صحيفة المثقف

ماذا لو كان "خوسيه موخيكا" عربياً! درس في أخلاقيات الرئيس

بكر السباتينفي ظل ما تشهده الأمة العربية من إحباطات يعود أحد أهم أسبابها إلى قياداتها التي لا تتمتع بإجماع جماهيري ولا بجاذبية الزعماء المؤثرين ناهيك عن الفساد المستشري في بطاناتها، فإننا محوجون لتقديم النموذج المعاصر في القيادة النزيهة وفي إقليم شبيه بوطننا العربي من حيث تفشي الفساد والإرهاب والهيمنة الأمريكية على القرار..  إنها مقارنة موضوعية بين الهبوط السياسي العربي في ظل أزمات متفاقمة وإخفاقات سياسية تدهورت من جرائها الأحوال الاقتصادية والاجتماعية وحقوق الإنسان من جهة، وكرامة الهنود الحمر من جهة أخرى. فثمة فرق كبير بين الدبلوماسية المتحضرة القائمة على أخلاقيات التعامل وفق مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان والتشاركية في الداخل مع الحفاظ على روح التعاون والسلام "العادل" ونبذ المحتل في العلاقة البينية داخل الإقليم وفي المجتمع الدولي، بعيداً عن الأنظمة العنصرية التي تمنهج القتل أو مزاجية السياسيين وتقلبات مواقفهم، وفق مصالحهم الشخصية، التي غالباً ما تتقدم المصالح الوطنية العليا المستظلة بالدساتير المعتمدة.

عظماء السياسة عبر التاريخ بنوا أمجادهم من خلال مشاريع تنموية عملاقة ابتدأت بحماية حقوق المواطن وراعت في خطوات تنفيذها عدم التقاطع مع مصالح الشعب؛ حتى تكتسب تلك المشاريع تأييداً منقطع النظير حتى في أوج الأزمات المحتملة؛ لذلك كانت خيارات بعض الرؤساء المتميزين تتخذ جانب الشعب في قراراتهم السياسية من منطلقات إصلاحية تراعي من خلال العمل الدؤوب، مصالح البلاد العليا دون أية تجاوزات، لذلك لا تدرج أسماؤهم في ملفات الفساد العصية على الحل. بمعنى أن هناك مظاهر ومحددات يمكن من خلالها الحكم على طبيعة الرئيس فيما لو كان زعيماً جماهيرياً مبدعاً صاحب مشروع نهضوي يحتذى به ويفتح آفاقاً مستقبلية للأجيال اللاحقة، أم لا. كتجربة (خوسيه موخيكا)، رئيس الأوروغواي الذي انتخب رئيساً للبلاد عام 2010 حتى 2015 فيما يعتبر الأفقر بين رؤساء العالم؛ إذْ سنتطرق إليه في سياق المقارنة من خلاله مع النمط المقابل من الزعماء المراوغين المتمسكين بدون وجه حق بكراسيهم الرئاسية، كأنهم القدر المحتوم على شعوبهم المغبونة؛ حتى لو جاء ذلك على حساب حقوقهم ومصالحهم. زعماء يعبدون السلطة ويأنفون الديمقراطية.. لا يتمتع الواحد منهم بالمرونة والبراغماتية اللازمة لانتهاج العدالة من أجل التنمية وفق رؤيا أخلاقية.. فلا يستخدم الواحد منهم جبروته قبل أن يفكر.. أو يركل خصومه قبل أن يفاوض. ولكن يا أسفاه.. فأمثال هؤلاء القادة يكذبون كثيراً حتى يصدقهم الناس وفق نفعية الفكر الميكافللي الذي تُبَرِّرُ الغايةُ فيه الوسيلة.. وبناء على ذلك فلا يؤمن الواحد منهم بالتشاركية والتعددية.. كأنه إله بعثته الأساطير القديمة كي يجمل الدكتاتورية بمنجزات واهية خادعة.. فيما لا يُؤمَنُ جارُه بوائقه فيلقي بتبعات أزماته التي تسبب بها شخصياً، إلى حديقة الجيران.. كدأب ما يجري في وطننا العربي من صراعات يقودها شيطان يعربد في رؤوس قادته بالتحالف مع العدو الصهيوني من خلال صفقة القرن. حيث تغلب على سياسات هؤلاء القادة صفة التجبر بالعباد والكذب المكشوف أمام فضاء عالمي مفتوح وتسيطر عليه التكنولوجيا بدون قيود.

(موخيكا) يستحق تخليد سيرته من حيث طبيعة تفكيره ونمط حياته كرئيس منتخب وهب حياته وأمواله القليلة لمؤسسات شعبه الخيرية. لا بل يناط هذا الواجب بالأمم المتحدة والمنظمة الدولية لمكافحة الفقر في العالم، في ان تخلد مسيرة هذا الرئيس الوحيد في العالم اجمع، الذي يقف مع الفقراء فعلاً وليس قولاً. فهو ليس رئيساً لشعب الاورغواي فحسب، إنما هو نصير وزعيم وقائد وممثل لكافة فقراء العالم.

وخذ مثالاً على ذلك، فقد تصرف هذا الرجل مع الفلسطينيين في عدوان "الجرف الصامد" الذي شنه الكيان الإسرائيلي على الفلسطينيين في غزة بوازع إنساني صرف، حتى بدا كأنه عربي شريف.. فماذا تراه فعل؟ لقد حرض دول أمريكا اللاتينية ضد الكيان الإسرائيلي خلافاً للموقف العربي المراوغ.. ووطد علاقته الدبلوماسية مع الفلسطينيين عكس ما قامت به بعض الدول العربية التي ساهمت في تحقيق صفقة القرن معتمدة على العدو الإسرائيلي كحليف استراتيجي في مواجهة إيران! هذا الزعيم، موخيكا، الذي حارب الفساد في بلاده من خلال تبني شعار "القدوة الحسنة" فحاصر مظاهره مفككاً مفاصله، إلى درجة جعل من بلاده الأقل نسبة في تفشي الفساد.. وما دام راعي البيت مستقيم فهو الأجدر بإشاعة الفضيلة بين شعبه الذي بوسعه معانقته في وسط الشوارع المزدحمة دون عناء.. حتى تفجرت ينابيع تجربته الريادية المتفردة في بلاد الهنود الحمر (الأمريكيتان: الوسطى والجنوبية) لتشق لها طريقاً نحو الإصلاحات الحقيقية. هذا الزعيم اللاتيني المٌلْهِمْ بدلاً من إلقائه القاذورات على حدائق الجيران، أخذ يزرعها بالياسمين حتى تفوح منها عبق إنسانيته الظليلة.

والمضحك المبكي في قصة موخيكا، هذا الزعيم المتفرد في عصر الخيبات والرياء، أن أحد شيوخ النفط حاول دعمه؛ من خلال شراء سيارته القديمة بأكثر من مليون دولار فسخر منه الأخير، ولم ينحن له شاكراً؛ بل اعتبرها إهانة من سفيه، منوهاً إلى أن تقشفه نابع من فلسفته بالحياة التي تقوم على قاعدة معايشة ظروف الفقراء في بلاده حتى يحسن الإصلاح والتنمية الحقيقية القائمة على العدالة، فتنتعش في جوهرها الديمقراطية والنماء.

لذلك! لم يتصرف هذا الزعيم طوال حياته كقاتل لشعبة أسوة بالطغاة الذين يتحكمون ببلداننا العربية المنكوبة بزعماء طغاة فاسدين.

لم يجدد موخيكا ترشيح نفسه للرئاسة واكتفى بدعم من وجده لائقاً لرئاسة البلاد التي أخلص لها، فأعقبه في الحكم الدكتور تاباري فازكيز، وهو طبيب عمره 74عاماً وسبق وكان رئيساً للأوروغواي قبل موخيكا.

(موخيكا) هو النموذج المرتجى لحل أزمة القيادة التي نعاني منها في وطننا العربي المنتهك من قبل الأصدقاء قبل الأعداء.. حتى يجلب العدالة والرخاء ويعزز مبادئ الكرامة والتشبث بالحقوق.. إنه الدرس الذي لا بد لزعمائنا من تعلمه والاقتداء به من أجل تنمية شاملة تبدأ بالإنسان وتنتهي بتحرير الأرض السليبة من نير الاحتلال لتقوم التنمية على قاعدة صحيحة قوامها الديمقراطية التي تحقق العدالة والبناء.

 

بقلم: بكر السباتين

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم