صحيفة المثقف

مدرسة الحوار الراقي و"الحمار"

بكر السباتينلم يفهم المرشد التربوي ورئيس لجنة التحقيق في مدرسة "الحوار الراقي المختلطة" لماذا يقتتلان وكأنهما يدرسان في كتاتيب الأجداد.. فكلما نعت الأستاذ بهجت ابن زميلته انتصار المدلل ب "الدغل" ترد عليه بأن ابنه هو "البغل".

ترى! ماذا لو مرر الزميلان الشتيمتين دون ردٍّ، وتركا مجالاً للإصلاح بينهما لأن استفحال الأمر يعرضهما لعقوبة قد تصل حد الفصل أحياناً.. وفرصة إصلاح ما عطبه الشيطان بينهما متاحة، خاصة وأن شتْم الأبناءِ عادةٌ مألوفة ولا تُدْخل الزميلين في مأزق أخلاقي.. لكنه كلما تكرر الموقف بينهما، وبدون مقدمات، يتقاذفان الشتائم ذاتها وكأنهما يقفان على دلالات ما يقصدان بالشتيمة، "بغل" و"دغل".. حتى استقر المعنى في رأسه المرشد، وهو يطوي محضر الاستجواب تحت إبطه، ويدخل به مكتب مدير المدرسة بناءً على طلبه، متجاوزا فوضى الطلاب وهم يتدافعون إلى الساحة عبر الممر؛ وذلك لمناقشة تفاصيل المشكلة المتفاقمة بين مُدَرِّسيْ اللغة العربية في المدرسة الأستاذ بهجت والمعلمة انتصار.

الأستاذ بهجت، الملقب بديك الحبش نظراً لأن أوداجه تنتفخ كلما غضب، ويزرق وجهه احتقاناً، فيما يبدو صوته متقطعاً كعطسة الديك الرومي المفزعة، حتى يهتز بطنه المندلق أمامه كقربة الماء.. وهو يرد على زميلته في غرفة المعلمين بأعلى صوته، غير آبه بوجود زملائهما ولا ببعض الفضوليين من الطلبة الذين جعلوا يزفون متحمسين ابني الزميلين كشهود زور من الطرفين:

" بل ابنك هو الدغل يا محترمة فهو لا يضيع فرصة إلا ويهين فيها ابني، ورغم أنني شكوته لحضرتك عدة مرات إلا أن النتيجة كانت أن ابنك دغل حيقي، وأصر على ذلك.. فقد طفح الكيل.. ربوا أبناءكم قبل أن تحذفونا بالطوب.. هذا عيب"

ويُضحك هذا التعليق غير المهذب المعلمة انتصار في حين تضم ولدها المدلل إلى صدرها وكأنها تحميه من سطوة الأستاذ بهجت وابنه الشرس. والغريب أن المعلمة انتصار، التي تشبه البطة السمينة وقد ضاقت عليها ملابسها وتنافرت ألوانها كأنها آتية من مخيم الغجر، كان بوسعها إشباع خصمها نقراً لضخامتها، ولكن! بالكاد كان يخرج صوتها الخفيض، وهي تستدر عطف زملائها الذين تدخلوا كما العادة لفض الشجار بين الزميلين، فاستدرار العطف بدا سلاحها النافذ في كل مواقفها مع الأستاذ بهجت، فأخذت ترمق ابن الأستاذ بهجت متمتمة بصوت ماكر مهزوم.. وكانت عيناها مغرورقتين بالدموع:

"فعلاً أنت بغل حقيقي وعديم التربية".

فيرد الأستاذ بهجت بعنفوان ديك الحبش:

- بل ابنك دغل بأذنين طويلتين..

- ابنك هو البغل.. احترم نفسك.. نحن جيران ولو سمع والده الشتيمة سيريك أن الله حق!. ولا يغرنك أن ابنك ضخم كالحصان كما تراه.. لأنه بعقل حمار..

فيضحك هذا الجواب الأستاذ بهجت وهو يستشهد بعينيه وجوه زملائه محذراً:

- جميعكم يا أفاضل تعرفون بأن ابني على الأقل لا يرسب في امتحاناته رغم تدني درجاته.. ربما لأنني لا أجد وقتاً لتدريسه.. لكن ابنها الدغل كان من المفروض أن يكون في الصف الأول إعدادي لكنه يصر على البقاء في الصف السادس ليتورط ابني بزمالته.. فعلاً دغل.

ويتحول الشجار بين الزميلين إلى مأزق يسترعي تدخل الإدارة لفضه. ويتأسف المدير على حال مدرسيه حينما يصل بهم الأمر إلى هذا الدرك.

واستمع المرشد ورئيس لجنة التحقيق إلى تعليق المدير بصوته الرتيب:

- يتخاصمان كالأطفال ويرجمان بعضهما بتهم لا شهود عليها!

- أبداً.. لا شهود على ما ادعياه بحق بعضهما في أنهما تقاذفا بشتيمة "حمار" أمام الزملاء.. مع أن الحمار أكثر منهما أدباً وصبرا.

- كتبت في تقريرك أن الأستاذ بهجت سامحه الله قلَّ عقله ونعت ابن المعلمة انتصار بالدغل؟ هذا الأستاذ الذي لا يستوعب زميلته، فعلاً عقله "خزق"

- وهي نعتت ابنه بالبغل.. يعني بغل مقابل دغل!

- ترى أين يكمن السر.. فهل بينهما خلافات مسبقة.. فلا تنسى بأنهما جيران.

- يقول جارهما الأستاذ محمد بأن الأستاذ بهجت عازم على الرحيل فهو لا يطيق جيرة المعلمة انتصار ومكائدها، ويشهد على أنه صادفهما في الزقاق حيث يقطنان، لم يشأ حين ذاك أن يتدخل وهو يتوارى خلف ستارة نافذة بيته المطلة على الموقف من علٍ، كانت تضحك مماحكة الأستاذ بهجت معلقة بدهاء:

" ستعاقب يا ديك الحبش وسوف يمعطون ريشك يا والد البغل..

وبما لا يصدقه منطق أو عقل.. أو لندع الأمر فهو موقف محرج جداً..

- بل أكمل.

- تخيل كيف أن مربية الأجيال، المعلمة انتصار، تمد لسانها وتفرك قبضة يدها بكفها مماحكة حتى تثير غيظ زميلها بهجت، وتقول بصوت يشبه الفحيح:

- نعم ابنك بغل.. بغل.. "طق وأفقع"

وشاهد كيف خرج الأستاذ بهجت مسرعاً من الزقاق وجبينه يتصبب عرقاً، حتى لا يتورط مع المعلمة انتصار أكثر من ذلك، متمتماً بصوت مسموع:

- إن كيدهن عظيم.. فعلاً مثل هذه الأشكال لا تحتضن إلا دغلا.. الغريب أنها تبدي كل لطافتها أمام الشهود بينما يتعثر لساني وتخرج الحروف من فمي مغسولة بالرذاذ.. اللهم اكفني شرها.

وفجأة خطرت في بال المدير فكرة في أن ينقل أحد الخصمين إلى الفترة الثانية في نفس المدرسة رغم تميزهما في العطاء، وتساءل:

- من تقترح يا ترى! أريد أفضلهما في مدرستي ولينصرف الآخر إلى الجحيم!

- أرى ألاّ نستعجل، على الأقل حتى ننهي ما بينهما من خلاف!

وفجأة دخل عليهما أستاذ التايخ مستأذناً، وهو يمسد شاربيه بالسبابة والإبهام، وابتسامة النصر تورق في محياه.. ووضع يده على الورقتين اللتين تضمنتا شكوى الزميلين ضد بعضهما.. وعجنهما بيده، وكأنه مع المدير الذي أكلت الدهشة رأسه على اتفاق.. وعلق أستاذ التاريخ بهدوء:

- نعم شتما بعضهما البعض بكلمة حمار

فيستعلم المشرف التربوي بذهول:

-ولكن! هذا لم يرد في التقرير بشهادة الشهود فما سر ما تقول!؟

- يكمن السر في اللغة يا أستاذنا..

- لم أفهم

- ماذا نعتت المعلمة انتصار ابن الأستاذ بهجت

- بغل

- أي الحيوان الضخم الذي يشبه رأسه الحمار، وهو حيوان ذو بأس وجلد، جاء من مواقعة الحمار للفرس.. أي أن الأستاذ بهجت نُعِتَ ضمنياً بالحمار.. فماذا كان رده، أن نعت ابن المعلمة انتصار بالدغل!

- وما المقصود من ذلك؟

- أي الحيوان الذي يحمل صفات البغل لكنه نتج عن مواقعة الحصان للأتان أي أنثى الحمار..

فضحكوا جميعاً وأرسل المدير في طلب الخصمين.. معلقاً:

- لن أفوتها عليهما خيبهما الله.. ما أصغر عقليهما.. العزومة هذه المرة على حسابهما:

وضجت الغرفة بالضحك.. وهمس المدير في أذن المرشد التربوي ممازحاً:

- اصرف النظر عن موضوع نقل أحد الخصمين.. فهما من الأكفاء عندي كما تشهد على ذلك شهادات التقدير.. أحياناً أشعر وأنا أتتبع مستوى نشاط قلة من المعلمين والمعلمات الكسالى، بأنه لا غنى عن البغل ولا الدغل في حياة يسودها التذمر والقيل والقال، وبعث الروح السلبية في النفوس، ولولا ما سيقال بأنه عيب لاتخذت الحمار شعاراً لمدرستنا التي تحمل اسم الحوار الراقي.. هذا لو كنا منصفين.

فيرد المرشد التربوي:

وإلا ما حظي هذا الكائن المحنك الصبور بمباركة الحزب الديمقراطي الأمريكي الذي اتخذ من الحمار رمزاً له.. ولو كنا في بلاد العم سام لتألق هذا الرمز فوق بوابة المدرسة التي تحتاج إلى ضبط وربط وإعادة هيكلة في الإدارة والعقول..

***

بقلم بكر السباتين.. قصة قصيرة.

16 مارس 2020

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم