صحيفة المثقف

السفر الأخير

قصي الشيخ عسكررواية كورونا (الجزء الأخير)

لقد اضطرني السفر إلى العراق إلى أن أؤجل َ نشر الجزء الأخير من رواية كورونا وأظنني رجعت إلى بريطانيا بأعجوبة حيث وجدت من حسن حظي الطائرة الأخيرة.


أعود إلى وجهي في المرآة.

أقرأ:

عاصفة جديدة متوقعة بعد عاصفة Ciara زوجة مقدّم البرامج الشهير فيلبس تصِّرح أنها كانت منذ 25 عاما تعرف أن زوجها gay وستطلب الطلاق إذا قرر العيش مع partner: تعلن أن ثروته تتعدى

ال 120 مليون باوند.

ضحايا كورونا يتجاوزون ال 1500.

وفاة بريطانيّة من أصل صومالي سافرت إلى مقديشو لتجري عمليّةختان!

ابتسم على الرغم من قساوة الأخبار. أجد فيها مادة مسليّة . لا شيء عن الشرق أو انتفاضة العراق. أقتنع أن كثيرا من الوقائع وإن كانت قاسية وبعضها مثير للقرف فإنها ضرورية للخروج عن رتابة المألوف في حياتنا وسير الكون ولابدّ أن تتلاشى بمرور الوقت من الذاكرة لتحلّ محلّها كوارث ونكبات أخرى فيستعيد وجودنا توازنه من جديد.

أحقّا تصبح الحياة من دون طعم بغير قتلٍ وعواصف وفيضانات وحرائق؟

ربّما أقنع نفسي.

أو على الأقلّ أتظاهر..

اليوم لن ينزل كالم من الطابق العلويّ فيعمل معي..

فها أنا أخيرا بعد سبعة أيّام أقابل ياسمين التي يسميها الآخرون جاسمين! إنكليزية، واضحة الملاح، ذات وجه جاد، حلو شفاف.. وابتسامة لا تغيب عن شفتيها:

نطقتُ اسمها كما يراه الآخرون، ومددتُ يدي مصافحا ومرحِّبا:

أهلا جاسمين يسعدني أن ألتقيك وأعمل تحت إمرتك!

أهلا بك أنا سعيدة بوجودك.

هل قرأتِ التقرير الأخير عن تايرون الذي كتبناه أنا وكالُم خلال فترة غيابك؟

مذهل قالت عبارتها وتصفحت الملف على الرفّ، وعادت تقول: حضّر نفسك سنخرج

معه بعد زيارة الحديقة، ولن نستخدم السيارة فالأفضل أن نصحبه إلى كافتريا ساينس بري.

هل من ثالث معنا:

الحقيقة إنه خَطِر بحاجة إلى ثلاثة يرافقونه لكن سنعمل بالممكن.

كما ترين!

صحبنا تايرون إلى الحديقة الخلفية. كانت الجامايكية وكالم يدربان متوحدة على الزراعة في البيت الزجاجي، وفي طرف الحديقة وقفت سكرتيرة المدرسة ومعلمة أخرى تشذّب مع مجموعة من المعاقين بعض الأغصان الجافة. لا شيء أكثر سوى صيحة حادة من الطابق العلوي الأمر الذي اعتدنا عليه.

كانت مظاهر السعادة تبدو على تايرون. انهمك يعمل في الحديقة فوعدناه أن نبتاع شجرة يزرعها بيده في المكان الذي حفره.

هدوء تام..

وسعادة.

فرح.

وبعد أكثر من ساعة خرجنا الى الكافتريا القريبة. كنت أقبض على يده خشية من أن يفلت فيندفع إلى الشارع . هممت أن أكسر رتابة الطريق. فدفعني فضول:

كيف كانت سفرتك!

رائعة بحق!

الحق أول يوم باشرت العمل فيه أثارني اسمك. أنا من الشرق من أصول عربية. الجميع يسميك جاسمين فهل تسمحين أن أناديك ياسمين؟

اسمي ياسمين هكذا تناديني أمي وأبي في البيت!

من أي بلد أنت؟..

جوزاي بريطاني أنا مولود هنا من أبوين من جنوب العراق مدينة يقال لها الناصريّة.

فابتسمت بدهاء وردت:

اسمي شرقي.. أنا أبي من إيرلندا.. يمكن أن تقول عنه (unbeliver) وأمي يهوديّة إنكليزية وفق الديانة اليهودية أنا يهودية. أمي دونت ديانتي في سجلات الفولك ريجستر.

دهشة..

انفعال..

غضب أو قرف أقرب إلى الصدمة.

أمسك نفسي عن الدهشة والانفعال.

مسحة من الخيال البعيد.. قد يكون جدها قتل جدي..

أغالط.. أحاول أنأركب مثل مخرج محترف صورا من المحال لتبدوَ حقيقة أقتنع بها.

بالتأكيد ليس هو.

لا عاقل يظنّ ذلك.

وفق أسوأ الاحتمالات يكون وافق على عملية القتل..

أحبِس ابتسامة مرة، وأخفي انفعالاتي. بالأمس كنت مع فتاة على قمة التل أثارت فيّ أحاسيس مختلفة تماما. لِمَ أقرف من أخبارٍ تخصّ الموت رأيتها ضرورية لخروج الاشياء عن رتابتها، وخبر واحد يهزني يكاد يقتلعني كالعاصفة الميتة كيارا في لحظة قوتها واتساعها مع ذلك تبدو لمن يراها عن قرب بعد سكونها المريب أنها أضفت على المدينة طابعا من الخجل والبهاء.

هل زرت اسرائيل من قبل؟

سؤال مباشر لم أتمكن من كتمانه.

سفرتي كانت إلى هناك!

اجتزنا الشارع العام. اتجهنا نحو الطريق الجانبي والدوار الصغير فدخلنا

ساينس بريز.. مازلت مذهولا..

لم ألتق بيهودية في المدرسة..

ولم اسمع سوى من أبي وجدتي أن جدي أول مَنْ قُِتل في الجولان عام 1973.

حدث لا يهزني..

ليست هناك من مناسبة لأتلوَ الحديث على مسامع كريستي أو زملائي التلاميذ كما يفعل أبي وجدتي في بعض المناسبات.

خبر قديم مات في نفسي من زمان كما مات خبر مصرع أبي..

أما أن يتوهج فجأة فلا أعرف له سببا.

خوف أكثر مما هو حقد أو قرف.

وربماحقد دفين لا أعيه.

 تركنا تايرون يختار مايرغب.. يتعامل مع البائعة كأي زبون. يقف في الطابور، ينتقي الصوصج.. والبطاطا المقلية، وعصيره المفضّل، ثم عدنا معه إلى الطاولة.

لحظة صمت، قطعتها بالكلام مع تايرون:

أنت رائع ياتايرون ..

بالتأكيد. سنصحبه دائما إلى الكافتريا والمسبح ونزور طاحونة الريح وأماكن أخرى. قالت ياسمين. وبدا أني كنت قد ظلمتها إذ كنت تحت تأثير المفاجأة..

ومثلما يسبق الهدوء الأعصار.

جاءت ردة فعل تايرون..

بسرعةِ أرنبٍ بريٍّ

وعنفِ ذئبٍ مسعورٍ

زعق وألقى بالمائدة على الأرض وأطبق بيده على ساعد ياسمين فصرخت من الألم وتهاوت على الأرض بين المقعد والطاولة. أثارت صرخته الزبائن، وهرعت العاملة فهتفتُ فيها ابتعدوا إنه اسبارجر.. وحالما انحنيت عليه أضغط على ساعده بإبهامي وجعلت أصابعي الأخرى تطوق يده، وقبل أن أشدّه من كتفيه بيدي اليسرى اغتنم الفرصة فأطبق باسنانه على خدّ ياسمين.

لاح المشهد مثيرا وقاسيا..

لم يكن أمامي رادع سوى أن اضغط على معصمه بيد وأوغل سحبه من رقبته.

خشيت أن أترك أثرا في جسده فأواجه القضاء.

مع كل ذلك راح الزبائن يأكلون ويثرثون ولا يلتفتون إلينا. سأل نادل المطعم الذي ظل يراقب عن بعد:

هل نتصل بالإسعاف.

أجابت ياسمين كلا أنا بخير.

وتساءلتُ:

shure

لم تكن لتبكي..

 هناك جرح أزرق على خدها ورقعة حمراء فوق معصمها:

أنا بخير لقد اعتدت على مثل هذه الحوادث!

مازلت أقبض على معصم تايرون الذي أخذ يميل إلى السكون، وكانت تتحسس وجهها بيدها:

ليس الجرح بليغا يمكنك أن تذهبي لتغسلي وجهك وتعدلي هندتمك

الأفضل أن نغادر الآن.

وعدنا إلى مركز "حقل الزعفران". قطعنا المسافة صامتين. هل تحول غضبي على

ياسمين إلى شفقة؟

بدا وجهها لي أكثر براءة، وأكثر نقاء.. ورحت ألوم نفسي على نفوري منها.. إلا أن هناك زهوا خالطني لحظة إنقاذها من قبضة تايرون وفكه، فظننت أني أصبحت قريبا منها.. وأن الايام القادمة يمكن أن تقارب بيننا.

صداقة لها خصوصية أنتظرتها من غير أن أشعر!

لكنْ ماطعم تلك الخصوصية ودرجتها وإلى أيّ حد تصل؟

لا أدري!

قلت أثناء استراحتنا في كافتريا المركز:

هل تذهبين إلى منزل والدتك في داربي بعد الدوام أم لديك فسحة من الوقت فنختار أي مكان نتناول فيه العشاء.

فتطلعت بي بلا مبالاة :

اعتذر my partner will come to take me

ابتسم في سري واعتذر:

آسف لندع ذلك لوقت آخر.

فقالت بتصميم:

لن أقدر قط فأنا أسكن مع صديقتي وهي شريكتي!

هذه المرة قرفت حقا..

ندمت

أكتشف أني اقرف ولست حقودا قط. الذي أتيقن منه جيدا أنها سحاقية. هكذا يطلقون عليها في بلاد أبي وجدّي، يحتقرون تلك الأصناف.. lesbian  gay ..

شواذ فساق.. داء وبيل.. إذا سموا بلداما احتضن الأحزاب بالشَكَرة فماذا يطلقون على السحاق واللواط.

قرف:

إنها النحلة كما يصفها العاملون الجامايكية تجاملني.. من حسن حظك ستعمل مع جاسمينة.. صديقي كالم يقول إنها طيبة على النقيض من شخصية كيري مكنزي الخبيثة الانتهازية التي تتطلع إلى أن تحتل منصب المدير ذات يوم. ابتسم في سري.. أعود إلى مباراة لكرة القدم بثّتها قناة BBC1 بين ليفربول وبيرمنغهام، بعدها وقد سرحنا مع المباراة أنا وأخي الأكبر، ظهر على الشاشة.. Muslim gays in Britain غادرت أختي الكبرى أحلام مطأطئة الرأس، وقد زعق أبي قبل أن نسارع لتغيير القناة:حرق.. هذا عقابه الحرق.. حرق

في الدنيا والآخرة، فإدرك تماما بعد عملية الحرق التي جاءت متأخرة بضع سنين أن أبي هرع إلى الكنيسة ليثبت ميلادي شأنه مع أخي وأختي، ومثلما لم أحسّ بألم الختان في اليوم السابع من ميلادي ، وأبتهج لروعةِ عقيقةٍ دعت إليها أمي وجدّتي في المركزالإسلامي الكبير، لا أرى كريستي وأيّاً من صديقاتي اللائي عرفتهنّ بعدها تبالي بكون هذا الفتى الشرقي مختونا أو أغرل، ولا يشغل بالي أيضا وفاة صومالية رحلت إلى بلدها الأصلي لتجري عملية ختان.. لا يهمّني أحدثت ضجة في الصحافة وتحوّل موتها إلى أزمة سياسية أم انتهت الضجّة بطريق ملتوٍ إلى دهاليز مغلقة.

لا أبالي بكلّ ذلك..

أنا الآن أواجه حالة غريبة..

جديدة..

أتأمّل فيها احتمالات كثيرة.. أتساءل بسذاجة:هل يمكن أن تصبح كريستي صديقتي السابقة أو أية واحدة عرفتها بعدها مثليّة ذات يوم؟وقبل أن أجد جوابا لقطرة دم تركتها على تراب داكن يوما ما، وأقسم أنهَّا أّول دم أريقه في حياتي، فتنشطر إحدى قطراته ترتفع إلى السماء تصبح رجلا يطارد رجلا وامرأة تلعق أخرى، أمّا أنا وكريستي فقد وقفنا بين التلّة وأجمة الهندباء نبصر ما تحت أرجلنا،

فنشفق،

 أو

نسخر،

أو

نشمئز من العالم، حادث اليوم الذي أواجهه من دون توقّع سابق أقلّ في عنفه من صدمة والعتب كلّه يقع على عاتق صديقي كالُم الذي ذكر لي عن لؤم كيري مكنزي سكرتيرة المدير وانفصال سكتلندا والملكة التي لا تنزل عن عرشها مهما طال بها العمر وبوبي ساندز في إيران حدّثني عن العالم، ولم يذكر لي أيّةَ إشارة عن ياسمين. ترى هل كان يعرف وتجاهل. بالتأكيد يعرف ولعله لا يروم الخوض في خصوصيات زملاء العمل.

لا أحتقرها..

أبداً

أحترمها.. بل أشعر بشيء غريب..

 .. دوار..

نفور ..

شيء ما لا أفهمه!

أدعي أني أذهب إلى دورة المياه. لقد كان حقا يوما شاقا، ترك أثره القاسي على خدّ ياسمين، وأظن أن الجرح سيزول بمرور الوقت، أما أنا فقد ركبت الحافلة، وكان المطر يهطل، والعاصفة توشك أن تداهم من جديد. بلا شك سيجدون لها اسما آخر مثلما وجدوا للعواصف قبلها أسماء مستوحاة من أسماء الحموات والأعداء، ولم أتغلب على الخاطر الجديد الذي ألح عليّ، فرفعت الهاتف إلى أذني لأسمع صوت أمي:

أحدّثك من لندن أنا مع خالتك أبشرك ستؤسس مشروع أزياء وتشتري بيتا هنا!أليس من الأفضل أن تكون معنا في تصديق المعاملات؟

السؤال ذاته بصيغة أخرى وإن اختلف الزمان والمكان :هل تذهب مع جدتك إلى المركز الصحي والله كانت لغتي مثلكم لرافقتها، على الرغم من أنّ الطبيبة الإنكليزية تمتعض ولا تخفي أن حضور الصغار مع كبار السن غرض الترجمة يسبب لهم مضاعفاتٍ وآثارا تتحوّل إلى عقدٍ و كوابيس، أما خالتي فلا تحتاج إلى مترجم لديها محام ومختصون لكن من غير زهوٍ ولا غرورٍ أجد الجميع لا يستغنون عني، فهل أجامل نفسي، أم أبالغ؟

اسمعي جيدا سآتي إلى لندن فأكون عندكم بعد ساعات!

وعملك؟

سأجد حلا لذلك تفكري بالأمر.

خلت أن وجهها ووجه خالتي يتهللان بالحبور:

حسنا ستجد لؤلؤة تنتظرك في محطة القطار.

ولم أتجه إلى شقتي.

أراني تلك اللحظة أعرض في الغدّ عن وقفتي المعهودة أمام المرآة شأني صباح كل يوم، فلا أرى وجهي أو أسمع من المذياع أخبارا جديدة عن الموت بالقتل والموت بوباء كورونا الجديد، ولا أفتح النت فأعلم أنه يطير من الصين إلى طهران فتفاجئني شماتة جديدة، وأرافقه إلى الكويت والبحرين لأجد الناس ترجع السبب إلى الفساد والفسق والفجور.

كأنّي أصبحت منذ ظهوره رجل مخابرات واحدا من SISأتابعه ولا أغفل عنه.

أتخلى عن ملاحقته تماما يكفي أن ألمحه مصادفة على نشرات الاخبار الضوئية وصفحات الصحف المتناثرة أمام الأكشاك.. وفي صحيفة ال (Metro) التي تطاردني إلى أيِّ مكان.

كنت أغادر الحافلة فاستقل القطار الصاعد إلى لندن!

***

قصي الشيخ عسكر

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم