صحيفة المثقف

انتظار القطط

حسين فاعور الساعديالجزء (6) من رواية مفتاح الكنز

بعد انتهاء المهلة حضرت قوات كبيرة من الشرطة الخيالة برفقة مندوبين عن ضريبة الدخل. توقع صاحب الجبل أن يفشلوا في العثور على القطعان، أو على الأقل أن يطول بحثهم عنها. دعا الله أن يعمي أبصارهم، وأن يجعل كيدهم في تضليل. إلا أنهم توجهوا مباشرة إلى أماكن تواجدها وساقوها. عرفوا مكان كل قطيع فالمعلومات التي تلقوها من سالم وسهام كانت مفصلة ودقيقة. فقط لم يعرفوا أين خبأ الحصان. وقف أمامهم وجهاً لوجه. مر في رأسه الكثير من الغيوم السوداء والعواصف. رأى كم هي سوداء وقاسية هذه الحياة. كم هو بشع الإنسان الذي يدعي الحضارة. رأى كيف يكون الإنسان أبشع من الوحش. قرر أن يدافع عن ثروته. لا يملك إلا جسده. بجسده سيحاول منعهم لكنهم أحاطوه ومنعوه من الحركة. شلوا جسده بزنودهم. أحدهم قصير القامة نحيف البنية عيناه زرقاوان كنوار العلت يكز على أسنانه عندما يتكلم. هذا الرجل هو الذي قاد العملية وهو الذي أعطي الأوامر لرجال الشرطة. يستمتع بما يقوم به ويبدو على استعداد تام لإطلاق النار عليه وقتله. الحقد والكراهية والاحتقار تبدو جلية في نظراته وفي ملامحه. إنه مندوب ضريبة الدخل. أمر بجمع القطعان فحاول صاحب الجبل استجداءه. وعده بتسديد المبلغ. قال له أن وضعه المادي صعب وهو لا يملك المبلغ المطلوب ولا جزءاً منه لذلك لم يسدده. اقترب منه مفتشاً عن الإنسان في داخله. أخبره، مستجدياً عطفه، أن له صديقاً يهودياً من حيفا اسمه أبرهم اعترف أنه ابن الدولة وله حقوق. إلا ان مندوب الضريبة ازداد صرامة ونظر إليه بطرف عينه وابتسم ابتسامة ميتة وهو يقول له: "سنحتجزها لمدة أسبوع تستطيع خلاله إحضار المبلغ المطلوب واستردادها. نحن دولة ديمقراطية لا نحب الظلم". اقترح عليه صاحب الجبل أن يأخذ نصف القطعان مقابل الدَين ويترك له النصف، فرفض وسخر من الاقتراح. نظر صاحب الجبل إلى قطعانه وهي تنزل نحو الوادي فرأى جنازات تحمل على الأكتاف وخلفها طوابير تجهش بالبكاء.

عاد إلى بيته بعد أن فشل هو وزوجته وبناته وبعض أصدقائه المخلصين في الدفاع عن القطعان ومنع رجال الشرطة من حجزها. كان محطماً لا يكاد يقف على قدميه. في حلقه مرارة قاسية وفي فمه جفاف شديد. المواشي ستظل محتجزة لمدة أسبوع حتى يحضر المبلغ المطلوب. وإن لم يفعل فستباع بالمزاد العلني. من أين سيأتي بخمس مائة ليرة؟ هل حقاً يعتقدون أنه يملك خمس مائة ليرة؟ هل يمكن العيش مع هؤلاء القوم؟ ترجوهم فيزدادون صلفاً وتتوسل إليهم  فيبتسمون كالأموات. لماذا لم يأخذوا نصف القطعان؟ لا شك أنهم يضمرون له شراً.

وجد قططه بانتظاره. قدومه نغص عليها شرودها واستمتاعها بأشعة الشمس. أحاطته وبدأت تتمسح بساقية وتدور حوله بسرعة وكأنها تقول له: نحن معك وأنت لست وحدك. شعر بالحياة تعود وتتدفق في جسده. شعر بطاقة مصدرها هذا التواصل بين أجساد القطط وجسده. جلس على الأرض فوجد القطط الثلاث في حضنه وكل واحدة منها تحاول أن تكون الأقرب إلى صدره. تبخر اليأس والإحباط الذي أصابه وشعر بالأمل يعود إليه. تفاءل أن عبد الناصر سيحسم الحرب في اليمن ويتفرغ لتحرير فلسطين.

قرر أن يستنجد بالقبيلة فالخير ما زال موجوداً والنخوة لم تنقرض من نفوس الناس. سيطلب من أهل القرية أن يجمعوا له المبلغ ليدفعه لضريبة الدخل ويسترد مواشيه. في الصباح فر بيوت القرية بيتاً بيتاً فاستقبلوه بالترحاب وعبارات التشجيع. كان الخوف بادياً على وجوه الأهل لكنهم وعدوه أنهم لن يتخلوا عنه. كل واحد وعده بتقديم ما باستطاعته تقديمه. وقبل أن ينتهي الأسبوع جاء إليه في الجبل وفد من أهل القرية وقدم له المبلغ المطلوب. فرح صاحب الجبل فرحاً شديداً وارتفعت معنوياته. قرر أن يجدد علاقته بالناس. سيجدد سهراته عندهم وسيروي لهم الأشعار والقصص. سيعيد تلك الأيام الحلوة قبل قدوم اليهود. حتى سالم وسهام سيزورهم.

أخذ المبلغ وطار إلى مركز الشرطة ليعطيهم النقود ويسترد قطعانه. كان الشويلي ضابط المركز ينتظر قدومه ليتعرف عليه. لم يصدق انه أحضر المبلغ المطلوب وعندما قدمه له فوجئ وصرخ في وجهه: من أين لك كل هذه الأموال؟ من التهريب أليس كذلك؟. فوجئ صاحب الجبل. أي تهريب؟ وعم يتحدث هذا الشرطي؟. قال صاحب الجبل وكأنه لم يسمع ما قيل له: "هذا هو المبلغ وأطلب أن تردوا لي المواشي".  فأجابه الشويلي بصراخ وعصبية: "أية مواشي؟ لقد تأخرت كثيراً فبعناها بالمزاد العلني. أين كنت؟ بعناها وسددنا دينك للضريبة. اشكر ربك أننا لم نسجنك". كيف باعوها والمهلة التي منحوها له لم تنته بعد؟. دار جدال عنيف بين الرجلين لم يفض إلى نتيجة لأن الشويلي هدده إن لم يخرج من مركز الشرطة فسيتم حبسه وإيداعه السجن بتهمة عرقلة عمل الشرطة. عاد الرجل إلى بيته في قمة الجبل يجر ساقي الهزيمة ويكاد ينفجر باكياً. لماذا يحدث له كل هذا؟ أين أخطأ لكي يعاقب بهذا الشكل؟ ما العمل مع هؤلاء الذين لا يريدون تركه وشأنه؟ لو ترك لهم الجبل هل سيتركونه؟ لكنه لا يستطيع ترك الجبل. هنا عاش أباه وأجداده. ولن يستطيع العيش في مكان آخر.

صارت القطط الثلاث تستقبله كلما عاد إلى بيته وتودعه كلما خرج. تمشي إلى جانبه وكأنها حرس ملكي يوفر له الحماية، فيشعر بالكبرياء والعنفوان. يشعر بسعادة مفاجئة. لم يعد يملك إلا الحصان وقططه. دخل الخيمة وألقى بنفسه إلى جانب موقد النار. كان الدخان يتصاعد من الخيمة. لم يكن دخان الحطب الذي يحترق وإنما دخان الحريق الذي اشتعل في صدره. ما الذي يحدث له؟ لماذا يلاحقونه بهذا الشكل؟ قبل أقل من أربعة عشر عاماً نهبوا قطيع أبقاره وعاد إلى البيت وهو لا يملك إلا الحصان. بعد ذلك صادروا أكثر من نصف أملاكه في الجبل ودفعوه ثمن استعماله لها. وها هم ينهبون كل ماشيته بحجة الضريبة ليحتفظ فقط بحصانه الذي خبأه في جوف شجرة سريس ضخمة. لم يعرف أن سهام تراقب خطواته  وأنها عرفت مكان الحصان. رآها وهي تقف مع أحد الخيالة من رجال الشرطة ممسكة بمقود فرسه وتتلوى أمامه كأنها ترقص. لم يتوقع ولم يخطر له على بال أن تدله على مخبأ الحصان. بعد المحادثة توجه الشرطي إلى تلك الشجرة من بين مئات الأشجار ليخرج الحصان منها. مشى صاحب الجبل بموازاة الشرطي الذي يجر حصانه. كان أعلى منه في السفح فالتقط الحجارة وبدأ بقذفها على الشرطي أسفل منه عله يترك الحصان. سحب الشرطي سلاحه وصوبه نحو صاحب الجبل: "سأطلق عليك النار إن لم تتوقف". الكثيرون من أبناء القرية رأوا سهام وهي تحدّث الشرطي وتدله على مخبأ الحصان فشاع في القرية أنها تتعامل مع دوريات الشرطة. صمتت أمام هذه الإشاعات وتبرجت وكأنها تفتخر بما تفعل. سهام منذ مجيئها إلى القرية نظرت إلى سكانها باستعلاء. افتخرت أمامهم بعلاقات والدها مع الشرطة. أما هي فقد استعملت جسدها في جذبهم وأمام أعين أهل القرية. بعد أن تسلم زوجها رئاسة المجلس المحلي أرادت إخافتهم ودب الرعب في نفوسهم لأنها تعتقد أنها بتخويفهم فقط تستطيع جذبهم إليها والسيطرة عليهم.

وجد صاحب الجبل نفسه لا يملك إلا قططه الثلاث. وجدها في استقباله لتحيطه أثناء سيره وتتمسح بساقيه. سارت أمامه وخلفه واستدارت حوله رافعة ذيولها ونافشة صوفها فبدت أكبر حجماً. شعر أنها تقول له: "لا تحزن! أنت البطل. أنت تدافع عن أرضك. أنت حبيبنا ونحن نخاف عليك وها نحن نحرسك. أنت كبير وها نحن نحييك ونستقبلك. أنت القائد ونحن حرس الشرف. أنت القوي لكننا بحاجة لك". عندما انتبه أن هنالك من يحتاجه عادت إليه معنوياته ونسي ما أصابه. جلس على الأرض أمام بيته فقفزت القطط إلى حضنه وتسابقت في الاقتراب من قلبه. كأنها تريد سماع نبضاته. احتضنها واحدة واحدة. مسح بيديه ظهورها ورؤوسها فنفشت صوفها وأصدرت حشرجاتها. شعر أنه يحبها كبناته وزوجته. صارت جزءاً من وجوده. بل أهم جزء. فهي تفهمه أكثر من غيرها. تعرف ما يواجهه وتشعر بما يصيبه. تحاول مواساته ودعمه. تحاول احتضانه ومده بالقوة. انتبه أن القطط تحمل في أجسادها طاقات جبارة يمكن الاستعانة بها في الأزمات وعند الشدائد. أراد أن يبكي أمامها بكاءً شديداً فهي تحفظ السر وتجيد الإصغاء. شعر أنه بحاجة ماسة للبكاء. الحزن الشديد المتراكم سمَّم بدنه ويجب غسل جسده من هذه السموم. البكاء فقط يغسل الجسم من سموم الأحزان. كم هو بحاجة للبكاء. لكنه لن يبكي أمام زوجته.

ماذا يريدون منه؟ لماذا هو بالذات؟ حسد سالم وسهام على علاقتهما الجيدة بالشرطة. ماذا لو كانت له علاقة جيدة معهم هو أيضاً؟. الشويلي رغم طول لسانه إلا أنه يتكلم العربية ويمكن بناء صداقة معه. عندها لن يطارده أحد. سيبيع التبغ وورق السجائر دون أن يكون مطارداً. من المؤكد أن لو ترك الجبل لنال رضاهم ولعينوه رئيساً للمجلس المحلي.

الشارع الذي شقه هو سبب المصائب. قبل الشارع لم يصلوا الجبل. كانوا يأتون على الخيول إلى القرية في الوادي ويعودون. راقبوه من بعيد. أما اليوم فيأتون مع الشارع. يصلون قرب القمة فينزلون من جيباتهم ويصعدون إليها وفي عيونهم غضب وحقد. سألوه أكثر من مرة لماذا بنا بيته هنا. لماذا لم ينزل إلى الوادي حيث أقاربه وأهل بلده؟ الشارع جلب له كل هذه المصائب. حتى سيارات الشرطة العسكرية لم تتوقف عن الصعود والنزول فيه وكأنها تكتشف الجبل لأول مرة.

شعر صاحب الجبل بثقل المسؤولية التي يتحملها. يريدون الجبل. يريدون طرده منه والاستيلاء عليه. أصبحت الأمور واضحة. يجردونه من مواشيه ليضعفوه وليدفعوه إلى اليأس والاستسلام. لو ذهب مع الذاهبين للعمل في تل أبيب لوفر على نفسه كل هذه المعاناة. لو تخلص من مواشيه لما وفر لهم ما يحجزونه. هل يتخلص من مواشيه كما يريدون؟  المواشي توفر له الحرية ولا تمكنهم من استعباده. سيفرجها الله عليه كما أفرجها على آكل الذباب. لكنه لم يعتد على ترك الأمور لمجرياتها. هو ليس من هذا النوع الذي يترك المعضلات للزمن. هذه هي مشكلته وسبب وجع الرأس الذي يصيبه. لماذا القلق؟ لديه أرضه التي لن يستطيعوا منعه من فلاحتها. ولديه زوجته وبناته يقفن إلى جانبه ولن يتخلوا عنه. ولديه قططه الثلاث التي تمده بما يحتاج من قوة.

ذهب إلى أرضه ليتفقدها فوجدها محاطة بالأسلاك من كل جانب. تركوا له فتحة صغيرة للدخول إليها. جلبوا الأبقار الضخمة السمينة ووضعوها في الغابات المحاذية لأرضه. أبقار لا تحصى ولا تعد منها الأصفر والأسود والأبيض والذهبي. كلها كبيرة الحجم تفوق حجم الأبقار المعروفة له. استولوا على مراعي قطعانه وطوقوها بالأسلاك. متى قاموا بذلك؟ من أين جاءوا بكل هذه الأسلاك والأوتاد الحديدية؟ تجوّل في سفوح الجبل فوجد أنهم قد أحاطوا بالأسلاك كل المراعي. لم يبقوا له شبراً واحداً. ألهذا السبب خلقوا له ضريبة الدخل ليحرموه من تربية المواشي؟ سيقطّع كل هذه الأسلاك وسيقتلع الأوتاد. لكن الأبقار ستدخل إلى حقوله وتتلف مزروعاته. ماذا يريدون منه؟ كيف يستولون على المراعي التي استعملها آباؤه وأجداده لقطعانهم؟ من أعطاهم الحق بذلك؟ إنهم يسحبون الجبل من تحت أقدامه. يبدو ألا حدود لأطماعهم. كان يجلس على صخرة على حدود أرضه يراقب الأبقار وهي تلتهم أغصان الأشجار بشراهة لم يعهدها من قبل. شعر أنه يجب ان يتزوج من زهرة لتنجب له ذكراً يرث هذا الجبل من بعده. أحياناً العادات والتقاليد تجرم بحقنا. كسوة وذهب وجاهة والكثير من التكاليف. لولا ذلك لتزوج من زهرة قبل سنوات ولكان له ابناً أو أكثر. غرق في الأحلام فأطل عليه رجل على صهوة حصان أبيض. طرح عليه السلام بلهجة محلية دلت أنه من أبناء المنطقة. وعرّف على نفسه أنه المشرف على غابات الجبل من قبل إدارة أملاك الدولة. "ظننتك راعي هذه الأبقار" قال له صاحب الجبل، فأجاب: "من ضمن عملي مراقبتها والحفاظ عليها لأن مالكها استأجر هذه المراعي". "ممن استأجرها؟" سأله صاحب الجبل فأجابه: "من إدارة أراضي الدولة". "هذه مراعي قطعاني وقطعان أبي وأجدادي. من أين جاءتنا إدارة أراضي الدولة هذه؟" قال صاحب الجبل ولم ينتظر جواباً لأنه شعر أن الأبقار وهي تلتهم أغصان الأشجار إنما تلتهم أطرافه.

عاد إلى بيته مثقلاً بالهموم والقلق. سيستولون على الجبل بمختلف الطرق. لا يمكن التكهن بخطوتهم القادمة. كل يوم يفاجئونه بشيء لا يمكن أن يخطر له على بال. دخلت عليه زوجته وخلفها بناتها الثلاث. لم تكلمه منذ فترة طويلة. ابتعدت عنه وقاطعته في فترة كان فيها أحوج ما يكون لمن يكلمه ويقف إلى جانبه ويشد أزره. لم يعاتبها في حينه ولم يفحص معها أكانت تشمت بما يصيبه أم لا. وقفت أمامه بينما البنات تحلقن حول الموقد. "هل اقتنعتَ بالذهاب للعمل؟" قالت دون أن تستطيع إخفاء نبرة الشماتة من صوتها. "العمل عند اليهود؟. لماذا أنت مصرة على إذلالي؟". "لا سمح الله! أنا لا أريد إذلالك. ولكن كيف سنعيش وقد نهبوا كل مواشينا؟". "سأشتري بهذه النقود التي جمعها لي أهل القرية قطعاناً ولن أستسلم". "سيعيرونك مدى الحياة". أغضبته وتسرب الغضب إلى عينيه فاختصرت وخرجت. "الخيمة أحسن من الدار. اشتري لنا عروساً بدل عروس التي نهبوها. ستلد لنا عجلاً أصفر سأربيه  ليصبح ثوراً وينطح اليهود. سيطردهم ولن يدعهم يصعدون إلى الجبل" قالت ليلى ابنته الصغرى. فهمس في داخله: " وأين ستربينه وقد استولوا على كل شيء"

قرر صاحب الجبل أن يعيد النقود لأصحابها. زوجته صدقت فيما قالته. سيعيرونه مدى الحياة وهي نقود جمعوها بذلّهم وخدمتهم لليهود. لن يبارك الله فيها. أضف إلى ذلك أنه لا يستطيع تربية المواشي بعد أن استولوا على كل المراعي في الجبل.

كل واحد من أهل القرية فرح فرحاً شديداً باسترداد نقوده. بصقوا البصقة ولحسوها. تبخرت الكرامة وماتت في نفوسهم النخوة. لم يعد شيء كما كان. عشر سنوات قلبت الدنيا. صارت الليرة كل شيء. الجميع يعبدها ويركض وراءها. من معه ليرة يسوى ليرة. الكثير من المفاهيم والقيم تغيرت وتبدلت. شعر صاحب الجبل وكأنه منذ مائة عام لم يلتق أهل بلده. لم يعودوا الناس الذين عرفهم. هل هو حب الليرة؟ اليهود يعطون كل من لا يستطيع العمل وكل من لا يجد عملاً منحة شهرية. كل أهل القرية من يعمل ومن لا يعمل يريدون هذه المنحة. الجميع يمجد سهام وسالم وينعتهم بالذكاء والشطارة في سبيل الحصول على توصيتهما التي بدونها لا يمكن نيل المنحة الشهرية من التأمين الوطني.

عاد صاحب الجبل من زيارته لأهل بلده وهو يشعر أنه قد تخلص من حمل ثقيل. هذه أحسن خطوة عملها حين ردّ لهم نقودهم. هذه النقود كانت ستجلب له الويلات لو أخذها. اليهود دمروا كل شيء. الحريق كان شاملاً، والاحتلال طال النفوس أيضاً. في القرية يتسابقون في جري مجنون وراء الليرة. كل شيء مباح في سبيل الحصول عليها. حتى صديقه والد زهرة تغير كثيراً وصار كغيره يتحدث عن الليرة وطرق الحصول عليها. سأله: " من أين يأت اليهود بهذه الأموال التي يوزعونها على الناس؟" لم يرتح صاحب الجبل لسؤال صديقه. لكنه أجابه: "كما يقول جمال عبد الناصر دول الخليج تدعمهم"  شعر أن والد زهرة قد تغير كثراً. وربما تكون زهرة قد تغيرت أيضاً. وكيف لا تتغير في هذا الطوفان من التغيرات؟. ستتغير وسيخسرها. كم ستنتظره؟ لا يمكن أن تنتظره مدى الحياة فمعركته في الدفاع عن الجبل طويلة جداً كما يبدوا. يجب أن يحصل على المال. يريد المال ليس لبناء بيت وشراء الملابس والأطعمة الفاخرة كما يفعل أهل بلده. يريد المال ليسخّر الجن في خدمته وليوظفهم في المساهمة في معركة الدفاع عن الجبل.

كان صاحب الجبل في طريقه إلى أرضه عندما إعترضته دورية الشرطة وألقت القبض عليه. أخبروه أنه متهم بإخفاء "نعيم" مراقب إدارة أراضي الدولة الذي اختفت آثاره منذ الأمس. في مركز الشرطة رآه ضابط المركز وهو في طريقه إلى الزنزانة فقال بثقة تامة: "وأخيراً وقعتَ!". أدخلوه الزنزانة دون أن يقيدوا أطرافه فظن أنهم يحاولون تخويفه فقط، وسيطلقون سراحه بعد قليل. لم يمض وقت طويل حتى جاءه من يضع القيود في يديه ورجليه ويقوده إلى غرفة التحقيق. المحقق أخبره أن نعيم اختفى منذ البارحة ولم يعد إلى بيته وعائلته وهو متهم بخطفه أو قتله. الشرطة فتشت عنه ولم تعثر عليه لذلك فهي تعتقد أنه هو المتهم بإخفائه. المحقق أكد له أنهم لن يطلقوا سراحه إلا بعد معرفة مصير نعيم. شعر صاحب الجبل أنهم يريدون رميه في السجن ليتخلصوا منه ويستولوا على أرضه. قال للمحقق أنه بالأمس التقى بنعيم، تعرف عليه وتبادل معه الحديث. ولا يوجد أي سبب يجعله يختطفه أو يقتله. فرد عليه المحقق: "ستظل معتقلاً ما دام نعيم مختفياً". أعادوه إلى الزنزانة.

***

حسين فاعور الساعدي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم