسبة للمحاسب الذي يطبع قوائم الحسابات دون النظر إلى الآلة الحاسبة بمهارة مذهلة، وهو الحال نفسه بالنسبة لقائد المركبة الذي سيتمكن بعد الخبرة الطويلة في قيادة المركبة، من التحدث إلى جاره أو استعمال الهاتف أثناء القيادة لأن القيادة بعد التمرين وفي حالات التعب والسرحان تكون في عهدة العقل الباطن الآمنة، وهذا يحدث كثيراً، وكانت تثير لدينا الأسئلة المبهمة التي لا نجد لها تفسيرا منطقياً. وعلاوة على ذلك يمكننا فهم السر الذي يجعل المشرفين على الموت من الكبار يعيشون في الماضي السحيق ويقومون بنبش الذاكرة العميقة في العقل الباطن؛ هذا بالطبع لأن أحد عناصر التفكير المتمثل بالدماغ يكون معطوباً وبما أنه مرتبط من خلال الجهاز العصبي بمكونات الذهن الحسية، فمن البديهي أن يتعطل العقل الظاهر المرتبط بالواقع المنطقي المحسوس؛ لهذا يسيطر العقل الباطن كلياً على أولئك المشرفين على الموت، فيعيشون الماضي بتفاصيله وكأنه واقع محسوس. لذلك وفي التنجيم حينما تقيد العرافة عقل المتلقي الظاهر بالاستلاب فإنه سيصدق عقله الباطن كل تنبؤاتها، وهذا أصبح مألوفاً عند قراءة الأبراج. علماً أن الأبراج تؤثر على بنية الدماغ فيما يتعلق بإصدار موجات دلتا فيه ما سينعكس بالتالي في سلوك الفرد ومزاجه، ويعتمد ذلك على الاختلاف في تركيز الطاقة الكهرومغناطيسية لكل برج، مما سيختلف تأثيره على الدماغ من خلال اختراقها لحقل الطاقة لجسم المولود في هذا البرج.

علماً بأن الأبراج لا تساعد على قراءة المستقبل، كما سنثبت ذلك في سياق هذا المقال. وقياساً على ذلك فالوهم حينما يتاح له السيطرة على العقل الباطن بالمعطيات المخادعة القائمة على الخيال المريض فإن السلوكيات ستكون مؤذية، ولكن يمكن معالجتها عن طريق البرمجة مثل الانتقام القائم على الوهم أو التعامل مع المشاكل من خلال نافذة الوهم المخادعة.

ثانياً: انتخاب الصفات الإيجابية والتخلص من السلوكيات التي يشوهها الوهم.. والاعتماد على قاعدة طبيعة تقول بأن المدخلات في عملية التفكير هي من تحدد صفات المخرجات.. فاستبدال المدخلات السلبية والوهمية بأخرى إيجابية وواقعية تؤدي إلى نتائج سلوكية مقبولة.. وباستخدام نفس التقنيات ولكن بمدخلات معاكسة.. ومن أهم هذه التقنيات:

1: الخداع البصري: مثل المسرح الإمائي والدراما والسينما ثم أخطر هذه التقنيات المتمثلة ب الهلوغرام والنيروفون.

والهولوغرام عبارة عن جهاز حديث يبث موجات ضوئية لِتُكَوّنَ صوراً خيالية في الفراغ دون وجود عاكسات، فتنتشر في الفضاء وفق مسافة محددة. والخطير في الأمر هو ما يرافق الصور المتحركة ذات الأبعاد الثلاثية من بث صوتي خفي منخفض الموجات يتضمن عبارات توجيهية عن طريق جهاز النيوروفون الذي يرسل موجات لاسلكية تخترق الهالة الكهرومغناطيسية المحيطة بالإنسان عن غير طريق القنوات السمعية في الأذن، متجاوزة في تسللها العصب السمعي، فتدخل هذه الموجات مسامات جسم الإنسان وتتصل بالنهايات العصبية؛ لتتحول إلى نبضات كهربائية، فتنتقل إلى الدماغ والذي بدوره يستقبل الإشارة كما لو كان اتصالاً سمعياً، فيعمد إلى إصدار أوامره للعقل الباطن على شكل موجات دلتا بالمستوى المناسب وبالتالي سيستجيب العقل الظاهر للأوامر، وتدخل العملية (المخادعة) برمتها حيز المنطق، وهذا يعني أن الرسائل المبثوثة ستتحول إلى حقائق كأنها مُسَلَّماتٌ لا يجوز البحث في تفاصيلها، لتؤثر بالتالي في سلوك الإنسان المتلقي.. فتترسب آخر المطاف في الذاكرة العميقة الموجودة في العقل الباطن لدى المتلقي وتُسْتَحْضَرْ بالتالي من الذاكرة العميقة حين اللزوم كقناعات راسخة وحقائق بديهية.

2: التضليل الإعلامي (البروبغاندا) واغتيال الشخصية:

وهي نشر المعلومات بطريقة موجهة أحادية المنظور وتوجيه مجموعة مركزة من الرسائل بهدف التأثير على آراء أو سلوك أكبر عدد من الأشخاص. وهي مضادة للموضوعية في تقديم المعلومات الناقصة بغية التأثير العاطفي على المتلقي.. ويمكن إدراج الرسم الكاريكاتوري في هذا السياق.. ويتضمن ذلك ما يلي:

أ - بث الأكاذيب وخلط الأوراق لتعميم فوضى البيانات وخاصة في مواقع التواصل الاجتماعي الذي ينتشر في فضائه الافتراضي طنين الذباب الإلكتروني من أجل قلب الحقائق وإدخال المتلقي في دائرة الشك وعدم اليقين وإرباك عملية التفكير المنطقي.

ب - الدعاية والإعلان والعلاقات العامة ما بين إظهار الميزات الإيجابية للسلع أو الأشخاص أو توظيف التقنيات الإعلامية المختلفة لقتل شخصية الآخر وصرف نظر الجماهير المستهدفة عنه.. حيث تستغل التقنيات الحديثة والسيكولوجية للتأثير في الرأي العام وتوجيه أفكار وقرارات الناس السياسية والاجتماعية وحتى الدينية، من أهمها: القولبة من خلال تسويق الأشخاص أو السلع في قالب معين ما بين السلبي والإيجابي حسب الغرض، والتنميط وتسمية الأشياء بغير مسمياتها، وأيضاً إطلاق الشعارات والاعتماد على الأرقام والإحصائيات ونتائج الاستفتاء والإيهام بمنح فرص الحوار والتعبير عن الرأي لجميع الاتجاهات.

من هنا استحدثت الحكومات وزارة الإعلام أو المجلس الأعلى للإعلام ليقوم بمهمة الدفاع عن سياساتها في السلم والحرب سواء من خلال تبرير الإخفاقات مثل تعثر التنمية أو تراكم الديون واللجوء إلى صندوق النقد الدولي ثم الخضوع لشروطه وانعكاس ذلك على معيشة المواطنين.

وبعض الدول العربية التي تسعى للتطبيع مع الكيان الإسرائيلي تقوم بإيهام شعوبها بأن العدو بات صديقاً ويجب التطبيع معه.. بالمقابل فإن الدعاية المضادة تعيد الحقائق إلى مجراها الطبيعي.

ج - قتل الشخصية من خلال بث الدعاية الكاذبة، بالإضافة إلى الدعاية الدينية التحريضية القائمة على إثارة الفتن الدينية والطائفية في كل الأديان والأيدولوجيات من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار.

د - تزوير الحقائق التاريخية من أجل منح الشرعية للحروب ولتحقيق الاطماع التوسعية وإقامة الإمبراطوريات، فالهيمنة والاحتلال والانقلابات السياسية جميعها تبحث عن الشرعية وعن التمويل ولا يمكن ذلك بدون الدعاية، وهذا ما فعلته الصهيونية توطئة لاحتلال فلسطين.

هـ - الاستلاب وفقدان القدوة ويتحقق ذلك من خلال عرض أفلام الرسوم المتحركة والتركيز على شخصيات مسيطرة على عقول الصغار وتعزز فيهم الشعور بالنقص أمامها لتستلب إرادياً من قبلها بحيث يلجأ إليها الصغار عند الملمات فتباء جهودهم بالفشل ليصابوا بالإحباط مثل شخصية سوبرمان وغيرها.. وهي شخصيات غير ملهمة إيجابياً بل تمثل المنقذ الذي يخلق في الإنسان روح التبعية والاستلاب.

ومواجهة هذه التقنية تتم من خلال توجيه أسئلة مضادة إلى العقل الباطن من أجل عكس النتائج.

ومن أشكال الاستلاب ما يعرف بتنبؤ المنجمين اعتمادً على الأبراج.

فكثيرة هي البرامج الاجتماعية الصباحية التي يطل من بعض فقراتها كل حين خبير للأبراج يملأ الوقت بالتنبؤات وقراءة المستقبل للمتصلين به وخاصة اليائسين من الجنسين.. وبالطبع فمعظم هذه الاتصالات تخرج من الاستديو لتوحي بأن البرنامج تفاعلي بامتياز على نطاق واسع.. يحصل هذا وكأن الإنسان يميل إلى أن يُخْدَعُ بسهولة.. فقد كذب المنجمون ولو صدقوا. إذ لا بد من توفر أربعة عناصر لوقوع أي"حدث" كوني في الزمكان، وهي:

- الدوافع النفسية والمقدمات الفيزيائية (في الحوادث الكونية).

- الإنسان وما يشارك به من فعل مباشر أو حدث يتزامن مع وجوده مع الأخذ بعين الاعتبار مبدأ عدم اليقين الذي تخضع له معايير الرصد الكونية وفق نسبية أينشتاين والكون الأحدب.

- الزمان.

- المكان.

وهي عناصر لا بد وأن تتوفر لأي "حدث" وقع في الماضي، أو يقع الآن في الزمن الحاضر؛ وقد يحدث مستقبلاً. وعليه فإنه من غير الممكن التنبؤ بوقوع أي "حدث" في المستقبل؛ لاستحالة اجتماع العناصر أعلاه في وقت واحد ما دام عنصر الإنسان موجود في الزمن الحاضر.. أي أنه لا يمكن للإنسان القفز عبر الزمن إلى المستقبل حتى تكتمل عناصر الحدث فيتم التنبؤ بوقوعه، لذلك هو خاضع للاحتمالات.. إن اجتماع وجود عنصر إنسان معين في الزمانين: الحاضر والمستقبل، شيء لا يتقبله العقل؛ لأنه يخالف المنطق الفيزيائي.. الذي يتحكم بالزمكان وفق النظرية النسبية.. مما يثبت أن عمليات قراءة المستقبل هي وهم يسوّقه المنجمون النصّابون لفاقدي الأمل. ويمكن إدراج ما يقوم به المنجمون من تنبؤات في خانة البرمجة اللغوية والعصبية السلبية التي من شأنها إيهام العقل الباطن بحدوث المستحيل فيصدق الإنسان ذلك دون أن يعطي الذهنْ (الحواسْ)،صورة حسية ملموسة الأبعاد حتى يصدقها العقل الظاهر.

المستقبل قد يقع في دائرة الاحتمالات بناءً على ما يتوفر من معطيات فيزيائية مثل التنبؤ بالطقس باستخدام الخرائط، أما إدخال الحدث المستقبلي في دائرة اليقين من باب التنبؤ وأنت في الحاضر فهذا مستحيل

والخلاصة أن إعادة البرمجة الإيجابية والتخلص من المدخلات السلبية والوهمية لا تتم دون تضافر الجهود التنموية الشاملة بدءاً من المؤسسات التربوية والتثقيفية وصولاً إلى الإعلامية لصناعة إنسان إيجابي ومواطن صالح مبادر خلّاق.. وذلك باستبدال تقنيات التَعْليم والتبعية الفكرية والسلوكية التي تؤدي إلى سلوكيات مشوهة تسيطر عليها الأوهام غالباً، واللجوء إلى تقنيات التعلّم والتدرب والتحفيز التي تبعث في الإنسان روح المبادرة والابتكار القائم على الخيال الواقعي بعيداُ عن الخيال المريض المليء بالأكاذيب.. حتى يقترب هذا الإنسان من الواقع ويؤثر فيه كعنصر بشري فاعل في التنمية.. ويؤمن بثقافة الحوار بعيداً عن وسائل المواجهة السلبية وقتل شخصية الآخر من أجل تحقيق الذات عبر صفقات تحريضية غير عادلة.

 

بقلم بكر السباتين

.....................

* محاضرة ألقاها بكر السباتين في نادي صديقات الكتاب في الشميساني بعمان.. يوم السبت الموافق 22 فبراير 2020

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم