صحيفة المثقف

آه ...

انمار رحمة الله(ولادة)

حين وُلِد (آه)، تحلّقت الممرضات حوله مدهوشات وهو في حضن أمه، وقد ملأ المستشفى بصراخه الذي بدا للحاضرين أنه مختلف بعض الشيء!. حتى قالت إحداهن ضاحكة: (ياإلهي..! إنه لا يكف عن التأوه والبكاء؟!.). وبالفعل لم ير أحدٌ (آه) ضاحكاً قط. قديماً يبكي إذا أشترى له أبوه لعبة حتى لو كان يتسلى بها متأوهاً، أو إذا غنت له أمه عند النوم.. في المدرسة لم يناده أحد إلا بهذا اللقب. بينما ربح أقرانه ألقاباً مختلفة. من يحصل على درجة عالية، أو يفوز في سباق الركض ، أو ينجح في امتحان العلوم وسباقات المعرفة، كانت الألقاب تزيّن رقابَ زملائه. ألقاب ناعمة/ خفيفة، لا تؤذي حبالها أعناقهم، أو ترهق كواهلهم. وعلى العكس كان (آه) يشكو خشونة لقبه وحبله هاتفاً بحزن: (آه.. آه  إلا أنا.. إلا أنا..!). زملاؤه يهرولون في الساحة بسهولة ويسر. كان يحسدهم على تلك الحركة اليسيرة التي يجيدونها بسبب خفة أبدانهم شاكياً بالطريقة ذاتها (آه... آه...). وَلَكمْ كان يتعب في الغدو والرواح، حين يسير على طريقه بين المدرسة والمنزل مرهقاً/ مثقلاً. يعود إلى البيت مغموماً، ليطالع أمه التي لم تكن تحمل الكثير من الألقاب حول رقبتها. لقد كانت مرتاحة وكذلك أبوه. لا يلتف على عنق أمه سوى لقب الأمومة، وعلى أبيه سوى لقب الأبوة. وكلما شكا لهما ثقل لقبه قالت له الأم: (لا تكترث يا صغيري.. لا تهتم لثقله.. ستنجو..).

***

 (مدينة)

المدينة مكتظة بسكّانها الحاملين ألقابهم حول أعناقهم. في الشوارع تنقل السيارات أشخاصاً مختلفة أشكالهم وهيئاتهم وألقابهم. الباعة على الأرصفة ، أصحاب المحلات، الموظفون، حتى الأطفال اللاعبون هنا وهناك، يحمل كل واحد منهم لقباً مربوطاً بحبل حول عنقه. الناس يمارسون حياتهم ولم يشكُ أحدهم ثقل لقبه سوى(آه). كان يتعثر في سيره، ويقع أكثر من مرة في مسافة قليلة. وكلما وقع على الأرض ضحك من حوله، راداً عليهم بصوت بحيح (آآه.. آآه).. وحين يعود إلى شقته الصغيرة في إحدى عمارات المدينة السكنية، يبعثر صور والديه الراحليْنِ، ويصرخ ( آه.. آه..). فأشتكى الجيران منه وأقاموا عليه دعوى قضائية.

وقف (آه) امام القاضي.. خاطبه الأخير: (أنت متهم بإفساد أوقات الناس وسكينتهم.. سنفرض عليك غرامة (ثِقلية) بزيادة حبل لقبك، ولصق قطعة على فمك تأديباً لك ووقاية من آهاتك المتكررة).

 مضى وقتٌ و(آه) يتأوه في غرفته بلا صوت.

***

(خِفة)

قرر (آه) قطع حبل لقبه الجديد/الغليظ الذي فُرض عليه من قبل القاضي. لقد داهمته فكرة التخلص نهائياً من هذا الثقل المزعج.. أخرج مقصاً وقطع بصعوبة الحبل. ثم وقف في منتصف الغرفة، وقفز قفزتين ماداً ذراعيه نحو السقف. لقد أحس بخفة عجيبة في بدنه. غير أن الأمور تعقدت هذه المرة.. حين تسحَّب بحذر نحو الشارع مرت سيارة مسرعة قربه، قذفه عصفُ سرعتها إلى جهة أخرى. هرول مذعوراً وما إن وقف لكي يستعيد أنفاسه، دفعه هواء جهاز تبريد معلق في جدار إحدى المحلات، فوقع على الأرض. ثم وقف من جديد وسار بسرعة، فصادفه رجل مصاب بالإنفلونزا  عطس في وجهه، ليتدحرج إلى الوراء ساقطاً على الأرض. تأوه مرة أخرى وضرب بكفيه على فخذيه كالثكلى، قبل أن يطير في الفضاء بعيداً، بسبب نسمة هواء هبت عليه، ولم يُعثر عليه إلا بشق الأنفس.. هرع كلبُ راعٍ في قرية على أطراف المدينة، بعد سماعه لصوت يعلو من مكان قريب.. نبح الكلب فانتبه الراعي إلى الرجل المعلق على شجرة وهو يصرخ ( آآآآه..آآآآه).. فأعاد(آه) النظر في مسألة الحبل واللقب متمتماً مع نفسه " آآه.. يالتعاستي..!. أعيش مثقلاً بلقبي اللعين هذا أفضل من الخفة تلك. لا طاقة لي على الطيران كل دقيقة.. كدت أفقد حياتي لو لم أقع على تلك الشجرة.!..آآآه..آآآه". ثم أنتبه لنفسه ووضع القطعة اللاصقة على فمه خوف أن يسمع تأوهاته أحد سكّان العمارة.

***

(عاصفة)

مرت أيام و(آه) منزو في شقته، لا يخرج كثيراً، لا يتكلم كثيراً، يتأوه في الحمام بعد أن يتأكد من إغلاق بابه، ثم يضع كفه على فمه ويصرخ صراخاً مكتوماً. وحين يودُّ الخروج من الشقة يضع على فمه تلك القطعة اللاصقة. يحلم في الرحيل إلى غابة بعيدة، ويبني كوخاً صغيراً يمارس فيه الصراخ براحة.. يقضي معظم الوقت وحيداً في شقته يطالع برامج التلفاز، مذيعون ومراسلون وممثلون ووجوه تخرج وتختفي على الشاشة. "ألقاب كثيرة  وحبال مختلفة" يتمتم بفم طُبِع عليه أثرٌ.. أنتبه إلى التلفاز حين ظهر مذيع الأنواء الجوية، وأذاع خبراً عاجلاً، عن اقتراب عاصفة عنيفة، ودعا السكان إلى التزام الحذر والحيطة من رياح عاتية لا تبقي ولا تذر.. في اليوم التالي دبّ الفزعُ في قلوب أهل المدينة تحسباً لأي خطر سيحدق بهم. وحين ازف موعد العاصفة، وأقبلت تسوق أمامها ركام السحب بسياط الريح، مزمجرة كحيوان جائع، تنهمر زخات المطر العنيفة من فمه كاللعاب.. كان (آه) يجرّ خطواته الثقيلة في الشارع صامتاً غير مكترث. دقائق وماجت الأرض بمن فيها، حين تسللت الرياحُ من تحت المدينة ومن فوقها، وصارت - المدينة - تتقلب في كف العاصفة كما العُملة المعدنية. تهاوت أعمدة الكهرباء والمظلات والشرفات. تهدمت السقوف وهوى بناء أقوى المنازل. خرج الناس هاربين من بطش العاصفة وزوبعتها وزلزالها الذي أهتزّ من تحت أرجلهم، خوفاً من انهيار السقوف على رؤوسهم صوب الشوارع التي بدت مكتظة. وفي الوقت ذاته، كانوا مرعوبين من الغيوم التي بُعثت فوق رؤوسهم، حيث صارت ترمي عليهم قطعاً من البَرَد الصلب. كان (آه) يرى أهل المدينة يتطايرون في الفضاء كما تتطاير الأوراق والريش. الجميع في مهب الرياح العاتية. كلما أمسك أحدهم بحبل لقب الآخر أنقطع، ولا يصله منهم سوى صراخ متفرق(آآآه.. آآآآه..آآآه)، والذي خَفَت رويداً رويداً بعد أن بلعتهم زوبعةُ العاصفة العنيفة.

***

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم