صحيفة المثقف

محاسن كورونا على: الفرد والأسرة والعلم

محمد الورداشيوباءُ كورونا (كوفيد 19) أشغلَ المعمورةَ كلَّها، وجعلها مدفوعةً دون خيارٍ إلى مراجعةِ حساباتِها على كافة الجوانب والمستويات. ولئن كنا قد تحدثنا في مقال سابق عن كون هذا الوباء قد أماط اللثام عن قضايا سياسية واجتماعية، فضلا عن العقل العربي الجمعي، فإننا سنحاول أن نرصد محاسنَهُ في هذه المقالة بشكل مختصر.

فمما هو معلوم أن ثمة تَحرُّكا حثيثا، ليل نهار، من قبل كل دول العالم سعيا منها لمحاربة هذا الوباء الذي أقام الدنيا ولم يقعدها خلال هذه الشهور الأربعة التي بدأت ملامحه تظهر فيها. وهذا هو الذي يدفعنا هنا إلى القول إن لهذا الوباء محاسنَ علينا لا ننكرها. فبعدما قررتِ الدولةُ المغربيةُ أن تغلقَ المدارسَ كلَّها، أعقبتْه بقرار إغلاق المساجد في ربوع المملكةِ كلِّها احتراسا من انتشار الوباء لدرجة لا تستطيع معها حصرَه أو محاربتَه، لنجد أن ثمة قرارا يحظر التجوال يرفرف في الأفق القادم، خصوصا ما نراه في الشوارع المغربية من حركة لفئة من المواطنين الذين لا يفهمون لغة الدولة، وإنما لهم منطقٌ لغويٌ آخرُ لم نعرفه بعد، أو طريقةٌ فريدةٌ خاصة بهم في تلقي خطابات الجهات والسلطات المسؤولة الموجهة للرأي العام المغربي. ولعل هذه القرارات التي تؤكد على إغلاق المدارس والمساجد والمقاهي والحمامات، دليل على أن ثمة صحوةً قد أصابت القائمين على الشأن السياسي والصحي في البلاد، وجعلتهم يعيدون النظر في سياستهم، وكذا إعادة ترتيب أوراقهم قبل الدخول في اللعبة من جديد، هذه اللعبة التي صارت جدية وحاسمة، والتي يمكن لعبها على مستويين اثنين: مستوى خارجي يتمظهر في العلاقات بين دول العالم كلها، ومستوى داخلي يتجلى في علاقة الحاكمين بالمحكومين، أو الحكام بشعوبهم. وما دمنا هنا نود رصْدَ محاسنِ هذا الوباء، فإننا سنركز حديثنا على: علاقة الحكام بالمحكومين، والفردانية وجدليتها مع الجماعة.

إننا نرى أن هذه المرحلةَ الحرجةَ والحاسمةَ التي تمر منها الدول عامة، قد دفعت بعض الحكام إلى تجديد الصلة مع محكوميهم، فأن تجد حاكما يتجند لمحاربة الوباء ووضع يده في يد شعبه، دليل قاطع على أن ثمة رابطةً قويةً تجمع بين القطبين حتى وإن بدا أن هناك جدالا بينهما. ولعل هذا ما نراه كذلك في مجهودات السلطات المغربية، وبمختلف أشكالها، يعرب لنا عن كون الوباء قد وحّد صفوفَنا، وجمعَ كلمتَنا وقراراتِنا، ثم دفع بنا إلى سلوك خط دفاعي واحد وثابت مفاده: كلنا ضد فيروس كورونا. لذلك لم تكن الدولة المغربية قد توانت في خرق المراحل كلها لتقرر محاربة الوباء بعيدا عن كل أشكال التماطل، بل إنها تنبهت إلى الخطورة وتجندت لها؛ لأنها تعرف أن نسبة السكان المغاربة كبيرة جدا، ومن الصعب العسير أن تقوم على هذه النسبة إن قدر الله وانتشر الوباء، لذلك دفعت قلةُ الوسائل والمؤهلات الطبية الدولةَ إلى اتخاذ التدابير والإجراءات الوقائية قبل انجراف التيار.

كما أن قرار الإغلاق الذي طال المدارس والمساجد والمقاهي...إلخ، ينبغي أن نفهمه بطريقةٍ نفعيةٍ خاصةٍ بنا كأفراد. فأنْ تُغلقَ هذه الأماكنُ العموميةُ التي تعدُّ تجمعاتٍ يحتمي فيها الفرد داخل الجماعة حيث يتأثر بها وتتأثر به، دعوة إلى الاهتمام بالفردانية (وطبعا لا نقصدُ بالفردانيةِ الأنانيةَ والمصلحةَ الشخصيةَ، وإنما نقصدُ عودةَ المرءِ إلى ذاته والإنصات بها ثم اكتشاف قدراتها...)، ودفعها إلى تحمل مسؤوليتها ومصيرها إن هي لم تتقوقع على ذاتها، ثم تبتعد عن الآخرين لدرجة أنها لن تستطيع مصافحة الآخر حتى. فلمَ لا نعود إلى ذواتنا ونجدد الصلة بها، ونتصالح معها من خلال النقد الذاتي لكل ما قمنا به في ما مضى من حياتنا، فضلا عن التخطيط لما سنفعله بعد المحنة. ومرد هذه الدعوة هو كوني أفهم، فهما ذاتيا نفعيا وتوجيهيا، من قرار الإغلاق أننا مطالبون بالمكوث في البيوت حتى حين، ولعمري إن هذه عزلةٌ مفيدةٌ قد لا تتاح لنا مثلها؛ لأننا سنكون مهتمين بالأشياء والأعمال (قراءة الكتب، مشاهدة الأفلام، كتابة الخواطر والمقالات والكتب...) التي تمكننا من محاربة وباء الفراغ والملل داخل الذي قد نحسُّهُ من لزومِنا البيوت لمدة طويلة.

على أن محاسن الوباء لا تقف هنا فحسب، وإنما نجدها في تجديد الصلة بين أفراد الأسرة الواحدة. فكم من شخص لا يرى أهله إلا مرة في الشهر، وكم من شخص أنجبت زوجته مولودا لم يره حتى كَبُر، وكم منا تغرب عن والديه ولم يرهما حتى تجعدت ملامح وجهيهما، واشتعل الشيب في رأسيهما، وكم... وكم. هذه فرصة حتى يجلسَ المرءُ مع أسرتها، وينصتَ لألمها وما تعانيه في غيابه، ويقيمَ الرابطةَ الوطيدةَ معها حتى تواجهَ الأوبئةَ النفسيةَ والجسديةَ والاجتماعيةَ التي تنخرها يوما بعد يوم.

إلى جانب ما رصدناه حتى الآن، أجدنا مدفوعين إلى الحديث عن محاسن (كوفيد 19) في مجال البحث العلمي والكتابة. فمنذ أن ظهر هذا الوباء والدول الغربية تتنافس في جلْب العلماء من مختلف الدول الأخرى حتى تستأسد وتستنسر بالعلاج إن هي نجحت في صنعه، ولعل هذا التنافسَ في البحث عن المنفذ الذي ينتظره العالم، دليلٌ على أن الوباء سيعيدُ توزيعَ الإضْبَارَةِ السياسية والاقتصادية والجغرافية لدول العالم، كما سينزل دولا من عليائها ليعلي من شأن أخرى. لكن، وبعيدا عن الوجه السلبي الملغوم لهذا التسابق نحو التسلح بالعلاج، نجد أن الوباء أعرب عن أن للعلماء قيمةً ومكانةً كبيرتين لا يمكن للدول أن تتغاضى عنهما بعد هذه المحنة، خصوصا الدول النامية التي تعلق مصيرها بالدول التي تضم علماءَ أكفاءَ، والتي تنتظر حتى يتم اكتشاف العلاج لدى الدول التي استقطبت علماءها وأدمغتها، وعرفت قيمتهم عكس بلدانهم النامية التي تصدرهم وتطردهم، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، لا يمكننا أن ننكر أن الوباء (كوفيد19) قد حرك الأقلامَ المفكرةَ والمثقفةَ والعامةَ للكتابة؛ لأن موضوعَ الساعةِ هو الوباءُ وما يترتب عليه من وفيات وإصابات في دول العالم، مما يجعل الأقلامَ تكتب دفعا للروتين والرتابة، وترويحا عن النفوس التي بدا أن الخوف قد سيطر عليها أكثر من أي وقت مضى.

ونافل القول إن هذا العصر هو عصر العلم والعلماء وليس عصر الفقه والفقهاء؛ لأن كل التجارب التاريخية مع الأوبئة، تدفع بالدول التي تعتنق العلم معتقدا ودينا إلى البحث عن العلاج بالعلم والعلماء، والدول التي تركض إلى الوراء تدفع بها الأوبئة إلى المكوث في المساجد ورفع الأكف لرب العباد والبلاد. لكن، وبعد إغلاق المساجد، لم يبق لنا من منفذ إلا فتح أبواب العلم والعلماء، وانتظار العلاج منهم حتى حين، وفي هذا الانتظار موتٌ؛ لأن الناس، في وقتنا الحالي، يمشون الهوينى من الموت الرتيب إلى الموت السريع.

Le sam. 14 mars 2020 à 20:11, MOHAMED EL OUARDACHI <[email protected]>; a écrit :

فيروس كورورنا (كوفيد 19) كشف الأوهام وأماط اللثام عن قضايا سياسية واقتصادية واجتماعية، لكنه كشف الكثير عن العقل العربي أكثر من غيره.

ففي هذه المدة الوجيزة التي شرع فيها هذا الوباء ينتشر في بلدان عربية (الجزائر، تونس، المغرب، مصر...) حدثت هزة كبيرة في العقل الجمعي العربي، كما في الجانب البسيكولوجي والسوسيولوجي. اما في جانب العقل الجمعي، فإنه بدا واضحا أن الأفراد والجماعات، في المجتمعات العربية، تمتلك وسيلة مثلى للتعامل مع الأخطار التي تهدد الجسد الاجتماعي وكيانه، فأن تجد منشورات كوميدية ونكتا حول فيروس منتشر أقام الدنيا في بلدان اقتصادية عظمى ولم يقعدها، دليل على مدى تخلفنا، وقلة منسوب وعينا إلى الدرجة الصفر، حتى بلغ الأمر بنا أن نستخف بالخطورة، ونترجمها إلى نكت تبكي أكثر مما تضحك. وفي الفترة التي يتفنن العقل العربي الجمعي في نحت النكت، ونسج خيوط الكوميديا السوداء للتسلية والترويح عن النفس حتى حين كان مجيئه مؤكدا، ظل الوباء يسري بيننا كسريان النار في الهشيم، لتأتي الصحوة المتأخرة بعدما لم يعد ينفع المرء لا بكاء ولا عتاب سوى وجوده أمام التحدي الواقع وجها لوجه.

على أن هذه السخرية والاستخفاف بالوباء من قبل العقل الجمعي لم تكن وقفا على العوام من الشعب الذين يعانون أوبئة من نوع آخر طاب لها المقام بينهم فأقامت، بل إن الأمر يضرب بجذوره في العمق لدى القائمين على الشأن السياسي والصحي، هذا الجانب الذي لجأ إلى نسج خطاب مهدئ تسكيني حتى حين، وما فتئ يدعو الأفراد والجماعات إلى تناسي الوباء، وتقديم الوعود أن لنا من التجارب والخبرات الطبية ما يجعلنا نتعامل مع الأمر الجلل ببساطة؛ أي أننا مجندون لأي طارئ بأسلحة طبية... في اللحظة التي نرصد فيها مجهودات الصينيين، جماعات وأفرادا، وحاكمين ومحكومين، تبذل الكثير في سبيل المصلحة العامة.

هذا عن جانب العقل الجمعي. أما الجانب النفسي والاجتماعي، والذي سأركز فيه على المغرب، فإنه قد كشف عن انقسام المجتمع إلى قسمين: قسم يرجع الأمر إلى حروب بيولوجية ومناعات بين الدول الاقتصادية العظمى، وقسم آخر يرى أن ثمة تفسيرا واحدا للوباء، وهو بعدنا عن الله، وأن هذا لا يعدو كونه اختبارا إلهيا لعباده، ونذيرا غاضبا عن أنهم عاثوا الفساد في الأرض. لكننا نرى أن هذا الوباء لم يشمل الدول العربية والإسلامية التي تدين بدين الإسلام، وإنما شمل حتى الدول التي لا تؤمن بالله الواحد المتعالي...

وهذا التفسير الديني لدى القسم الثاني، أعرب لنا عن فئة تحتمي بترديدها: "قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا"، كما أننا نتوضأ في اليوم خمس مرات و... مما يدل على جهلها بخطورة الأمر.

لكن ما حدث يوم أمس، في التسابق والتطاحن على المواد الغذائية بغية تخزينها واحتكارها ترقبا لأي قرار يحظر الخروج من المنازل، دليل على أن ثمة غريزة لم يستطع الإنسان أن يدبرها بعد علما أنه أعلن انفصامه عن قانون الغاب، وهي كونه أنانيا مؤثرا حياته على حساب الآخرين، وأنه لم يستفد شيئا من الموجات الفكرية الحديثة والمعاصرة سوى أن يكون "حيوانا مستهلكا" ومفرطا في الاستهلاك. كما أننا نفيد حقيقة كانت وستظل الى أن يرث الله الأرض ومن عليها: وهي أن الغني لا يفكر للفقير أبدا. فعلاوة على تسابقهم في اقتناء أكبر قدْر ممكن من المواد الغذائية، نجد هذا الصباح منهم من يتسابق معك على المصرف البنكي حتى يسحب كل ما فيه، تاركا لك الفراغ. فقد انتظرت كثيرا حتى انتهى الجميع ليخاطبني آخر شخص منهم قائلا: "حاول تيري لماكسيمون ديال الفلوس متعرفش الوقت شنو تجيب ". قال هذا الكلام وهو يضحك في وجهي، لكني ضحكت مرتين: أولاهما عليه وعلى حاله المتلهفة الأنانية التي تتبنى مبدأ "أنا ومن بعدي الطوفان" واللهم ارحمني ومحمدا ولا ترحم معنا أحدا". وثانيهما ضحكت فيها على حالي؛ لأن في حسابي مائة درهم تعد مصروف اليوم.

وهذه الأنانية لم تقف هنا فحسب، وإنما نجدها في قرار توقيف الدراسة ابتداء من يوم الإثنين المقبل، ليعقب هذا القرار مذكرات وأخبار تقول إن توقيف الدراسة خاص بالتلاميذ وحدهم لا أطر التدريس التربوية والإدارة، بمعنى أنهم معنيون بالحضور إلى المؤسسات حتى وإن لم يكن ثمة تلاميذ. ولا أجد لهذا الأمر الارتجالي إلا تفسيرين اثنين: الأول هو أن مصلحة المعنيين بالأمر ضربت عرض الحائط، ولا يعلم بها إلا الله وحده، وأنهم مصنوعون من الحجر لا من لحم ودم، والثاني أن أجورهم مرتبطة بحضورهم وعملهم حتى وإن كان الأمر على حساب حياتهم، علما أن قرار توقيف الدراسة قابله الأطر التربويون باستعدادهم لخدمة أبنائهم التلاميذ بكل ما توفره لهم شروطهم الذاتية والموضوعية.

إن المرحلة الحرجة التي تمر منها البلاد تتطلب تعاونا وتآزرا، وتفكيرا في المصلحة العامة لا الشخصية، وفي حياة الإنسان قبل حياة الاقتصاد والسياسة، كما أنها تتطلب وضوحا وشفافية بين القائمين على الشأن السياسي والصحي، والشعب، حتى يتجند الجميع لمواجهة الخطر في خط واحد ثابت، وفي مختلف المستويات...

ختاما نتساءل: إذا كان هذا الوباء بلاء وابتلاء من الله، فهل يكفينا التجمع في المساجد، ورفع الأكف إلى الله ليزيل عنا البلاء؟ ألا يعد هذا التجمع التعبدي لأداء شعيرة مهمة، سبيلا للعدوى بين المتجمعين؟ هذا السؤال يخص الفئة الثانية التي ترى أن الوباء "كورونا" غضبا إلهيا. كما أننا نتساءلمع الفئة الأولى، التي ترى الأمر حربا بيولوجية وحرب مناعات: هل سينتج عن هذا الوباء قلب موازين القوى بين الدول الاقتصادية الصناعية العظمى؟ أم أن الأمر لا يعدو كونه تصفيات حسابات اقتصادية ستنتقل عدواها إلى الأجيال القادمة؟

 

محمد الورداشي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم