صحيفة المثقف

حول المقاربة الفيزيائية الفلسفية لفهم الواقع من خلال التوافق والفناء

بكر السباتين

دراسة تحليلية ومقترحات خاصة

وهي محاولة متواضعة مني لوضع محددات رياضية لمنطقة التوافق والاختلاف وانعكاساتهما على الفرد والمجتمع.

إذ يخلط كثيرون بين خطاب الكراهية القائم على رفض الآخر الذي سيؤدي إلى الفناء، والفكر الذي يؤمن بالتعايش المشترك وتغليب لغة الحوار التوافقي البناء.!

على اعتبار أن الحوار في خطاب الكراهية خلافاً لمبدأ التوافق، يجب أن ينتهي إلى نتيجة إما غالب أو مغلوب، وعند المتعصبين أو أصحاب الخطاب الإلغائي تصل الخيارات إلى حد إفناء أحد الطرفين للآخر.

ولفهم حقيقة الأمر ينبغي فهم جوهر الخلاف والاتفاق بين المتصارعين فكرياً، إنه الفكر.

يُعرَف الفكر بأنّه مخرجات نظرية أو عملية تعتمد على نوعية المدخلات وتنجم عن عمليات العقل الكلي في الدماع بمساعدة الحواس، وهو نتاج معرفة وتجارب.. فهو إما أن يكون تأويلياً عن النصوص الدينية، والفكر الإسلامي خير مثال على ذلك، أو وضعياً يقوم على تجارب الفلاسفة الإنسانية أو من خلال التواصل الفكري مع الفلسفة الإغريقية التي برزت من خلال فلسفة كل من سقراط وأرسطو وأفلاطون.

وكانت منطقة الخلاف بين التأويلية والوضعية قد أيقظت الأسئلة التشكيكية، التي مهدت لزخم فكري كانت من مخرجاته فلسفات عدة ما زالت تتفاعل في العقل الإنساني الجمعي إما نظرياً أو تطبيقياً على الأرض.. وهي فلسفات لها جمهورها الذي يؤمن بها ويعتبرها موقداً للحقيقة.. وهذا بدوره يضع تلك الحقيقة المنشودة في منطقة النسبية اعتماداً على المعطيات التي تتوفر لدى كل فيلسوف أو مؤمن تابع.

وفي المحصلة دعونا نبني معاً معادلتيْ التوافق والفناء لفهم حقيقة ما يجري من فوضى أخذت تسود مواقع التواصل الاجتماعي ويلاحظها الجميع، وهي مستحدثة وخطرت لي أثناء مناقشتي قضية إثارة النعرات الطائفية وبعض المفاهيم الفلسفية وإسقاطاتها الأيدلوجية على الصراعات الإقليمية، مع صديق متعصب دينياً حيث رشم صفحتي بعبارات مقولبة مثل "تسقط الرأسمالية" و"الموت للروافض" سوى أن بقية حديثه كان يسير وفق منطق النظرة الأحادية المقولبة التي لا تريد من "المختلف معها" أن يشاركها الهواء.. فبدا لي صاحبنا أنه لا يدرك ما وراء المفاهيم الفلسفية ونظرياتها، ويتشدق بمصطلحاتها الخاصة وكأنها فضفاضة، دون علم  بأن خصوصيتها ترتبط بدلالاتها الخاصة، وبالقياس العام فهي نسبية وغير مطلقة في نظر الطرف "المختلف" الآخر، وإن كانت مطلقة في نظر صاحبنا المستنفر على طول الخط لمهاجمة أي فكرة أخرى تعترض طريقه فلا يقلبها لا بعقله ولا حتى بلسانه.

ودعونا نبدأ من هنا بافتراض أن الفكر التأويلي الذي يعتمد على النصوص الدينية يُرمز له بالحرف "أ"

ولنبدأ في حديثنا عن الفلسفة الوضعية من الفلسفة الشكوكية التي تقول بعدم ضمان صحة أي شيء إلا بتقديم دليل يثبت صحته، ويقدم إجابات شافية، وذلك لتجنب الإيمان بقشور الأمور وسطحيتها، من أجل مزيد من البحث حول بواطن الأمور وجوهرها. وكان على رأس "الشكوكيين" الفيلسوف المعروف "رينيه ديكارت"، بل كان أكثر الفلاسفة شكًا فيما يعرفه هو وتوصل إليه شخصيًا، ليكون الحل في نظر "ديكارت" للوصول إلي حقيقة بواطن الأشياء، هو عدم الإيمان بها، فكفر بكل ما توصل إليه من حقائق وقرر عدم تصديقها، حتى ولو كان مؤقتًا، باعتقاده أنه إذا استمر في الإيمان بها، فلن يعرف أبدًا إن كان على صواب أم على خطأ. ولنفترض أنها تحمل الرمز" ب "

ثم المادية لجدلية وهي ركن أساسي من أركان الفلسفة الماركسية، التي تعتمد على قوانين الدياليكتيك وبناها كارل ماركس بالاستناد إلى جدلية فلسفة هيجل ومادية فلسفة فيورباخ. وينبغي العلم بأن أساس الفلسفة الجدلية هو انها تعدّ ان الفكر هو نتاج المادة وان المادة ليست نتاج الفكر، ففكر الإنسان نتاج مادي من عقله وليس الإنسان من نتاج الفكر، وهو ما ينفيه الفلاسفة المثاليون. ولنرمز إلى الحقيقة هنا بالرمز "ج".

ثم الفلسفة الواقعية المعاصرة وهي الإيمان بأن واقعنا، أو جزءًا منه، مستقل وجوديًا عن المخططات التصورية والممارسات اللغوية والمعتقدات وغيرها. ويميل الواقعيون إلى الاعتقاد بأنه مهما كان ما نؤمن به الآن، فهو مجرد مقاربة من الحقيقة وأن كل ملاحظة جديدة تقربنا أكثر من فهم الواقع. وبالمنظور الكانطي، فإن الواقعية هي نقيض المثالية. وبالمنظور المعاصر، فإن الواقعية عكس اللاواقعية، وخصوصًا في فلسفة العلوم. ولنمنح الحقيقة في سياق هذه الفلسفة الرمز "د".

ثم تأتي الفلسفة الوجودية الأكثر شيوعاً بين المثقفين، وهي المدرسة الفلسفية التي تتخذ من الإنسان موضوعا لها، ليس فقط من خلال التفكير وإنما من خلال الفعل والشعور أي أنها ترتبط بالإنسان كفرد حي. ترتبط الوجودية بصورة أساسية ببعض الفلاسفة الأوروبيين من القرنين التاسع عشر والعشرين، الذين تشاركوا في الاعتقاد ببداية هذا التفكير الفلسفي، رغم اختلافهم في العديد من الآراء الأساسية. في حين ترجع القيمة المهيمنة للتفكير الوجودي إلى الحرية، إلا أن القيمة الأساسية في الوجودية هي الأصالة كمفهوم فلسفي. في وجهة نظر الوجوديين، فإن نقطة بداية الفرد تتحدد بما يُسمى "الموقف الوجودي"، أو شعور بفقدان التوجه والارتباك أو الفزع في وجه عالم عبثي بلا معنى. اعتبر العديد من الوجوديين أن بعض الفلاسفة التقليديين أو الأكاديميين –سواء في الأسلوب أو المحتوى- مجردين أكثر مما ينبغي ومنعزلين عن التجربة الإنسانية المحسوسة. ودعنا نمنح الحقيقة هنا الرمز "ه".

ثم هناك المذهب البراغماتي الأكثر شيوعاً لدى السياسيين وحجتهم في إدارة الدولة، المذهب البراغماتي، العملي أو الذرائعي والذي يعتبر نجاح العمل المعيار الوحيد للحقيقة؛ رابطا بين التطبيق والنظرية، حيث ان النظرية يتم استخراجها عبر التطبيق.. وهذا يذكرنا بالفكر الأكثر شيوعاً في إدارة الدول العميقة القائمة على الغاية تبرر الوسيلة "النفعية" وصاحبها الأمير الإيطالي ميكافلي في كتابه الأمير. ولنتخذ للحقيقة في البراغماتية الرمز "و".

ولننعطف نحو العباءة التي خرج منها الفكر النازي الذي تبناه هتلر في كتابه "كفاحي".. إنها النيتشية "فلسفة الإرادة والقوة".. وصاحبها الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه، من خلال كتابيه: "هكذا تكلم زرادشت"، و "إرادة القوة" حيث عرض في الأخير معظم آرائه في شتى ميادين الفكر. فقد جاب التاريخ والفلسفة وانتهى إلى إحداث انقلاب في القيم يستبدل بموجبه القواعد الاخلاقية التقليدية والقيم المسيحية بقواعد أخلاقية تدافع عن حقوق الأقوياء وذوي البنية السليمة بوجه جمهور العبيد، والهزيليْ البنية والضعفاء، (عملاء العدم).. ولنعطي الحقيقة في هذه الفلسفة الرمز"ز".. ولا ننسي الكثير من الفلسفات مثل: العلمانية وهي المبدأ القائم على فصلِ الحكومة ومؤسساتها والسّلطة السّياسيّة عن السّلطة الدّينيّة.. بالإضافة للرأسمالية، التي تعرف أيضاً باسم التَمَوّل، هي نظام اقتصادي يقوم على الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج وخلق السلع والخدمات من أجل الربح.. ولا نستطيع حصر كل الفلسفات في سياق مقال قصير.

وفي المحصلة فإن مجموع الفلسفات الدينية التأويلية والوضعية وجدت للأهداف المشتركة التالية وفق معطيات كل فلسفة وما أدت إليه عملية التفكير من مخرجات فكرية ، تهدف جميعها إلى بناء الإنسان شكلاً وجوهراً حتى يتحول إلى مورد بشري فاعل في مشاريع التنمية التي تهتم بالإنسان ومصالحه، وهي عل النحو التالي:

تنمية القدرات والمهارات عند المتعلم. تنمية القدرة على التركيب، والتنظيم، والتحليل، والتصنيف، والتعليل. ومواجهة المشاكل، وإيجاد الحلول وبرهنتها. كذلك احترام الأديان وإن اختلف البعض معها، الدفاع عن القيم العليا، كالحرية، والحق، والعدل، والتسامح وحرية الإنسان وتبني قيم العدالة والديمقراطية وعدم إشاعة الفتن بين الناس.

وتمكّن الفلسفة معرفة سبل الحق واكتشافها والالتزام بها، إضافة إلى اكتشاف مزالق الباطل والشر، ومحاولة تجنبها. وزيادة القدرة على الفهم العميق، والاستدلال الصحيح من خلال الاستنتاج أو الاستقراء والتوصل إلى النتائج ومن ثم تقييمها، والقراءة ما بين السطور، والتعبير عن الذات ورد أفعالها مع المواقف العامة والخاصة. تقوية السلوك العقلاني المنظم في الحياة النفسية المستقرة، والاجتماعية المتكافلة، والفكرية المنفتحة على الآخر تفاعلياً، وإشاعة ثقافة التعلم والابتكار لا التعليم القائم على التلقين. أيضاً تعزيز امتلاك الثقافة الفلسفية والعلمية والقدرة على التعبير الدقيق بلغة تقريرية تراعي الوقت وتسهل الحصول على الخلاصات، وتعزز كذلك اليقظة الفكرية المنطقية، والمراقبة الذاتية خلال الحوار الفلسفي والتعبير والتفكير واحترام الرأي الآخر.

وتنمي الفلسفة وعي المتعلم لمحيطه وذاته. والقدرة على إصدار الأحكام، والنقد، واتخاذ المواقف. كما أنها تعرّف الفرد على التراث الفلسفي الإنساني، وتزيد قدرته على التجاوب معه. أيضاً تمنح الفرد القدرة على احتواء العنف الفكري، وتوجيهه نحو صلاح المجتمع والفرد والإنسانية. والفلسفة تربي الفرد على قيم التسامح الديني، والفكري، والحضاري، وتزيد القدرة في الاعتماد على أسلوب الحوار أثناء التعامل مع الآخرين.. وتوعّي الفرد بمبادئ حقوق الإنسان، والعدالة الاجتماعية، وتمثلها، وتساهم في الدفاع عنها. وتزيد معرفة الفرد بالصراع الإيديولوجي والثقافي السائد في العالم، وتساعد على التعامل معه بإيجابية. وتزيد معرفة الفرد بالنظم الاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية.

وقد يتساءل القارئ لماذا قمنا بترميز الحقائق التي يؤمن بها أتباع كل فلسفة في عالم تحول إلى قرية صغيرة، ويوفر له العالم الافتراضي فيضاً لا ينتهي من المعلومات المتجددة والمتضاربة؟

لقد اقترحت ذلك توطئة للوصول إلى معادلتين يكون من شأنهما تلخيص خيارات الإنسان للفكر الذي يؤمن به ما بين الممكن والمستحيل، وبالتالي توضيح المقاربة الفيزيائية الفلسفية لفهم الواقع من خلال مُقْتًرَحيٰ "التوافق والفناء"، وهما:

أولاً: معادلة الفناء القائمة على تنافر الرموز (أ، ب، ج، د ،ه ،و ،ز ،ح ...إلخ)، حيث يعود سبب هذا التنافر إلى وجود طاقة التنافر التي تستمد قوتها من ثقافة الكره مثل إشاعة الفتن الطائفية والإثنية والجهوية،؛ لهذا فإننا لا نضع إشارة"+" بين الرموز.. هذا إذا افترضنا أن هذه الإشارة تمثل الحوار والسلم الاجتماعي، وبدونها لا تتحقق العلاقة التجميعية بين التكوينات الاجتماعية حيث سيتمرد الفرد ويفرغ الشكل من المحتوى.

ولتوضيح وإذا اعتبرنا أن الفلسفة طاقة معزولة ضمن خصائصها، ومؤثرة على المجاميع البشرية، وقوة فعل حقيقية في المجتمع.. وحسب قانون حفظ الطاقة في الفيزياء والذي ينص على أنه في أي نظام معزول، فإن الطاقة لا تفنى ولا تستحدث من العدم ولكن يمكن تحويلها من صورة لأخرى.. فإن الرموز في المعادلة أعلاه وفق منطق عدم الفناء، ستلتهم بعضها وفق النظرية الدارونية التي تقول بالبقاء للأقوى أو الأصلح، فتظل هذه الرموز الغير فانية في حالة عدم استقرار وعلى شكل طاقة مهدورة، وكأنه الفناء.

أي أنه وفق نظرية المجموعات الرياضية فإن

عناصر التيارات الفلسفية الوضعية والتأويلية الدينية المرمّزة بالأحرف العربية، تنتمي إلى العناصر غير المتوافقة} وإن عنصر الفتنة الطائفية ينتمي إلى {عناصر التفرقة}

ومنها لو افترضنا جدلاً بأن مجموعة {العناصر غير المتوافقة} ستتحد مع مجموعة {عناصر التفرقة} فسوف تساوي مجموعة {العناصر المضطربة}

فإن المجموعة A {العناصر غير المتوافقة} تتقاطع مع المجموعة B {العناصر غير المتوافقة} وتساوي{ عناصر التفرقة}.

ويمكن توضيح ذلك بواسطة مخطط "فن". التي تتداخل فيه دائرتين فيظهر من منطقة التقاطع شكلاً بيضويا؛ ليعبر في اتساعه وانحساره على تذبذب قوة الرفض والقبول للآخر.

ثانياً: معادلة التوافق والقبول بالآخر القائمة على وجود رابط "الزائد" بين الرموز في المعادلة الأولى والتي ستؤدي إلى شكل فسيفسائي يحرك الحوار تكويناته بانسجام.. وتؤدي إلى توفر طاقة جماعية لتحريك عجلة التنمية وبالتالي تحقيق الأهداف المشتركة لكل الفلسفات والأديان..

وحسب نظرية المجموعات الرياضية فإن عناصر الفلسفات تنتمي إلى خيار مجموعة {العناصر المتوافقة}

وإن عنصر ي القبول بالآخر، والحوار، ينتميان إلى مجموعة {عناصر التوافق}

ومنها فإن مجموعة

{العناصر المتوافقة} ستتحد مع مجموعة {عناصر التوافق} وتساوي مجموعة {عناصر التوافق}

وحسب مخطط "فن"، فإنه إذا كانت مساحة مجموعة {عناصر التوافق} (أصغر) < مجموعة {التفرقة} فإنها = حالة الاضطراب وعدم الاستقرار (الفناء)

أما إذا كانت مساحة {عناصر التوافق} (أكبر) > {مجموعة التفرقة} فإنها = التوافق في التكوين الديني والفكري مع حفاظ كل مكون على خصائصه وحرية حركته في تشكيل فسيفسائي مستقر التكوين ومتناغم الحركة .

ويمكن توضيح ذلك بواسطة مخطط "فن". وبنفس الطريق أعلاه.

وللوصول إلى معادلة التوافق لا بد من تحويل طاقة الفناء إلى طاقة توافق، بتخليصها من شوائب التنافر مثل الفتن والتشكيك والفساد والظلم وغيرها حتى تستوي المعطيات للحصول على مخرجات تؤدي إلى الشخص السوي البناء الذي يؤمن بالقيم الأخلاقية والمنفتح على الآخر مع حفاظه على المبادئ التي يؤمن بها.. ومن هذا الرحم يمكن أن يخرج المصلح الاجتماعي والواعظ المبشر الإيجابي والمواطن الصالح.. نحن لا نبحث عن اليوتوبيا الأفلاطونية في المدينة الفاضلة.. ولكننا نسعى إلى توافق ممكن بين كل فئات المجتمع تكفل فيه الحرية الدينية والمدنية. فهل عقلنا العربي مهيأ للارتقاء إلى مستوى التعايش السلمي المجتمعي!؟ الرهان على المستقبل الوضاء يعتمد على نجاح ذلك.

 

بقلم بكر السباتين

17 مارس 2020

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم