صحيفة المثقف

الموقف التركى تجاه الازمات العربية

بين النظرة الاستراتيجية والتعاطى الآنى

منذ ان بدأت التحولات الكبيرة تطل برأسها فى منطقة الشرق الأوسط ظلت تركيا تمارس دورها المحورى والفعال بكثير من الثبات والثقة،وبكثير من النظرة الاستراتيجية التى ترمى الى مآلات الاحداث البعيدة وليس الى التعاطى الآنى مع تلك الاحداث.

 كانت تركيا أول المتضررين من الصراع السورى المتطاول ووقفت بموجب هذا المعطى بقوة فى وجه نظام الأسد الذى كانت ترى فيه آلة للقتل المنظم والممنهج للشعب السورى  كما وقفت فى وجه روسيا – احد الداعمين الكبار للنظام السورى- وكادت ان تصطدم به فى أكثر من مناسبة لولا المصلحة الإستراتيجية لكلا الدولتين  فى تعونهما مع الأخرى، ثم انها وقفت فى وجه اسرائيل حينما أصرت على ايصال سفينة الحرية – مرمرة- الى شواطئ غزة ثم حدث ما حدث من اعتراض إسرائيل لتلك السفينة وقتل عشرات الناشطين الذين كانوا عليها، ثم كان موقفها الواضح الراسخ من حادثة اغتيال الصحفي السعودي جمال خاشقحى فى سفارة المملكة فى استانبول، ثم موقفها من أزمة الخليح وتبنيها خطا داعما لقطر فى تلك الأزمة ، ثم موقفها من صفقة الأسلحة الأمريكية  والروسية رغم العقوبات التى فرضتها علىها الولايات المتحدة، ثم موقفها من الأقلية الكردية وإصرارها على إبعادهم عن الحدود التركية بقوة السلاح فى عمليتي درع الفرات ونبع السلام وأخيرا موقفها الثبت تجاه الأزمة الليبية . وهذا كله على سبيل المثال وليس على سبيل الحصر

كانت كل تلك المواقف ثابتة ومبدئية عملت تركيا بنظرة كلية وبإرادة قوية على إنفاذها كان ذلك بقوة السلاح كما حدث فى عمليتى درع الفرات ونبع السلام او عبر مفاوضات واتفاقيات إقليمية او دولية كما حدث فى اتفاقيات اضنة وسوتشى، ومن المهم ان نتذكر ان سياسات الدول يجب ان تبنى بنظرة استراتيجية بعيدة المدى بحيث لا يبدو انها تتعاطى مع الأحداث من حولها بردة الفعل الانية  لان التعاطي بتلك الطريقة مع أحداث جسام كتلك التى حدثت فى المنطقة مؤخرا يكون ذا تأثير سالب على مجمل الحياة بما فيه حقوق الانسان فى وقت السلم ومبادئ القانون الدولى الانسانى فى وقت الحرب .

من هذا المنطلق نود ان نرى مدى تأثير الدور التركى فى تفاعله مع الأحداث فى المنطقة خاصة تلك االمتعلقة بالأزمتين السورية والليبية.

منذ اندلاع الحرب الأهلية السورية فى عام 2011م كانت تركيا ذات موقف مبدئي وثابت تجاه نظام الاسد فى دمشق، وكانت تعتبر الاسد عبر مواقفها الرسمية مجرم حرب يجب ان يحاكم امام محكمة الجنايات الدولية لشنه حربا ضد شعبه وقتلهم فى دورهم وأسواقهم ومساجدهم ومدارسهم وقد ظلت تركيا تنادى الى إحالة النزاع فى سوريا الى محكمة الجنايات الدولية برغم كل الاتفاقيات التى عقدتها مع روسيا حليفة الاسد الرئيسية، وبغض النظر عن الاتهامات المتبادلة بين النظام السورى تركيا حيث تعتبر دمشق ان اردوغان هو الحاضن الرئيسي للإرهابيين من المعارضة السورية الا ان تركيا كانت تشدد على الحرب الاهلية فى سوريا هى حرب من النظام مع شعبه وان المعارضة السورية لا تريد أكثر من رحيل الاسد وإجراء انتخابات حرة لاختيار رئيس الدولة عبر صناديق الاقتراع .

ومن ناحية اخرى فان تركيا كانت ترى ان تلك الحرب افرزت نتائج كارثية على المواطنين السوريين من جهة وعلى الدولة التركية من جهة أخرى حيث انها كانت سببا لنزوح أكثر من ست مليون سورى من أراضيهم وتوجههم الى تركيا باعتبارها الدولة الأقرب للمناطق المتأثرة بالحرب فى سوريا ،قامت تركيا بفتح جدودها مع سوريا لدخول أولائك النازحين الا ان أعدادهم  ظلت فى تزايد مستمر مما دفعها الى البحث عن سبيل اخر لوقف موجات اللجوء والنزوح فلجأت الى اقتراح إنشاء مناطق آمنة فى شمال سوريا وجنوب تركيا حتى تمكنت أخيرا من ابرام اتفاقيات سوتشى واضنة ثم اتفاقيات إنشاء مناطق خفض التصعيد فى ادلب وغيرها.

عبر هذه المقاربة استطاعت تركيا الدفاع بقوة عن المواطنين السورين فى شمال سوريا وتحييد النظام الروسى من مهاجمتهم كما تمكنت من ناحية أخرى من الضغط على دول الاتحاد الاروبى لزيادة الدعم الذى يقدمونه اليها فى سبيل توطين اللاجئيين السورين ومنعهم من الدخول الى دول الاتحاد، بالرغم من معارضة الكثير من الدول الأوربية لهذا الاتجاه

دور تركيا من الأزمة السورية كان فى مصلحة اللاجئين والنازحين الذين فروا من نيران المعارك فى شمال سوريا وهو دور له أهميته الكبيرة فى ازمة تم تصنيفها على انها من أسوأ الأزمات الإنسانية فى التاريخ الحديث ويحسب لها فى هذا الإطار انها وقفت مع الشعب السوري لاخر لحظة رغم انفضاض الجميع من حوله وهو أيضا من باب النظرة الاسترايجية للتعاطي مع الازمة وليس بنظرية ردود الافعال

موقف تركيا من إسرائيل باعتبارها محتلة لارض فلسطين الإسلامية كان واضحا منذ بداية عهد اردغان فهى عدوة فى هذا الإطار ويجب عليها ان تخلى جميع الاراضى الفلسطينية المحتلة،و تركيا ذات رؤية واضحة فى ذلك الإطار وترتيبا على ذلك فإنها قد أدانت كافة القرارات الصادرة من الإدارة الأمريكية او من مجلس الأمن او من دولة اسرائيل والتى تتعلق بتكريس الاحتلال او العدوان على الشعب الفلسطينى ولم تتوانى فى اعلاء صوتها للدفاع عن المقدسات الإسلامية  كما انها لم تتوانى فى الوقوف ضد صفقة القرن وتهويد القدس وغيرها من الاجراءت التى تستهدف تكريس الاحتلال والتعدى على المقدسات الاسلامية .

كان لتركيا موقفا واضحا من أزمة الخليج ووقفت بقوة مع دولة قطر فى المقاطعة التى فرضتها عليه دولة الحصار وعبرت عن ذلك الموقف فى دعمها لدولة قطر معنويا وماديا وإعلاميا، اما وضوح الرؤيا التركية ووضوح الأهداف التى تسعى إليها فقد تمثل على سواءه فى موقفها المعلن والمكشوف من الصراع الليبى بين كل من خليفة حفتر وفائز السراج فهى لم تتخذ طريق الدعم الخفى ومن وراء ستار كما فعلت العديد من دول العالم بل جاهرت بدعمها لحكومة السراج وأبرمت معه اتفاقا لذلك الدعم وظلت ثابتة على ذلك الموقف بالرغم من وقوف العديد من دول العالم تقريبا فى وجهه وحجتها الدامغة على ذلك ان حكومة السراج هى الحكومة الشرعية المعترف بها دوليا وان قوات خليفة  هى الا مليشيات تقودها أطراف خارجية لتحقيق مصالح ليس لها علاقة مع الشعب الليبى .

ان الدولة التركية تسير نحو أهدافها بخطى ثابتة وبرؤية إستراتيجية وبمواقف واضحة وان كثيرا من الدول غيرها  تسير نحو أهدافها بطرق ملتوية  وبنظرة ضيقة وبمواقف مهزوزة وان كثيرا من بؤر الصراع فى العالم تتغذى وتتقوى بتلك المواقف حتى اصبح المبعوثون الدوليون يجأرون بالشكوى جراء  مواقف الدول التى تظهر خلاف ما تبطن وما استقالة السيد\ غسان سلامة منا ببعيدة

ليس بامكاننا القول بن المواقف التركية مبرأة من شبهة الاصطفاف الاقليمي والدولي بشأن المتغيرات التى ظهرت اخيرا فى العالم، وليس بإمكاننا الجزم بان الرئيس التركى لايرمى الى مساندة تيار الإسلام السياسي فى البلاد العربية ، ولكننا  نجزم بان الرؤية التركية تجاه تلك المواقف تنبع من غيرة على الاسلام فى مجمله، فباالنظر الى الاسلاموفوبيا التى كادت ان تنتظم العالم باسره ظهرت بوادر حرب غير مرغوب فيها ضد الإسلام حتى أصبحت الدعوة للوقوف ضد الإسلام بصفة عامة وضد الإسلام السياسى بصفة خاصة تكتد تتماهى مع المناداة بالحرية والديمقراطية وحقوق الانسان  وحتى اصبح الناشطين فى بعض الدول الإسلامية نفسها تقع على طرفى نقيض من تعاليم الإسلام لا لشئ الا انها مما ينادى به دعاة الاسلام السياسى، لهذا فاننا نرى فى الرؤية التركية تحاه كل تلك الأحداث  أملا فى بقاء جذوة الاسلام حية ومتقدة  بغض النظر عن ما فعله قادة الاسلام السياسى فى بلدانهم حينما تسنما هرم السلطة .

خلاصة القول هو ان دولة التركيا ظلت ثابتة على مواقفها المعلنة وليست الخفية تجاه الأزمات العربية، وقد كانت تلك المواقف تصب – دائما - فى اتجاه الشعوب العربية كان ذلك فى سوريا او ليبيا او فلسطين 

 

ناجى احمد الصديق الهادى – المحامى - السودان

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم