صحيفة المثقف

الحاكم والمحكوم في العالم العربي.. مقاربة نفسية اجتماعية (3-3)

قاسم حسين صالحالركن الثالث في أشكالية السلطة في العالم العربي هو الحاكم. ولدى تمعننا في تاريخه توصلنا الى انه لا احد يدخل السياسة الا وعنده ميول عدوانية.. وأنه يكون امصاب بواحدة أو اكثر من الآتي:

أولا: البارانويا. في اليوم الذي يجلس فيه الحاكم العربي على كرسي الحكم، فان البارانويا تجلس معه، ونعني بها الشك المرضي بالآخر المتمثل بسرعة الاتهام للاخرين بالكذب والتآمر عليه، والخوف من الاستيلاء على الكرسي حتى من اقرب الناس اليه بمن فيهم أخوته، ومن يومها ينشغل فكره باوهام واضطهاد وتآمر عليه تتحول لدى بعضهم الى هذيان نفسي يكون موضوعه كرسي الحكم.

ثانيا: الهوس السلطوي

المؤسف، أن معظم القادة العرب ورثوا عن أسلافهم القادة هوسهم بالسلطة أكثر مما ورثوا عنهم فضائلهم وترّفع الندرة منهم عن ملذاتها. ويعدّ الحكّام الذين استلموا السلطة في العراق يعد (2003) أقبح نماذجهم في العصر الحديث بهوس (الثروة)...والمفارقة، ان معظم الذين انتخبوهم يعيشون في جحيم الفقر!.. وان ابناءهم يشاركون في تظاهرات واحد تشرين/اكتوبر وبينهم من استشهد برصاص سلطة الحكّام الذين انتخبهم آباؤهم!.

ثالثا:غريزة السطوة

في متابعتنا للمشهد السياسي العراقي من عام (2005) وجدنا قادة سياسيين يبدون في ظاهرهم ديمقراطيين فيما تعمل بداخلهم نزعة السطوة. ولأن السطوة والديمقراطية لا يمكن ان يجتمعا فأنهم عاشوا حالة تناقض وجداني وسلوكي وامتلكوا اهم مصادرالسطوة:الثروة بحيازة القاعدة الذهبية (من يملك الذهب هو القادر على وضع القواعد)، كانت آخرها قتل اكثر من ستمائة واصابة اكثر من عشرين الفا، في انتفاضة تشرين/اكتوبر، وكأن هؤلاء المتظاهرين قوم غزاة وليسوا شبابا صروا ستة عشر عاما وانفجروا يطالبون بحقوق مشروعة.

رابعا: الغطرسة والسلطة

تتجسد ملازمة الغطرسة في الحاكم العربي بثلاثة اعراض: (استعمال لقب نحن) و(الاعتقاد الراسخ بتبرئته امام الله والتاريخ) و (الاقتناع بالاستقامه)..غير ان أخطرها أنه يصبح متوحّدا بالسلطة، مختزلا الناس والوطن في شخصه. والمفارقة ان الحاكم العربي لا يدرك ان الغطرسة هي احد الأسباب التي تسقط الحاكم من الكرسي. مثال ذلك، جاء ضابط رفيع الى الأمير عبد الأله والباشا نوري السعيد يخبرهما بحركة انقلاب عسكري(14 تموز 1958) فلم يكترثا، وكذلك سخر معمر القذافي من المتظاهرين.. وقتل ببشاعة، وعاند صدام ولم ينسحب من الكويت..فأعدم. ويبدو ان الغطرسة علّة كل الحكام المستبدين، فحين حذروا الدكتاتور نيقولاي شاوسشيكو من التظاهرات، اجابهم ساخرا:لن يحدث تغيير في رومانيا الا اذا تحولت أشجار البلوط الى تين!..وانتهى به الأمر الى اعدامه.

خامسا: الحول العقلي

اثبتت احداث ما بعد 2003 ان العقل السياسي العراقي ادمن على انتاج الأزمات وغير قادر على حل المشكلات، لأن الادمان على الازمات كالادمان على المخدرات. .ففي الحالتين يحدث للعمليات العقلية في الدماغ برمجة ثابتة تجعله يعتاد على تفكير نمطي محدد يجبره على تكراره. وانهم لن يستطيعوا ان يتحرروا فكريا من معتقدات ثبت خطؤها، ولن يستطيعوا ان يجدوا حلّا او مخرجا لما هم فيه، بل انهم سيعرّضون ملايين الناس الى مزيد من الأذي، لأن عقلهم مصاب بخلل ادراكي نحتنا له مصطلحا سيكولوجيا جديدا هو (الحول العقلي).. الذي يرى أن معتقداته هي الصح والأصلح وأنه على حق مطلق وما عداها وعداه خطأ وباطل.

وأخيرا، يبقى لدينا الركن الرابع في فهم هذه الأشكالية والمتمثل بالمحكوم..المواطن العربي.. نوجزها بأننا اذا استثنينا المناضلين من رجال الدين الى الشيوعيين والقوميين الذين ثاروا ضد الحكام الطغاة، فان الغالبية المطلقة من الشعوب العربية تعودت الخضوع والخنوع والتملق للحاكم ، لسببين، الأول.. تبريري، بتخريج ديني (وأطيعوا اولو الأمر..)، والحاكم هو ولّي الأمر المطلق، والثاني..الشعور بالعجز المصحوب بالخوف من بطش الحاكم.. ما يعني ان (الشعب) شريك في جعل الحاكم يحب الكرسي، بل انه قام بتأليه كثيرين، ووصف حكاما طغاة بأنهم هبة السماء للأرض.وكان للدين الأسلامي دوره في صتاعة سيكولوجيا المحكوم ايضا، لكونه يعاني من اشكالية خطيرة تتحدد بتعدد مذاهبه:اربعة في السنة ومذهبان في الشيعة، فضلا عن مذهبي الأباضية والظاهرية.

استنتاج

ان هذا التحليل يقود الى انه لا توجد الآن في العالم العربي دولة مدنية بمفهومها الحديث الذي يعني الدولة التي تحمي جميع أعضاء المجتمع وتحافظ عليهم بغض النظر عن اختلاف انتماءاتهم الدينية والقومية والفكرية، وتعمل على اتحاد وتعاون الأفراد وفقاً لنظام تسوده علاقات قائمة على: قبول الآخر، التسامح، السلام، المساواة في الواجبات والحقوق، وقضاء عادل في تطبيق القوانين، فضلا عن سلطة عليا تُعرف بسلطة الدولة، يلجأ إليها الأفراد حين تهدد حقوقهم بالانتهاك..واننا بعيدون زمنيا في الوصول اليها بما فيها الأنظمة العربية التي تقر دساتيرها بأنها ديمقراطية.. للعلل التي شخصناها من منظور علم النفس والأجتماع السياسي في اركان هذه الأشكالية الأربعة:السلطة والدين والحاكم والمحكوم.

توصيات

- دعوة اساتذة الجامعات في العالم الى تقديم مذكرات او التماسات الى الأمم المتحدة والأتحاد الأوربي ومنظمات حقوق الأنسان والجامعة العربية بالضغط على الحكومة العراقية والزامها باحترام حق التظاهر والتعبير عن الرأي، ومحاسبة كل من ارتكب جرائم قتل ضد المتظاهرين السلميين في العراق..اعتبارا من تاريخ 1 اكتوبر 2019.

- دعوة المؤتمر الى تفعيل دور العلوم التربوية والنفسية والاجتماعية في مجالات الحياة كافة لاسيما المجال السياسي المأزوم بالعنف والفوضى وخوف الناس من المستقبل.

- التنسيق بين علماء النفس والأطباء النفسيين والمرشدين التربويين وعلماء الاجتماع لدراسة ومعالجة الظواهر السلبية التي ازدادت مؤخرا والمتمثلة بالطلاق والمخدرات والألحاد والأنحرافات الجنسية، وتأمين متطلباتها المادية والبحثية.

- عقد مؤتمرات تهدف الى تفعيل الوظيفة الأساسية للجامعات في بناء الأنسان ودوره في صنع الحاضر والمستقبل.. والكف عن اشغال المواطن في التباهي بأمجاد الماضي، الا بما يعزز دوره في التفكير بتغيير الحاضر.

 

أ. د. قاسم حسين صالح

مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

..............................

* نص المحاضرة التي القيت في المؤتمر الدولي للعلوم الانسانية (جامعة جيهان 12-13 شباط 2020)

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم