صحيفة المثقف

كورونا فاعلًا اجتماعيا

علاء شدهان القرشيلا نُدركُ من المعنى إلّا شكْلَه الظَّاهر، وألوانَه التَّي تتبدَّى للعيان. إدراك المعنى عيانًا وشكلًا يحْجُبُ بِنْيَتَه وراء أستار الشَّكل والعيان، ولن يعود ممكنًا التَّعرُّف عليها، فما هي الطريقة السَّليمة لاستدعائه، وإظهاره كمفهومٍ ذهنيٍّ يمكن قياس أبعاده، ولمس وجوده، والتَّعرُّف عليه؟

من أجل التَّعرف عليه مُجرَّدًا، في بِنْيَتِه الأصلية، نراقب أشكالَه الظاهرة في ظرفين مختلفين، بطريقةٍ تُمكِّننا من جدولة مرحلتين في تاريخه: أشكال المعنى في ظروفٍ وشروطٍ مستقرةٍ، ساكنةٍ، مألوفةٍ. وأشكال المعنى في ظروفٍ مضطربةٍ، ديناميكيةٍ، جديدةٍ غير مألوفةٍ. وبذلك سيكون للمعنى في أشكاله وعيانيّته (قبل) و(بعد)، يمكن مقارنتهما، وفصل الفوارق بينهما، وتحديد البِنْية الأصلية التي تَعَرَّضَتْ لظرفٍ مختلفٍ غير مسبوقٍ، تسبَّبَ في نزع أردية الشَّكل السَّابق، وبروز الشَّكل اللَّاحق.

مثال ذلك: في ظروف القمع الشَّديد (الدكتاتورية)، تمارس المؤسَّسة سلوكًا يحميها، ويحفظ حياتها (التَّقَيَّة)، ولا يعود مُمكنًا التَّعَرُّفُ على موقفها من شكل النِّظام السِّياسي الحالي. إلَّا أنَّه بعد تَغَير الظَّرف، وتحوّله إلى ظروفِ الحرَّية واحترام الخصوصيات وما إلى ذلك (الديمُقراطية)، سيزول مُبَرِّر سلوك التَّقَيَّة، وسيتمُّ التَّعَرُّفُ على الموقف من شكل النِّظام السِّياسي، بعد زوال الخطر عن حياة المؤسسة الدينية الذي كان مُحْدقًا بها.

في هذه اللَّحظة بالذَّات، يتمُّ التَّعرُّف على البِنْيَة الفقهية (في مثالنا) للمؤسَّسة بلا رتوشٍ، لأنَّنا راقبنا تاريخ المؤسَّسة: (قبل)، و(بعد). ويكون القياس على الظَّرف اللَّاحق كافيًا، أو يتمُّ مقارنة الظَّرفين واستخراج الموقف نقيًّا من الضُّغوط، بعملياتٍ تحليليةٍ دقيقةٍ.

كورونا، ظرفٌ لاحقٌ، لظرفٍ سابقٍ. فقبل الجائحة لا يُشْبه ما بعدها. حجرٌ صحّيٌ طال ويطال مُدُنًا كبيرةً، غَيَّر من عادات الناس وتقاليدهم، ولا أضيف بهذا القول شيئًا، فهو واضح للعيان. إلّا أنني في صدد مراقبة المؤسَّسة بعد تَعَرُّضها لظرفٍ مختلفٍ، واكتشاف بِنْيَة المؤسَّسات الدِّينية، في موقفها اللَّاهوتيّ التَّوحيديّ، الذي سنراه ماثلًا للعيان مجرَّدًا عن كلِّ حجاب، بعد ثنائية: قبل/بعد.

نسمع، من رجال الكهنوت، خطابًا جديدًا نَتَجَ عن الظَّرف الجديد، يفيد: أنَّ الله أغلق بابه (الكعبة، والمساجد، والكنائس...)، في وجوه عباده غَضَبًا عليهم، لأسبابٍ ترتبط بفعلهم، وسلوكهم، الذي تسبَّب في هذا الطَّرد، بعد تقديم الإنذار، والإعْذار، وارتفاع نسبة الصدِّ والإعراض.

ويزيد هذا الخطاب في البيئة الإسلامية أكثر من غيرها، مما دفع جمعٌ كثيرٌ من المسلمين إلى رَفْضِ هذا الإغلاق، وخَرْقِ التَّدابير الوقائية المتَّخذة في هذا السبيل. ماذا يَتَضَمَّن هذا الخطاب؟

إنه يَتَضَمَّن فهمًا خاطئًا، جملةً وتفصيلًا، لعقيدة التَّوحيد، ويكشف عن (بِنْيَةٍ) كانت سائدةً لقرون متماديةٍ هي بالضِّدِّ من التوحيد، ولا شيء يكون كذلك إلّا (الوثنية). وقد برزتْ مُتجرِّدَةً بفضل ظروف الجائحة الشَّديدة الوقع، بعد أن كانت محتجبةً بأستار الشَّكل، والممارسة، والعيان.

ففي نصوص الدِّين، التي تمتلك أعلى درجات الصحةِ والوثوق، نَجِد: «وهو معكم أين ما كنتم...»، و«ما يكون من نجوى ثلاثةٍ إلا هو رابعهم... ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا..»، و«نحن أقربُ إليه من حبْل الوريدِ...». ومعنى ذلك أنه موجودٌ في كلِّ مكانٍ، وأنَّ قلب المؤمن مَسجدٌ، وبيتٌ من بيوت الله، كلَّما استحضره، وذكره، ولجأ إليه...إلخ.

ومن ذلك يتَّضح أنَّ رجال الكهنوت، ولمدةٍ طويلةٍ جدًّا، لم يكونوا يشعرون بوجود الإله (إلّا) في شروطٍ طقسيةٍ خاصةٍ كالمسجد، والكعبة، والكنيسة، وببعدهم وحرمانهم منها، فقدوا أدواتهم الطقسية، وبذلك فقدوا الشُّعور بالإله. وبذلك يتَّضح أيضًا أنهم وثنيون بملاحظة العنصر المادي في الطقس أو فهوا التَّوحيد فهمًا خاطئًا واستبدلوه بالوثنية وهمًا. ويتضح أيضًا أنَّ جَلْدَ السَّواد الأعظم من الناس بتحميلهم كل خصال الذم والبعد عن الله، عَمَلٌ غير مُبَرَّرٍ، ولا بدَّ أن تكون له أغراضٌ ليستْ نزيهةً.

 

بقلم: علاء شدهان القرشي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم