صحيفة المثقف

الرسام رامبرانت - Rembrandt

رحمن خضير عباس"لكي تجود قريحتك كفنان بالإبداع، عليك أن تتذوق الفناء عدة مرات"

ينتهي فيلم الرسام رامبرانت بهذه العبارة، التي تترجم حجم ما كابده في حياته، والظروف الحياتية التي مرّت به، والتي حوّلته من فنان يسيل الذهبُ والمال من ريشته الماهرة، إلى شخص مفلس ومريض، فيموت وهو ممسكٌ بريشة الرسم، ثمّ يُدفن بدون ما تقتضيه طقوسُ الموت في مقبرة الفقراء والمُعدمين. هذا ما طرحه الفلم الفرنسي (الرسام رامبرانت) الذي تناول جزءاً من حياة هذا الفنان الكبير، والذي ولد في بداية القرن السابع عشر، وتوفي عن عمر يناهز الثالثة والستين، بعد أن فقد كلّ أحبائه، وآخرهم ابنه الوحيد تيتوس، الذي مات بداء الطاعون عن عمر لا يتجاوز السابعة والعشرين . ذلك الطاعون الذي تفشى في تلك الفترة من أواسط القرن السابع عشر وحصد الملايين من البشر، واكثرهم من الطبقات الفقيرة،لكثرة القذارة التي تجلب الجرذان التي ملأت البيوت والأسواق والحانات ومجازر المواشي. بينما كان أغنياء أمستردام  في منأى عن العدوى.

الفيلم من إخراج وسيناريو شارل ماتو،ومن بطولة الممثل الفرنسي كلوز براندوير.  يتناول حياة الفنان الهولندي الكبير رامبرانت،وهو يعيش في خضمّ حياة العاصمة أمستردام،حيث فوضى الحياة التي تتجاذبها خطوط الفقر المُدقع والغنى الفاحش، وحيث الفروقات الطبقية التي تنخر المجتمع، والتي عبّر عنها أحد المختلين عقليا، والذي كان يخطب بين الناس في أحد الشوارع العامة، ويتكلم عن الأمراض الاجتماعية، ومنها ممارسة العهر وارتكاب الموبقات في تلك المدينة الصاخبة، محذّرا الفنان رامبرانت أثناء مروره بقوله:

" إيّاك من المكفوفين فهم يحقدون على الذين يَرَون الضوء "

وكأنّ هذا الرجل المُختل عقليا قد تنبأ بالمخاض الذي سوف يتعرض له  رامبرانت،في مجتمع لا يعرف قيمة إبداعه.

يبدأ رامبرانت أعماله في بيته الكبير الذي يضمّ الكثير من الخدم . يضجّ بالحيوية والإبداع وهو يرسم الوجوه بشكل مُتقن وساحر، وكأنّه يغور في عمق الشخصية، وقد اشتهر برسم نفسه مرات عديدة، قد تربو على المائة، ليس بدافع الغرور، وانما كان يسجل مذكرات ملامحه بواسطة الريشة.وقد فسّر ذلك في يومياته التي يقول فيها:

"أقول إنّ وجهي تغيّر كثيرا،صار بمرور العمر أكثر بروزاً ويأساً وغربة.حينما أرسم نفسي فأنا أبحث عن نفسي"

كان رامبرانت يعشق النساء والفن والحياة، لذلك فهو بارع في جذب المرأة التي لا يستغني عنها، ومن خلال هذه النظرة الشبقية، فقد عشق الشابة ساسكيا حينما كان يُنَفّذ بورتريتا لها،وهي بنت عم صديقه تاجر اللوحات الفنية ، وكانت من عائلة ثرية،فأصبحت زوجته، وعاش معها سبعة أعوام حافلة بالحب والعطاء،وقد انتقلا إلى بيت كبير، وقد نجح في بيع لوحاته، وتنفيذ العديد من البورتريهات لوجهاء المدينة، والتي كانت تدرّ عليه دخلا كبيرا . ولكنّه كان مبذرا في نفقاته، كما كان يشتري الكثير من الأنتيكا الغالية كي تكون اكسسوارات للأشخاص الذي يقوم برسمهم.

ولكنّ ساسكيا كانت تُفجع بالأطفال التي تنجبهم بعد شهر أو شهرين، وبعد ثلاثة أطفال أنجبت ابنها تيتوس الذي عاش، ولكنها تعرضت إلى داء السل الذي جعلها تذوي وتموت،دون أن تتمتع بالفرح مع رامبرانت  وابنها الصغير .

بقي تيتوس الرضيع يتيما بين أحضان رامبرانت. ولكنّ السيدة ديركسن والتي كانت ممرضة لساسكيا تتكفل بتربية الصغير ، وبعد فترة من الزمن مال رامبرانت إليها، فتزوجها، فكانت البديل لزوجته الأولى.  وبعد فترة طويلة تعرف بفتاة جميلة، تدعى (هنريكشة) التي أحبها بصدق وكأنها تعيد له ذكرياته مع زوجته الأولى، مما أثار غيرة الممرضة التي أقامت عليه دعوى (انتهاك العهد) وقامت بحرق اللوحة التي رسمها لغريمتها.

كان رامبرانت محبوبا من النساء، وعاشق لهنّ، حتى أنّ الأخيرة هندريكشة قد أحبته بعمق وحاولت أن تتشبث به، وأن تعوضه السعادة التي افتقدها. لكنّ الزواج منها يعني حرمان رامبرانت من ثروة زوجته التي كتبتها لابنها تيتوس وجعلت زوجها وصيا.ورغم أن الكنيسة هددتها وخيّرتها بين هجرانها لرامبرانت أو اتهامها بالزنا. ولكنها ضحّت بكل شيء من أجل أن يقف رامبرانت ضد قوى المجتمع وسلطة المدينة التي وقفت ضدّه وقد وصفها  في يومياته :

"هندريكشة تحبني بعمق وصدق وبلا تذمّر، ومن أجلي وبّخها رجال الدين وطردوها من الكنيسة، لقد تقبلت أن تعيش معي وتقترف الخطيئة"

كان رامبرانت يقضي بعض أوقاته في الحانات لرسم بعض الوجوه. وفي أحد الأمسيات راق له أن يرسم رجلين إفريقيين كانا يجلسان في الحانة أيضا. وكان أحد الأثرياء من الهولنديين يـحطّ من شأنهما، ويسخر منهما بعبارات عنصرية، تنمّ عن فكرة التفوّق للبيض على السود ، مما أغضبَ رامبرانت الذي دافع عنهما  بقوله:

"أفضّلُ بَشَرَتهما السوداء على جلدك الأحمر المترهل"

وقد أهدى رامبرانت البورتريت لهما، فشكراه وأهديا له قردهم الجميل، والذي جلبه إلى المنزل وأحبه. وأصبح القرد أنيسا للعائلة.  وحينما قُتل القرد في الشارع من قِبَل مجهولين، تألم رامبرانت لموت القرد واحتضنه، وإراد أن يخلد لحظات موته على قماش الكنفاس، ولكنه لم يجد قطعة قماش فارغة، فلجأ إلى نفس اللوحة للسيدة التي كان منهمكا برسمها والتي منحته مبلغا كبيرا. لكنها رفضت أن تتقاسم قماش اللوحة مع الحيوان ، مما جعله يطردها بغضب رغم حاجته القصوى إلى المبلغ الذي دفعته. كان غير مكترث للمال، بل لكرامته الفنية التي كانت مهدورة في هولندا آنذاك.

كانت لوحته الشهيرة (حراس الليل) سببا في إفلاسه ودمار حياته الفنية والشخصية، فقد تعاقد مع مجموعة من كبار الضباط السامين في ستوكهولم لرسمهم في لوحة كبيرة، وقد دفعوا عنها مبلغا كبيرا. وحينما انتهى منها، أصيبوا بخيبة أمل،لأن وجوههم تغرق في مزيج من الظلّ والضوء،وذلك لأن رامبرانت يوزع الظل والضوء على تضاريس الوجوه والأشياء والملابس والملامح، بحيث يتعمق الفنان في مكوّنات الشخوص، وكأنه يُبرز مشاعرهم الدفينة. ولكنّ هذا الأسلوب الفلسفي في الرسم لم يرق لهؤلاء الضباط، لجهل منهم واعتقادهم بأنه يسخر منهم ويسيء إليهم .  فشنوا عليه حربا شعواء،وحالوا بينه وبين العمل في كافة المجالات الفنية، وجعلوا الجميع يقاطع أعماله، ولم يسمحوا له بالاشتراك بالمعارض الفنية. ولم يعلموا بأنّ هذه اللوحة التي حاربوه بسببها ستخلدهم إلى الأبد، وتجعل منها واحدة من أهم الأعمال الفنية  في مختلف العصور.

وهكذا وجد رمبرانت نفسه مفلسا ومحبطا وغير قادر على سداد ديونه، لأن طبقة النبلاء والارستقراطيين قد عزموا على تدميره، تساعدهم نقابة الفنانين التي منعته من ممارسة الرسم وبيع اللوحات،وحينما عجز عن تسديد المستحقات قاموا ببيع بيته ووأعماله وآثاثه بمبلغ بخس، متعمدين إيذاءه. ولكنّه بقي على نفس كبريائه، ينظر إليهم باحتقار  .

انتقل رامبرانت إلى بيت صغير في مكان بعيد عن مركز المدينة، وبقي معزولا وحزينا،غير قادر على تدبير تكاليف الحياة. ومع ذلك لم تتوقف فرشاته عن إبداع أجمل اللوحات. وقد فقد زوجته وحبيبته هنريكشة، والتي ماتت بعد صراع مع المرض، ولكنها تركت له طفلته الجميلة كورنيليا.

وبعدها بفترة وجيزة توفي ابنه تيتوس بوباء الطاعون الذي اجتاح هولندا.

لكنّه أحس باليأس والمرض حينما فقد ولده الوحيد، فبقي يعاني من الحاجة والوحدة والعزلة، ومات وهو يحاول رسم بورتريت لولده الراحل.

وهكذا تنتهي حياة هذا العبقري الذي شكّل منعطفا في تقنيات الفن الكلاسيكي.

لقد تناول هذا الفلم إنسانية رامبرانت، وشخصيته المتواضعة، وصراعه مع الطبقات الارستقراطية المتنفذة التي تبتز الطبقات الاجتماعية الفقيرة، ومع أنّه ينتمي إلى هذه الطبقة الثرية، ولكنّه رفضها وحاول تعريتها. ووقف ضدها وحيدا لا يمتلك سوى مبادئه وعبقرية فنّه التي لم تُكتشف الا بعد موته . تلك العبقرية التي عبّر عنها النحات الفرنسي الكبير رودان بقوله:

"مقارنتي مع رامبرانت تُعَد بمثابة تدنيس للمقدسات،يجب أن ننحني لرامبرانت ولا نقارن أي شخصٍ معه"

 

رحمن خضير عباس

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم