صحيفة المثقف

حُرمة علماء القيروان لدى حكامهم عبر العصور

نور الدين صمودأحاول في هذه المداخلة إظهار الحظوة التي كان يلقاها علماء القيروان لدى حكام عصرهم من بغداد إلى إفريقية، وهذه الحظوة تبلغ أحيانا درجة السلطة على أصحاب السلطة، وقد دعمت كلامي هنا بما التقطته من خلال أخبار طريفة يعثر عليها القارئ لكتب الأدب والتاريخ والأخبار، بين الحين والآخر، وهي أخبار نادرة يمكن أن نعتبرها طرائف ونوادرَ أو مُلحا، فنمر بها مستطرفين مستندرين، دون أن نعيرها كبير اهتمام، ولكننا إذا تأملناها فإننا سنستخلص منها أشياءَ ذاتَ قيمةٍٍ حضارية هامة، تكشف عن أشياء أخرى ذات أهمّية كبرى.

يقول لنا المؤرخون: إن علماء القيروان كانت لهم حرمة كبيرة لدى حكامهم، بل سلطة حتى على أصحاب السلطة فيها، ولكن هذا الحكم تقييمي لا تدعمه وتؤكده، ولا يَشـُدُّ أزرَه شيء مثلما تـَسنِده تلك الأخبار المستندرة التي سأسوق طُرَفا منها لتأكيد ما ذهبت إليه في هذا التقديم:

أ) سلطة العلماء على أصحاب السلطة

1) عالِمٌ قيرواني يحرج أبا جعفر المنصور هذا خبر يدل على أن لأحد علماء القيروان دالةً بل سلطةً على السلطة التي كرست السلطة الأغلبية في القيروان، فقد رووا عن رجل من قدماء علماء القيروان، سمع من جِلّة التابعين وتولى قضاء إفريقية مرتين، وكان قبل ذلك قد زاول التعلُّم بالكوفة والبصرة صحبة أبي جعفر المنصور، ثاني خلفاء بني العباس، الذي تولى الخلافة بعد أخيه السفاح، وقد أسر الروم هذا العالِم القيرواني في البحر ففداه المنصور تقديرا لقيمته ومنزلته عنده، ولهذا العالِم أخبار مشهورة مدونة، وقد توفي سنة 161هـ 778م.

اسم هذا العالم: عبد الرحمن بن زياد بن أنعم المعافري، قال أبو العرب: (حدّث عبد الله بن الوليد عنه؛ قال: خرج في وفد أهل القيروان للشكاية مما نال إفريقية من مظالم الولاة، فدخل يوما على الخليفة أبي جعفر المنصور العباسي، فقال له: يا ابن أنعُم، ألا تحمد الله ربك الذي أراحك مما كنت ترى بباب هشام وذوي هشام من بني أمية؟ فأجابه عبد الرحمن: ما أمْرٌ كنت أراه بباب هشام إلا أرى اليوم منه طَرفا، رأيت ظلما فاحشا وأمرا قبيحا، فقال المنصور: لعله فيما بَعُدَ من بابي؟ فقال له عبد الرحمن: بل كلّما قربت من بابك استفحل الأمر وغلظ. فقال المنصور: فما منعك أن ترفع ذلك إلينا، وأنت تعلم أن قولك عندنا مقبول؟ فقال عبد الرحم: إني رأيت السلطان سوقا، وإنما يرفع إلى كل سوق ما يروج فيها.(1) فقد أراد المنصور أن يسمع من هذا العالم القيرواني كلمة تحط من قيمة حكم الأمويين الذين أطاح بهم العباسيون وتنوه بحكم بني العباس الذين أزاحوهم، ولكنه لم يستجب لهذه الرغبة وأعلمه بأن الظلم في عهد العباسيين قد تفاقم وزاد على ما كان عليه في عهد بني أمية، وهذا الموقف لا نجده لدى المطبّلين والمزمرين في أمثال هذه الحالة.

2) مؤسس الدولة الأغلبية يطلب براءة من القاضي وهذا خبر طريف آخر عن مؤسس الدولة الأغلبية إبراهيم بن الأغلب بن سالم التميمي(140/196هـ) وقد كان عالما شاعرا خطيبا مصقعا، قرأ على الإمام الليث بن سعد(94/175 هـ)  إمام أهل مصر في عصره، وتولّى إمارة إفريقية بعهد من هارون الرشيد، ولم يلِ البلادَ أحسنُ سيرةً ولا أرأفُ بالرعية منه، وتمهدت البلاد في أيامه. وتوفي سنة 196هـ 812م وعمره 56 عاما. جاء عنه في الورقات نقلا عن المالكي: ( كان إبراهيم بن الأغلب الأكبر، يصلي بالجامع المكتوباتِ كلَّها، فخرج ليلة من الليالي من دار الإمارة بالقيروان ـ وكانت ملاصقة لمسجد عقبة ـ فدخل الجامع لصلاة العشاء الأخيرة، وكان مشغول القلب، فعثر في حصير فسقط، فلما صلى بالناس وانصرف إلى منزله بعث في طلب قاضيه عبدِ الله بن غانم، (وهو قاضٍ فقيهٌ ورعٌ من سكان إفريقية، دخل الشام والعراق في طلب العلم، وولاه هارونُ الرشيد قضاء إفريقية سنة 171هـ فاستمر قاضيا إلى أن مات في القيروان، وأخباره كثيرة وهو من الثقات، جمع ما سمعه من الإمام مالك بن أنس في كتاب سمي"ديوان ابن غانم" ولد سنة 128 وتوفي سنة 190هـ) قال المالكي: "فلما أتاه الرسول وقال له: الأمير يدعوك، تغّير ابن غانم عند ذاك وقال: "في مثل هذا الوقت يوجه ورائي؟" ولم يجد بدا من قام إليه، فلما دخل عليه قال الأمير: "يا أبا عبد الرحمن، إني لم أبعث إليك إلا لخير، إني لما دخلت المسجد اشتغل قلبي عن حفظ نفسي، فعثرتُ في حصيرٍ فسقطتُ، فظننت بالناس أنهم حسبوا أني متَـنَـبّـِذٌ،(أي شاربٌ للنبيذ) فأحببت أن تكون براءتي عندك، فاستنكهي. (أي شـُمَّ فمي) فاستنكهه القاضي ابن غانم فوجده بريئا، فشكر له ذلك"، وهذا غاية التحفظ والاحتياط من الأمير.)(4) لقد عثر مؤسس الدولة الأغلبية في حصير بالجامع عند دخوله لأداء صلاة العشاء، فخشي أن يظن الناسُ أنه تعثر لأنه متنبّذ أي من أثر شرب النبيذ، فأرسل إلى قاضيه عبد الله بن غانم في تلك الليلة وطلب منه أن يشم فمه ليعرف هل توجد به رائحة النبيذ، فلما شمه القاضي فوجده بريئا، "وهذا غاية التحفظ والاحتياط من الأمير".كما قال المالكي راوي الخبر في رياض النفوس.

3) سؤال محرج  من أحد الأدباء الظرفاء إلى أمير القيروان قال البكري: (لما آلتِ الإمارة الأغلبية إلى إبراهيمَ الثاني كان من أوَّليات أعماله أنْ نقل عاصمة المُلك إلى "رقَّادة" سنة 264 هـ وترك سكنى العباسية وكان من أثر هذه النقلة أن تقدمت العلوم والآداب والفنون الجميلة تقدما حثيثا لم يُعهد له مثيل في تاريخ البلاد. وأرسل إبراهيم، من أول عهده، سفارات متعددة إلى المشرق بقصد تجهيز عاصمته الجديدة بكل ما تحتاج إليه من أسباب وأثاث ورياش، وكذا سعى في جلب علماء رياضّيين وفنّانين مضاهاةً لما كان يشاهد بحواضر المدن الكبرى: أعني الفسطاط، وبغداد، وسرّ من رأى، ومن الإرساليات المذكورة في التاريخ سفارة"أبي بحر بن أدهم"أحد رجالات الدولة، وقد أخرجه إبراهيم إلى مصر والعراق في سنة 283هـ 896م)- وبعد غياب أشهر عاد الرسول يجر وراءه الأطباء والفنّانين، ومن ضمنهم"مؤنس" المغني. وكان قبل ذلك في خدمة"موسى بن بغا" القائد العباسي المشهور، علاوة على ما جلبه الرسول إلى مخدومة من الجواري الحسان والكتب والآلات والأعلاق النفيسة. وبفضل هذه العناية أصبحت"رقّادة" الباعثَ القوي في النهضة الفنية لإفريقية، وبقيت مدينةُ القيروان أمَّ البلاد للعلوم الشرعية ومركزَ المحافظة على التقاليد الإسلامية والمبنية على الحياء والمروءة والأخلاق العلية، بحيث كنتَ ترى في"رقّادة"، مقرِّ الإمارة الجديدة، الإقبالَ على العلوم الرياضية من تحرير حركة الأفلاك بآلات الرصد، والاهتمامَ بالفنون الجميلة والمستظرفة، وكنتَ تمرّ في بعض أحيائها فتشاهد محلاّتِ اللهوِ والخلاعةِ ومجالسِ الطرب والعزف والمجون، وبجانب ذلك الخمّارات يباع فيها النبيذ علانية حيثما حرص الأمير على منع تداول المسكرات في العاصمة الدينية الكبرى، مما جعل بعض الظرفاء من أدباء القيروان يخاطب إبراهيم الثاني بقوله[منسرح]:

يا سيدَ الناس وابـنَ سيدهمْ             ومَن إليه الرقابُ  مُـنـْقـادهْ

ما حرّم الشُّربَ في مدينتنا            وهو حـلالٌ بأرض رقـادهْ؟)(2)

ذكر حسن حسني عبد الوهاب هذا الخبر في القسم الثاني من "ورقات" نقلا عن البكري ص 28 ثم قرأت نفس الخبر موجزا في القسم الأول من ورقات ص 369 حيث قال: وقد رخّص الأمير للشباب ولأهل الخلاعة واللهو أن يرتادوا الحاناتِ في مدينة رقادة، وكان قد أذن بهذه الحانات أو غض الطرف عنها في أرجاء المدينة، على حين بَيْعُ النبيذ كان محظورا في مدينة القيروان، وذلك ما بعث أحد ظرفاء الشعراء من أهلها أن يسأل الأمير (وذكر البيتين على الوجه الصحيح، فهذا الشاعر يقدم سؤالا محرجا إلى إبراهيم الثاني، حاكمِ القيروان مؤسسِ مدينة "رقادة")(3) وقد علق ح ح  عبد الوهاب على الخبر بقوله: "ولم ينته إلينا بماذا أجاب الأميرُ عن هذا السؤال." والخبر في كتاب "ورقات" يكاد يكون منقولا عن ياقوت في معجم البلدان، وعجز البيت الثاني فيه، وفي القسم الأول من ورقات، صحيح على المنسرح.

4) جواب للقاضي بن فروخ يحرج أمير إفريقية وهذا خبر آخرُ طريف عن عبد الله بن فروخ (115 ـ 176 هـ ) وهو فقيه من علماء الحديث من أهل إفريقية، قيل إنه ولد بالأندلس وسكن القيروان، وعرض عليه روح بن حاتم القضاء فأبى وخرج حاجا فمر بمصر في عودته، فتوفي بها ودفن بسفح المقطم، وله ديوانٌ يعرف باسمه جمع فيه مسموعاته وسؤالاته للإمامين أبي حنيفة ومالك، وكتابٌ في الرد على أهل البِدع والأهواء" كما جاء في الأعلام للزركلي، وجاء عنه في كتاب ورقات التعليق رقم 2 ص 332: أنه نشر آراء أهل العراق ـ أي المذهب الحنفي ـ في إفريقية، وكان عالما فاضلا صالحا قليل الهيبة للملوك في حقٍ يقوله، وهذا الخبر يؤكد هذا الكلام:

(أرسل يزيدُ بن حاتم- أميرُ إفريقية- إلى عبد الله بن فرّوخ يسأله عن دم البراغيث في الثوب، هل تجوز الصلاة به ؟ فقال: "ما أرى به بأسا" وقال لأصحابه بحضرة الرسول: "يسألوننا عن دم البراغيث ولا يسألوننا عن دماء المسلمين التي تسفك!" (5) وقد قرأت هذا الخبر، في مكان آخر، أن ابن فروخ أجاب بشكل ثان أشد جرأة وهو: (سبحان الله يسألوننا عن دم البراغيث وفي أعناقهم دماء المسلمين!)

5) اللحياني يفحم أمير إفريقية

قال أبو العرب في الطبقات: (كان أبو الربيع اللحياني عظيم اللحية جدّا، وكان من أجَـلِّ أصحاب سحنون، دخل يوما على محمد بن الأغلب أمير إفريقية، فكلّمه ووعظه، فقال له ابن الأغلب: ما طالت إلا حمقت!

فأجابه أبو الربيع: "لا تفعل أيها الأمير، فإن الله عزّ وجلّ يقول: (والبلدُ الطيبُ يَخرُج نباتُه بإذن ربه، والذي خَبُثَ لا يَخرج إلا نَكِدًا)(6)(الأعراف 58) وكان محمد بن الأغلب وجهه كوسجا ليس فيه إلا شعرات يسيرة، فخجِل الأمير ولم يعد إليه. والكوسج: هو الرجل الذي لا نبات له في عارضيه، كالأمرد في الغلمان.

6) قاض يُذكّر أمير القيروان بالفقراء

ونسوق هذا الخبر الطريف الآخر الذي يؤكد ما نحن بصدده:

قال المالكي في رياض النفوس: (ختن الأمير إبراهيم بن أحمد الأغلبي أولاده، فمضى أهل العلم من شيوخ القيروان لتهنئته في مدينة"رقّادة" وكان فيمن مضى إليه؛ عبد الجبار بن خالد، فلما أتى إلى الأمير أكبره وعظّمه وسُرّ برؤيته، وأخرج إليه أولاده فدعا لهم وبارك عليهم، ثم قال: أيها الأمير. هل علمت مقدار هذه النعمة التي أنعم الله تعالى عليك بها؟ فإنه أعطاك هؤلاء البنين، وعلّمتهم كتاب الله وأحييت فيهم سنّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقد بلغني أنك أكثرت فيما عملت من الطعام، ودعوت إلى ذلك الأغنياء والأعيان فقال الأمير: أجل! لموضع المسرّة بذلك فقال له عبد الجبار: فلو استكملت هذه المسرة بأن تذكر الفقراء فيها؟ فقال له: صدقت وبررت ثم دعا بكيس فيه خمسمائة دينار ودفعه لعبد الجبار وسأله أن يفرّقها على الفقراء والمساكين، فأجابه عبد الجبار إلى ذلك، فسرّ الأمير بفعله وشيعه إلى باب القصر، وقال لغلمانه: احملوا الشيخ على دابته وقال: والله ما برحت حتى تركب! فركب عبد الجبار والأمير قائم، فلما استوى مركوبه وأصلح الغلمان ثيابه وانصرف، التفت الأمير إلى كاتبه رجاء ابن محمد وخاطبه: يا رجاء! أرأيت ما أعقله وما أظرفه؟ أتعرف في رعيتى مثله؟ إنه قضى ذمامنا، وتعافى عن طعامنا، وأخرج مالنا فيما يُرضي الله ويُرضينا!" وقد تصدّق عبد الجبار بجميع الدنانير على من يستحقها من المساكين.(7)

7) ابن أمير يعلن توبته على يدي القاضي ابن فروخ وهذا خبر طريف آخر يدل على قيمة القاضي ابن فروخ لدى أمراء بني الأغلب، فقد روى المالكي عنه في رياض النفوس أنه خرج يوما يصلي على جنازة في مقبرة باب نافع من القيروان، فرأى إسحاق بن الأمير يزيد بن حاتم وقد أغرى كلابا كانت معه على ظبي ليُضَرِّيَها به، فنهشت الكلاب الظبي ومزقت جلده، فلما انصرف ابن فروخ من الجنازة لقيَ إسحاق بن يزيد الذي كانت كلابه معه، فاستوقفه ابن فروخ، فوقف له إسحاق فما كنّاه ابن فروخ ولا زاد على أن قال له:"يا فتَى، إني رأيتك آنفا تُغري كلابك بشيء من البهائم، وما أُحبُّ لك ذلك، لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أشد النهي عن ذلك" فقبل منه إسحاقُ وقال له: "صدقت يا أبا محمد، جزاك الله خيرا". مُكَنِّيًا ومعظما ثم قال الفتى: "والله لا فعلت ذلك بعدها أبدا." ثم مضى لوجهه. (8) الملاحظ أن القدماء إذا خاطبوا شخصا ولم يريدوا احترامه لم يكنوه ودعوه باسمه مباشرة، وقد خاطب ابنُ فروخ إسحاقَ ابن الأمير يزيد بن حاتم باسمه دون أن يكنيَه ليُشعره بسلطته عليه، وبغضبه على ما قام به من فعل لا يرتضيه، وهذا ما جعله يعتذر للقاضي بن فروخ، ويكنيه بقوله: يا أبا محمد ويعظمه عند جوابه له.

9) سخرية كاتب أحد أمراء بني الأغلب من إصراره على الجهل وهذا خبر طريف آخر يبدو فيه جهل أحد أمراء بني الأغلب وعندما أصلح كاتبه له الخطأ أصر على الجهل وأصلح جهله بجهل مركب.

فقد روى عنه ابن الأثير في كتاب التاريخ هذا الخبر: "كان أبو العباس بن الأغلب أمير إفريقية قليلَ البصر بالعلم، غيرَ عارف بالنحو والرسم على خلافٍ من آل بيته، لكنه كان منصورا مؤيدا في حروبه وغزواته.

ذكر أن رجاء الكاتب كان يوما بين يديه، فكتب الأمير: (لحم ضبي) مسقوطة، (أي بالضاد) فلمّا خلا المجلس قال له كاتبه: (أيّد الله الأمير، الظبي يكتب بظاء مرفوعة) فقال الأمير: "قد علمنا فيه اختلافا، فأبو حنيفة يجعله بالظاء ومالك يجعله بالضاد." فعجب رجاء من جسارته.(10) فقد حسب أنه صوب ٍهذا الخطأ في الرسم بقول مكذوب نسبه إلى مالك وهو إمام في الفقه المالكي ولم يعتمد قول أبي حنيفة فيه، لأنه من أتباع مذهب مالك، فعجب كاتبه رجاء من جسارته.

ب) طـُرَفٌ من ذكاء أمراء القيروان

وليس معنى هذا أن أكثر هؤلاء الحكام جهال يرتكبون أمثال هذه الحماقات، فقد عثرت على أخبار أخرى تدل على سعة علم وهذا يبدو في أجوبتهم البارعة في بعض محاورتهم وأحاديثهم مع علماء عصرهم، وهكذا نرى أنه إذا كان الأمير أبو العباس بن الأغلب أمير إفريقية قليلَ البصر بالعلم، غيرَ عارف بالنحو والرسم على خلافٍ من آل بيته، مع تشبث بالجهل وإصرار على التعالم، فإننا نجد منهم من له مكانة في العلم.

9) صاحب إفريقية أبلغ من عالم القيروان: المروذي وهذا الخبر يؤكد ما ذهبنا إليه، فقد روى أبو جعفر المروذي، وهو من علماء القيروان في القرن الرابع الهجري في عهد الفاطميين العبيديين،  قال: (خرجت مع مولانا إسماعيل المنصور صاحب إفريقية "وهو رابع ملوك الفاطميين" يومَ هَزم أبا يزيد صاحب الحمار.(11) فسايرت الأمير وكان بيده رمحان، فسقط أحدهما مرارا، فكنت امسحه في كل مرة وأناوله إياه، وأنشدته متفائلا: [الطويل]

فألقت عصاها واستقرّ بها النّوى     كما قرّ عينا بالإياب المسافرُ

فالتفتَ إليّ وقال: هلا قلت ما هو ابلغ من هذا وأصدق؟ فقلت له: وما هو؟

قال: قول الله عزّ و جلّ: (وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هي تلقف ما يأفكون، فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون؛ فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين)؟(12) فقلت: يا مولانا؛ أنت ابن رسول الله قلتَ ما عندك من العلم؛ وأنا قلتُ ما عندي.) (13)

11) أمير القيروان يعزل قاضيا لجهله

وهذا خبر يدل على تفوق بعض أصحاب الحكم على بعض العلماء وحتى من تولى القضاء عن غير جدارة، فهذا "أحمد بن وهب من أبناء القيروان، وُلّيَ قضاء طرابلس في مدة الأمير إبراهيم بن الأغلب. وقيل إنه كان قليل العلم، كتب مرة إلى الأمير من ضمن رسالة:"حفضك الله" ولم يرفع الظاء، فقال الأمير: "خفضني خفضه الله." ثم عزله.

والضاد المخفوضة أو الساقطة ضد الظاء المرفوعة أو القائمة أو المُشالة، لذلك رأى إبراهيم بن الأغلب أنه لما كتب له كلمة: "حفضك الله" بالضاد جعلها أقرب إلى خفضك الله منها إلى حفظك الله، وقد عزله لجهل هذا القاضي، ولتشاؤم الأمير من كتابة تلك الكلمة بذلك الشكل.(14) وأختم هذه الأخبار المستندرة التي تؤكد سلطة علماء القيروان على أصحاب السلطة بهذا الخبر الذي ننقله من كتاب "الحلل السندسية في الأخبار التونسية" للوزير السراج، مرويا عن محمد بن سحنون قال: (ولي سحنون القضاء بعد أن أُدِيرَ عليه حولا، وأغلظ عليه أشد الغلظة، وحلف عليه محمد بن الأغلب بأشد الأيمان، فوليَ يوم الاثنين الثالث من رمضان سنة أربع وثلاثين ومائتين 234 هـ : قال سحنون: "لم أكن أرى قبول هذا الأمر حتى كان من الأمير معينان: أحدهما أعطاني كل ما طلبت وأطلق يدي في كل ما رغبت، حتى أني قلت له: "أبدأ بأهل بيتك وقرابتك وأعوانك، فإنّ قِبَلَهم ظُلاماتٍ للناس وأموالاً لهم منذ زمن طويل، إذ لم يجترئْ عليهم من كان قبلي". فقال لي: "نعم لا تبدأ إلا بهم وأجْرِ الحق على مفرق رأسي! " فقلت له: "الله!" ثلاثا. وجاءني من عزمه مع هذا ما يَخاف المرء على نفسه، وفكّرت فلم أجد أحدا يستحق هذا الأمر، ولم أجد لنفسي سعة في رده.)(15) وأخيرا فإن المطلع على أمثال هذه الأخبار الطريفة، التي تـُذكر على سبيل النكتة والطرفة والنادرة، يَشعر شعورا حقيقيا عميقا بما كان يتمتع به علماء القيروان، في تلك العهود القديمة، لدى ذوي السلطان من تقدير واحترام يصلان إلى درجة التحكم فيهم، لما لهم من دالة عليهم وقيمة لديهم، تقديرا للعلم واحتراما للعلماء.16)

 

د . نور الدين صمود - تونس

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم