صحيفة المثقف

مع كريستي

قصي الشيخ عسكرالفصول (8 و9 و10) من رواية كورونا


تركت وجهي في إحدى زوايا البيت وخرجت!

طويلا وقفت تحت "الدشّ" أدلك وأطهّر جسدي من نجاسة الصباح.

غتيان غاب عني وقت الحادثة.

شعور بالتقيؤ.

بعد دقائق يخفّ كلّ شيء، وتنبعثت من جسدي روائح الكريمات والعطور الحمام الساخن أصبحت بخفة البالون وقد تجرد جسدي عن كلّ مايثقله، فاستلقيت على السرير وكنت أستغرق بنوم عميق.وحين استيقظت متأخرا، شعرت أني نفضت بنوم عميق الليلة البارحة كلّ تعب الأمس.لمحت الشارع من النافذة فوجدت المطر مسح الثلج والعاصفة خفّت.

كانت أغصان الاشجار تتمايل برفق.

هل حلمت؟

ربما..

أعرضت عن سباق الكورونا والناصرية. بل راجعت وأنا أتناول الفطور آخر أرقام الضحايا.لم يعد يهمني العدد، الآن تذكرت.قلت من قبل ربما حلمت. تأكدت الآن من أنَّه حلم غير عاديّ.

شيء رائع أن أعود ثانية إلى أعوام الدراسة..

مع كريستي في المدرسة

الحادث حصل في رمضان عندما كنت في الصف الثاني سنة تعرّفي بها إذ أثبت فحولتي وافتخرت بأنها أصبحت سيدة.لست عذراء قالتها لي وقالت لمن معها من فتيات الصف.بالتأكيد زميلاتها يعرفن من.. كنت أجلس معها على مدرجات المدرسة فترة الاستراحة الطويلة، نأكل ال "snicker" نراقب بعض التلاميذ يلعبون كرة السلة.لا أذكر أن أبي أو أمي أجبرا أحدا منا على الصلاة والصيام.أبي صحبني أنا وأخي صبيح مرة أو مرتين إلى المركز الإسلامي.وجدَّتي علمت صبيحا اسماء الأئمة والصلاة قبل دخوله المدرسة، فأحببت أن أتعلمها.في مدرسة اللغة العربية يوم السبت صلّى بنا المعلّم.. وفي البيت حاولنا أنا وصبيح ومعنا ماجدة أن نصلي.. وقف صبيح أمامنا يمثل دور الإمام لكنه قطع صلاته مرتين تركنا واقفين وذهب إلى الحمام يتوضأ من جديد.يقول إنه أخرج ريحا.لم نشتمّ عفونة مع ذلك وضعنا أيدينا على أنوفنا.أمي وجدّتي استغرقتا في الضحك.ولعلني فكرت أن أصوم رمضان وأنا مازلت في السنة الأولى من دراستي.ضحكت أمي وعقبت عندك دروس.التفت أنت وإخوك إلى المدرسة.مازلت صغيرا ثم إنكما تبولان واقفين تعلم حين لاتبول واقفا فكّر بالصيام.فانبرى صبيح ساخرا:

آمال وماجدة لاتبولان واقفتين فلم لا تصومان.

سخيف تقول آمال وتشيح بوجهها.

وقد صمتُ..

لكنني أفطرت بعد ساعات

كان الفصل صيفا والنهار يطول إلى الساعة العاشرة مساء.

لم أصبر..

غير أن الأمر، هذه المرة بدا أكثر غرابة، كان معنا صبيّ من المغرب في الصف التاسع.. أكبر مني بسنتين.. اعتاد حالما يراني مع كريستي أن يهمس بصوت منخفض واضح وهو يتطلع في الأرض punk ظننت أنه يحدِّث نفسه أو مصابا بعوق ما.. هذه المرة وقف أمامي وجها لوجه.جحظت عيناه وخاطبني باللغة العربية:

أنت من الشرق فاسق كافر تقترف الزنا وتجهر بإفطار رمضان في العلن.

نهضت، واندفعت نحوه غير أن كريستي سبقتني ..

وضعت يديها بصدره ودفعته بقسوة لبوة.. صرخت:

 coward dirty go away

لم يتوقع أن تكون صديقي بهذه الصورة من العنف، فاختلّ توازنه وسقط على قفاه وقبل أن أصل إليه وفي نيتي أن أوسعه ركلا في أي مكان من جسده حجز التلاميذ بيننا، وراح بعضهم يزعق.

في الوقت نفسه اكتشفت قوة أمي وطيبتها. همّ أخي أن يترصد عند باب المدرسة فحذرته، وفي اليوم التالي قابلت المدير وصاحت بوجهه:أنا صائمة لكن قل كيف يصوم طفل بعمر أبني والنهار لا يطاق بطوله المفرط.هؤلاء دواعش قتلوا أباه في العراق ويرومون قتل الابن، وأنتم تسكتون عنهم.تدعونهم يسرحون ويمرحون ويهددون الآخرين.. ماذا يريدون منا!

كانت تتحدث بانفعال حتى أني لم أخجل من لكنتها ولغتها.

بدت لي عظيمة أكبر من كل الدنيا!

أشعر معها الأمان كأنّ أبي لم يمت وجدتي ماتزال على قيد الحياة..

المدير نفسه تعاطف معنا وأحضر ولي أمر التلميذ.. هدده باستدعاء الشرطة ورفع دعوى "إرهاب".. ولا أذكر أن التلميذ المغربي تجرّأ أن يلمحني بنظرة .. غير أن الحلم يختلف..

اختفت كريستي.. فاجأتني بهربها..

هربت حالما وجدته يتقدّم نحوي..

تلاشت

فنهضتُ

في تلك اللحظة برز من مكان ما كمقاتل شرس بعينين تجدحان شررا جنديّ كان ينتظر بصبر داخل كمينٍ عدواً انتظره منذ زمن طويل

هو بعينه العم محسن طفيل

 شريك أبي في محلّ الخضرة الكبير.. الطيب الذي حمل إلينا حصة أبي، كان أمينا في كلّ شيء.هناك أمور كثيرة نجهلها.أرباح من مبيعات لم يدوناها في سجل الضرائب.مبلغ كبير، كان يبكي ويقول رحم الله أخي أبا صبيح كم نصحته ألا يذهب إلى العراق، حقا مبلغ كبير.. وكان أخي صبيح حين نذكر أمانة العم محسن طفيل يخاطب أمي بمزاحه الثقيل: صحيح أنت تجاوزت الأربعين لكنك مازلت مغرية وملفوفة ورائعة مثيرة حقا أكثر من الإنكليزيات ولعلّ الرجل فكر أن تكوني ضرة لزوجته أم أحمد!

ولك حيوان أنا أقسمت الا يمس جسدي أحد غير المرحوم أبيك والأحرى بك أن تقول هذا لصديقاتك في الصفّ!

غير أن العم محسن بقي وحده ولم يرغب بشراكة أحد في المحل بعد وفاة أبي.

ولعله لم يفكر قط بالزواج من أمي بل مجرد مزاح ثقيل من أخي صبيح.

أو مجرّد شكّ..

توجّس..

وجدته يحمل هراوة فيهوي بها على رأس التميذ المغربي.

المدرسة فارغة..

كريستي هربت.

التلميذ يترنح

يتراجع

يهرب ..

يلحقه العم محسن

أراقب المشهد من بعد..

لحظات.. ساعات..

يختفيان..

لحظتئذٍ أنتبه على صوت ناعم يعلن وصول القطار إلى محطة برمنغهام..

فأرمي آخر حلم لي من مخلفات البارحة وأهبط.

9

في البيت تناوشتني خالتي بقبلاتها وعتاب طويل.

لا أظنك عاقّا تقول، لكنْ أهكذا تترك أختي وحدها للعزلة وتذهب إلى مدينة أخرى، كانت أمي مفتونة بقلادة من الذهب وبعض هدايا ثمينة جلبتها لها أختها، أما لؤلؤة فقد لاحت لي فاتنة حقا، بوجههاالمدور، ونغمتها الخليجية الثقيلة وابتسامتها الهادئة.

 أكثر براءة، كأنها كلما كبرت ازدادت طيبة.

هذه هي أوروبا ياخالة، وهذا هو نمط العمل فيها أم تحبين أن أعيش على مساعدات البلدية وهذا أمر أرفضه قطعا.

فانبرت أمي محتجة:

يعني لم تجد عملا إلا في نوتنغهام مع المعوقين وتترك أمك وحيدة في هذا البيت الطويل العريض!

هذا هو مجال دراستي ومارست فيه التطبيق العملي قبل التخرج.

الذي يحز في نفسي ويزعجني أكثر من العواصف والله لم أخش العاصفة بقدر ما أخشى عليه من ان يصاب بمرض من ذوي الاحتياجات الخاصة.عدوى يا أختي عدوى.

الله الحافظ.دعينا من العتاب الآن فلكل مشكلة حلّ سنقضي بضعة أيام عندكم ثم نصحب أمك معنا إلى لندن!

لقد قلت حقا ياخالة والحمد لله على سلامتكم"وغيرت الحديث عن قصد"سمعت أن كورونا وصل الإمارات، ألف الحمد لله!

قالت لؤلؤة: صحيح ثلاث إصابات.

ردت أمي:الله الحافظ!وأردفت كأنّها تتعلق بذكرى أبي وفاجعة موته:هي المنطقة ناقصة .. المشاكل مع إيران وحرب اليمن والعراق التفجيرات.. الله يستر.

قالت خالتي تستهين بما يجري:

كلّ شيء يهون إلا الوباء هؤلاء الصينيون أصبحوا يملأون العالم.تلتقيهم في كل مكان.عندنا في الإمارات بعشرات الآلاف في كل مؤسسة وكل معمل.. هذا ثاني داء يصدرونه للعالم، والمصيبة كيف تحارب شيئا مخفيا.فيروس يتلون ويتشكل.هكذا يقول أهل الاختصاص.

فتساءلت أمي وقد خطر في بالي الآن أنهاكانت وحدها مثلي حين طالعتنا الأخباربالوباء الجديد:

ولماذا أصبحت الصين هي المصدر لهذا الفيروس.لِم لا تأتي الأمراض من مكان آخر؟

هذه المرة انبرت لؤلؤة تشرح الأمر:

إنهم مليار ونصف، يأكلون كل شيء، الذباب، والجرذان.. الكلاب، والخفافيش والوزغ.. كلّ شيء، يُقال الكورونا من أكلهم الجرذان!

كانت خالتي هي الكبرى، ولم يكن جدي وفق حكاية أمي من المتزمتين، فقد عمل بحارا في الخليج واستقر بضع سنوات بالإمارات يعمل قبطانا لزوارق الأسرة الحاكمة بدبي قبل أن يعود إلى الناصرية، وفي الإمارات تعرف على إحدى العوائل الثرية.

هكذا تزوجت خالتي في دبي.

أقرأ بعينيها ومن خلال سلوكها معي أنها تروم أن تكرر حكاية لؤلؤة بطريقتها الخاصة.

وهي متأكدة تماما من أن زوجها ترك لها حرية التصرف بتحديد مستقبل ابنتهما.

لؤلؤة آخر العنقود بعد أربعة أولاد، هذه السنة تكمل دراستها الثانوية، تحب الديكور وتصميم الأزياء، ومادامت خالتها تسكن بريطانيا فيمكن أن تكمل دراستها هنا..

لا أظنني مخطئا، قلت من قبل: إني آخر ورقة مازالت رابحة بيد أمي..   

أمي ترى وجودي بعيدا عنها مشكلة، وخالتي تجدني الشخص الأكثر لياقة.الزيارة جعلت أمي أكثر حيوية.وجدتها استعادت نشاطها وقاومت يأسها.. كأن دار العجزة تباعدت عنها.إنها تقبل بأيّ عرض عدا أن تعيش تحت جناح صهر باكستاني وكنّة أرجنتيتية.

عيب..

حتى لو كان الصهر عراقيا.. عيب.غير مألوف.

وفي آخر زيارة عادت.

تصورت أني تلك الليلة أصبحت محور الحديث.رشاقة أمي وفرحها بأختها وابنتها، وأمل خالتي الجديد.وربما خطر ببال لؤلؤة أن أكون فارس أحلامها.

لقد عادت بها السنين إلى زمن أبي وجدتي

كل شيء ممكن

أو

غير مبالغ فيه

وانضمت إلينا ماجدة التي دعت الضيوف إلى حفلة عشاء في اليوم التالي، وقبل أن ارتمي على فراشي دخلت أمي علي الغرفة وهمست:

غدا ستصحبني ماجدة مع خالتك لزيارة بعض صديقاتها، عليك أن ترافق لؤلؤة لتريها معالم المدينة!

فهززت رأسي، ولم أبد أي امتعاض!

ألم أقل كل شيء غير مبالغ فيه!

10

وجهي مازال في ركن ما

ربما هنا في البيت

أو وفق احتمالات عديدة تركتُه في زاوية ما من شقتي الصغيرة في نوتنغهام.

لا أدري لِمَ لا تثيرني الكورونا في مكان آخر غير نوتنغهام.

لا أخشاها قط .

مازالت بعيدة عنّي.

ولا أفكر أن تلاحقني.

لعل ذلك يعود إلى أن ظهورها المفاجئ حدث أول يوم لي باشرت فيه العمل إذ ذاك دخل الفيروس سباقا بعدد الضحايا مع مدينة جدي الشهيد الذي تفخر به العائلة.

مجرد ذكرى أحملها من جدتي وأبي وأمي..

بعض الأحيان أجد أنها لا تخصني.

منذ تلك اللحظة سخرت من اسم الوباء نفسه.. العالم يعنى بالمظاهر ومادام الفايروس يتخذ شكل التاج تحت المجهر فليكن اسمه كورونا، وقبل أن أشتغل مع المعاقين حذرتني أمي.قالت احذر أن يصيبك داء.العمل مع كبار السن والمعاقين يجلب أمراضا وفايروسات نعجز أن نتحاشاها مهما بالغنا في النظافة والتحفظ.

وكانت تخشى أن نلقيَ بها في دار العجزة لا خوفا من الفايروس وفق أسوأ الاحتمالات بل خوفا من الوحدة. هذه أوروبا أقول مع نفسي، ولا يخطر ببالي قط الرفاه والمال وحدهما .. هناك وجه آخر لابدّ ان نقبله.لذلك لا أبالي.

بالأمس تعرضت لرذاذ من نجاسة..

قرفت..

كرهت نفسي

ظننت الآخرين في الحافلة يستافون ريحي النتنة

ويتبيَّنون البقع التي مسحها كالم عن وجهي

لكني لم أخف..

الرعب بعيد عني

وهذا الوحش الذي يبدو مثل التاج يثير سخطي بعدد الضحايا الذين يلتهمهم ولا يثير خوفي.

أظنه مازال بعيدا عني.

لا التفت إليه وأفكر بجولة اليوم مع لؤلؤة..  

وقد صحبت أختي أمي وخالتي بسيارتها، وخرجت مع لؤلؤة.عبرنا المفترق إلى الشارع الرئيس وكان الجو صحوا والعاصفة سكنت تماما .

كل! شيء هادئ في الطريق العام إلا بعض المحلات قلت:

معظم المحلات الشرقية وبعض الأسواق الكبيرة.

فردت بصوت دافئ:

مثل أدجوار رود في لندن!

هنا في أمستردام وخاصة هذا الشارع يتجمع الشرقيون.. محل أبي هناك على بعد خطوات والمدينة في الظاهر ذات طابع شرقي باكستانيون وهنود وعرب تسمعين تسعين لغة في الشارع!

فضحكت وانصرفت إلى لوحة إعلان تتأملها:

لكن حين يحل وقت الاقتراع لا تعرفين من أين يأتي الإنكليز فيحصدوا كل مقاعد البلدية!

مازالت تتمعن في اللوحة التي تشكلت من إيقاع سريالي وواقعي فبدت مثل شجرة تغطي جدار محل موبيليا.فالتفت إلى سرحانها:

أعجبك التصميم؟

حلوة أفكر بعد أن أنهي الثانوية هذا العام أن أدرس الdesign والديكور في إحدى الجامعات هنا!

برمنغهام؟"

الأفضل لندن واستدركت"أو ممكن نوتنغهام لِمَ لا.

الحقيقة لندن أفضل.مجال العمل هناك أوسع!

وهل أنت مرتاح في شغلك الجديد؟

أفضل من أن أعيش على المساعدات على الرغم من صعوبة التعامل مع ذوي الإعاقة من الأسبرجر والمتوحدين!

فقالت وقد تحاشت النظر في عينيّ بعد إطلالة قصيرة:

عندنا في الإمارات مركز للأسبرجر والمتوحدين.لم يعد هذا العوق مجهولا ولو اشتغلت بخبرتك هناك لربحت الكثير الكثير.

ولم أجد بدا من أن أغيّر الحديث

إن أحسست ببرودة الجو يمكن أن نجلس في كافتريا .

لا أبدا أفضّل المشي.

كأنَّما منحتني خاطرا لمدى أوسع.لمحةً لوهجٍ جديد انبثق فجأة. من دون مقدمات:

مارأيك أن نذهب إلى أطراف المدينة حيث الغابة والتلة وحقل الخيول.

ربما ذكرت متأخرا فحولتي.

بريئة..

حلوة..

جميلة..

البنت الوحيدة لأمها.الصغرى بعد أربعة إخوة.. لن أكون مخطئا إذا قلت إن تفكير أمها تناغم مع إحساس أمي فتركتاها أمانة عندي.

أحذر، وأبالغ في تحفظي.

وهناك جموح أكبته:

لابأس أن نذهب إلى هناك.

هل أنت مستعدة للمشي.

فقالت بابتسامة لا تقلّ عن رشاقة يدها:أووه جرب وسترى!

قالت ذلك، وعن لا وعي، ونحن نعبر الشارع عند الإشارة الحمراء إلى البوليفارد المطل على بداية الغابة امتدت يدي إلى يدها كأنني أحول بينها وخطر موهوم.

خطر لا وجود له إلا في بالي وإن كانت الإشارة تضيء لحظة عبورنا باللون الأحمر.

وتركت يدها حالما وطئنا الرصيف، لننطلق في رحلة قصيرة تطول بضع ساعات!

اندفعت تصعد خلفي المنحدر

نصمت ..

نتحدث..

أمامنا النهار بكامله وقد تركنا الدفء وراءنا:

سنتعب في الصعود أما حين نهبط عائدين فالوضع يبدو أسهل بكثير.

اعترضنا حاجز صخري فملت عليها أسندها بذراعي.كتفها يلاصق كتفي، خشيت أن تنزلق قدمها فقبضت على زندي بيدها.

كانت كريستي تسابقني.

 تجري أمامي

ألحقها.. تطلب من أن أقبلها..

أحيانا أتخيلها غزالة تشرد وفي الفراش بعدما صرخت ولم تعد عذراء رأيتهابصورة لبوة.

نمرة تفترسني.فأرتاح

أجد العالم جميلا مثل أحلام زرقاء تتحق في لهاثها.

على مهلك اعتبريها رياضة.

في الإمارات أمارس مع صديقاتي رياضة التزلج على الرمال.

أعرف أن دبي استنسخت العالم كله: طبيعة ومتاحف ومسارح..

كلّ شيء ..

العالم بمكتباته، وشوارعه، ومتاحفه، وحدائقه، رحل إلى هناك حيث يجلس مع دبي على الرِّمال، فأقول:

هل أعلمك الرقص على الجليد؟

ياليت!

راحت برمنغهام تنبسط تحت نظرنا، والغابة عن جهة اليمين تضفي على المشهد بعض الجلال.. وثمّةالتلة، وقطرات الدم التي تلاشت تحت المطر والتراب.

الرغبة تحاصرني..

كريستي تعصرني بين فخذيها، أما في البيت وقد دخلنا غرفتها فترتقي بعض الأحيان فوقي، تدعك حنكي بشعرات شقراء ناعمة غضّة نمت بوقت قريب، وتروح تلعق جسدي. لكننا افترقنا بعد الصف التاسع.. اختارت قسم الميكانيك وظهرت فتيات أخريات في حياتي.مثل أي طلاب ثانوية.

ممارسات..

لهو دراسة ..

جنس..

مع كريستينا وغيرها، كنا نلتقي هنا وفي بيتها، أي مكان.. ولم أكن أجرؤ على أن أدعو أية صديقة إلى منزلنا.أخي صبيح الأكبر والذي يبدو أكثر صلفا لم يجرؤ على أن يصحب أية صديقة إلى البيت.لم يحدثني عن أيٍّ من صديقاته قط، يعدّها مسائل خاصة ويمكن لأية علاقة مع صديقة أن تدوم وقتا طويلا أو تنتهي بشكل مفاجيء.

لا يفخر بعدد الصديقات.

ولايتباهى .

وحين خطب "أماندا الأرجنتينية" قبلت أمي على مضض أن تبيت عندنا، وجعلتها تشارك أختي غرفتها. تقول هذا بيت محترم.الذي في باله نية ما ليفعل مايحلو له خارج البيت.أنتم أولاد.عندكم أخت أخشى عليها من العيب.

مع ذلك:

أنحت سؤلا في ذهني وأعرض عن جوابه:هل قبَّل شريف أختي قبل الزواج؟لا أظنّ، لا أتصوّر أنه لمس يدها أو مرّر أنامله على صدرها.. نحن أولاد لا أحد يحاسبنا، بدت أمّي مثل نمرة مفترسة إذ شكّت في ماجدة لحظة هددت بالانتحار، فصرخت.. ونفت، ونظرت إلينا باحتقار.

واجهتنا بجرأة:

لو أردت اللعب لصادقت شابا إنكليزيا مثلما تفعلون، شريف مسلم مثلنا يريدني بالحلال!

أدركنا جيدا أنها لم تقترف قطّ حراما أوعيبا..

لكن لماذا يلحّ علي هنافيهذا المكان مثل هذا الخاطر العنيد؟ 

يرن هاتفها فينتشلني.

تتطلع فيه وتتجاهل:

مَنْ؟خالتي؟

هذه صديقتي من الإمارات سأكلمها فيما بعد!

أترغبين أن نلفّ حول الأجمة؟

لابأس.  

لابدّ من أن نلف.

ندور.

نسعى.

المكان ذاته، والأجمةبدت عارية من أوراقها.تعنيني قطرة الدم، وصخرة كريستي هكذا سميتها، ساحة الخيول فارغة، وثمة طيور، حمام وغربان، ونوارس تحلق من جهة الغابة، شيء ما أبيض ينبثق من الأجمة، كان هناك أرنب يخرج منها يعدو بخفة باتجاه ساحة الخيول، ولا صوت إلا من غناء النوارس التي راحت تحلق وتهوي داخل الغابة فتختفي وتعود تحلق.كلّ الأماكن التي تمتدّ أمامي لا أعرفها بأسمائها ماعدا الصخرة التي سميتها باسم كريستي.

أمسك يدها خوفا من أن تنزلق.

المح الفجوة.

الأنفاس .

الصرخة

يراودني انفعال.

رائحة حامض تقتحم أنفي فلا أقرف.

هذه المرة يرن هاتفي.. أختي تسأل:أين أنتم؟

أضغط على الماكرفون لتسمع معي:

نحن على التلة عند الأجمة!

مجنون.. حقا مجنون ظننتكما في المدينة!

تردّ لؤلؤة:

 إنّه منظر رائع؟

لكن خذي حذرك من البرد لا تثقي بالطقس.

لا داعي للخوف سأعيرها معطفي.

هل ستبقى معنا الليلة؟

لا علي السفر إلى نوتغهام!

واتفقنا على أن نلتقي في المدينة لتصحب لؤلؤة إلى منزلها وتعود بي إلى بيتنا فألتقي أمي التي ماتزال تعمل لي طعاما تصنفه في علبٍ تغنيني عن الطبخ مادمتُ في نوتنغهام، وعندما، وصلت، فاجأتني من دون مقدمات، أنها كانت تقدر على أن تعمل طعامي الأسبوعي في بيت أختي لكنها أحبت أن تنفرد لتحدثني عن الجديد الذي في جعبتها.. خالتي جاءت كي تؤسس مشروعا لابنتها في لندن، ستدرس لؤلؤة هنا، زوجها يملك من المال اربعين مليون دولار غير الممتلكات الاخرى وشركة سيارات الأجرة، بعد عمر طويل له ولخالتي كم تكون حصة لؤلؤة؟فأقاطعها كأن المسألة ذات وجهين:تعنيني ولا تعنيني

أربعة إخوة وللذكر مثل حظ الأثنيين!

هل تعي ما أقول!

فأهزكتفيّ وأقول:

ليزدهم الله من خيره تلك مسألة لاتعنيني.

ولا تترك لي فرصة فتندفع:

بل تعنيك وتعنيني مائة بالمائة، أنا أفكّر بمستقبلك وأحفادي، أخوك أشعر أني ثقيلة عليه عندما أطيل في زيارتي لهم.زوجته طيبة.. لكن تبقى غريبة.. أخذ يتعلم الأسبانية من أجلها لأنه يعرف سيتحدث مع أولاده في البيت وأمهم بالأسباني.وأولاد أختك سيقضون معظم وقتهم مع جدهم وجدتهم اللذين يتعلمون منهما الأوردية، "واستندت إلى حافة بار المطبخ فأطلقت حسرة طويلة"وأنا من لي رحم الله أباك وجدتك!

أعرف كم عانت أمي بعد وفاة أبي وجدتي.كثيرا ما تتذكرهما أذا بان التعب على وجهها أو اصطدمت بمعضلة ما، فتترحم عليهما.لا أجد في كلّ ما تقوله شيئا غريبا عليّ أنا الذي ولدت في برمنغهام عام 1999 وكنت أتحدث الإنكليزية في المدرسة والشارع وكلِّ مكان ماعدا البيت، حتى عندما أكون في المنزل وأغتنم فرصة ما أجد أني أعود إلى الشارع فأحضّر دروسي وأتابع القنوات وفق هواي!

أمّي تريدني أن أتغير.. أعيش بمشاعر واحدة!

بوجه واحد.

لا أستغرب إذ أرى كثيرا من الظواهر البعيدة عنّي تشغلني.

زميلي في العمل كالُم الذي يسبقني خبرةً الشيوعي المعجب بالصين وإيران وفنزويلا.. يُكذِّب أن كوريا الشمالية أعدمت مصابا بالكورونا، ولا يهمه أن يتغير جواز السفر بعد خروج بريطانيا من الإتحاد الأوروبي من الأحمر إلى لون آخر أو أن تصدر الدولة عملة من فئة خمسين بنسا أراهنُ سيبقى مع زوجته الإنكليزية وأولاده ولا يلتحق بدولة اسكتندا إذا ماحدث الانفصال.

المشاعر واحدة..

أشكّ أن حكمة أمي التي تبدو ساذجة لا تختلف عن انفعالاته.

لعلني أشفق عليها أكثر مما آسف!

وأجدها تبالغ في كثير من الأمور.

لا أنّكر أني انفعلت وحزنت مثل أخي الكبير صبيح وأختي- يوم سمعت بمصرع أبي وعندما توفيت جدتي التي كانت في زيارة لعمتي فدُفنت في السويد وتباهت عمتي وزوجها أنهما دفعا نفقات دفنها هناك ورفضا أي مبلغ منّا، وبدا لي أن أمي بالغت كثيرا.. خمشت خدها، ولطمت، ودعت الشرقيات ممن تعرفهن أوْ لا إلى المركز لإسلامي ولبست السواد عاما حدادا على أبي وآخر على جدتي، وكأنها في تلك اللحظة -لحظة وجودنا في البيت وحدنا -تحاول أن تقترب خطوة من الفرح، وهي في شكّ من ذلك، فأخطو نحوها.. ألتقط يدها أقبلها وبيدٍ أخرى أطوق خصرها، وأهتف:

أيتها الفاتنة الجميلة أنت ذكية ستتعلمين كلّ اللغات!"وأضيف مترنما" والرقص أيضا.

فأراقصها، وأنا أدندن، رقصة الفالص.

 

قصي الشيخ عسكر

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم