صحيفة المثقف

تشظّي المكان في مجموعة (ليلة نام فيها الأرق)

عبير خالد يحيىللقاصة السورية د. عبير خالد يحيي

مجموعة قصصية للكاتبة السورية عبير يحيى.. 20 نصًّا توزّعوا على ما يقارب المائة صفحة.. عن دار النابغة مصر.

الكاتبة لها أكثر من 10 إصدارات.. منها شعر.. ونقد.. والسرد. كما لها عدة دراسات نقدية ذرائعية منشورة.

تعرفت على الكاتبة من خلال إصدارها الموسوعي الذرائعي النقدي الصادر في ثلاثة أجزاء تنظير المنظر العراقي عبد الرزاق عودة الغالبي ودراسات تطبيقية للكاتبة. كان ذلك في معرض القاهرة للكتاب نوفمبر 2019 عرفت أنها تكتب الشعر والقصة, بعد أن أهدتني نسخة من مجموعتها "ليلة نام فيها الأرق". التي شحنتها إلى عدن عبر البحر ضمن كتب اقتنيتها من أيام المعرض.. إلّا أن تلك الكتب لم تصلني شهر مارس 2020. أثر مروري بعدن.. لأحمل كتبي وأحشرها تحت مقاعد العربة.. خوف مصادرتها من قبل نقاط المليشيات إلى صنعاء.. فعناصر تلك المليشيات يرون في الكتاب ريبة وشك.. وكثيرًا ما يصادرون كلما يقع بين أيديهم.. فرعبهم من الكتب قوي.

ليلة نام في الأرق.. عنوان يشكل صورة مغايرة لمدلول الأرق.. كمات حمل جملته مفارقة تجعلنا نقف متسائلين: إذ كيف ينام الأرق.. وهو إلَّا نوم في معناه. أربع كلمات كوّنت نصًا مكتملًأ لجنس الومضة السردية.. صيغت بحرفية فنية ولغوية عالية.. حين نجد الكاتبة وقد روّضت الأرق لينام. ظننت بأن تركيبة تلك الجميلة العنوان قد أتت مصادفة.

وقد حسبتُ الكاتبة ضمن عدد ممن يتناولون النقد.. ثم ينجذبون لرياح السرد.. محاولًا الركوب على تيارين ليحصد الفشل... وخاصة من يقعون في شرك الاستسهال. ظننتُ وكل ظن متعة أن كاتبتنا من أولئك.. وأنني سأجد نصوصًا ركيكة.. لكني ما أن قرأت أولى نصوص المجموعة حتى كشف عن قدرت عالية.. تفصح عن مبدعة متمكّنة من أدواتها الفنية.. وأن تركيب جملة عنوان مجموعتها لم يأتِ مصادفة.. بل عن وعي عالٍ. إذ أن جمل أولى نصوص المجموعة "يوم مُت". جاءت مبهرة.. تماثل روعة عنوان المجموعة.. وسأقتص منه "وحدها أمي كانت ترى في ضحكتي المعاقة حياة". يمكن للمتلقي كل حسب معارفه قراءة تلك الجمل.. فأمر طبيعي من أم أن ترى الأم ما يأتي به ابنها جميل.. لكن أن توصف تلك الضحكة بالمعاقة.. هذا ما يبعث على التأمل.. والتساؤل.. فمفارقة ضحكة معاقة.. وحياة. الجملة الثانية "أرى دواخل الباقي من آل آدم بعيني العمياوين..." . والثالثة "أسمع من الأصوات ما يعجبني فقط.. أضيف لإعاقتي اعاقة جديدة باختياري...". تلك الجمل النصية بدلالتها.. ليست هي الميزة الوحيدة التي تميزت بها نصوص هذه المجموعة. إذ أن المفارقة حاضرة أيضًا بشكل مدهش في نهايات معظم النصوص. تلك المفارقة التي تختلف عن نهايات كثير من قصص الكتّاب.. فمفارقات عبير تأتي لتسلّط الضوء على بعض التساؤلات.. إلّا أنها لا تتوقف عند ذلك.. بل أنها تحمل في الوقت نفسه مزيدًا من التساؤلات.. تلك التي تدفع بالمتلقي إلى إعمال الفكر بالبحث عن أجوبة " لكن نظرة أخرى إلى من فوق الطاولة.. جعلت لمى أيضًا تصرخ صرخة أعلى.. قبل أن تسقط فوق سارة" هذه الكلمات الأخيرة لنص بعنوان "نهاية الانتظار".. وحكاية النص أن صديقتين حميمتين.. تدرسان الطب.. لمى تحب حسن أخ صديقتها سارة.. الذي اختفى منذ أشهر في ظل ظروف الحرب السورية.. حتى أمسى مصيره مجهولًا.. إلا أن سارة أخته تفاجأ بوجود جثته ممددة أمام الطلبة كعيّنة لتشريحها.. يغمى عليها وتسقط أرضًا.. لتهبّ لمى حبيبة حسن تستطلع سبب سقوط سارة.. وما تكتشف الأمر حتى تسقط هي الأخرى.

بالطبع النهاية أجابت على تساؤل حول مصير الغائب حسن.. ولكنها في الوقت نفسه أضفت تساؤلات جديدة .. كيف قتل.. وكيف جلبت جثته إلى طاولة التشريح؟. إلى آخر تلك التساؤلات...

نهاية لنص قصصي "أماه أنا مازلت عذرااااء.

وصوت الطبيب الذي دخل توًّا في ذات اللحظة: البقية في حياتك .. لم نتمكن من إنقاذها".

 تلك نهاية لقصة بعنوان "قرناء السوء". لزوج يأتي أم زوجته متذمّرًا من رفض ابنتها النوم معه.. مهدّدًا بالزاوج من أخرى.. تفكر الأم بعلاج لعزوف ابتنها التي كانت تسألها عما يشكو زوجها إلّا أنها كانت تردّ عليها إلى أن كل شيء على ما يرام.. وتحت تكرار شكوى الزوج تذهب الأم إلى شيوخ العلاج بالقرآن الكريم.. الذي يؤكّد لها أحدهم بأن ابنتها لها قرين من الجن.. وقرينها يرفض أن يشاركه أحد فيها.. وأن علاجها ركوب البحر في ليلة عاصفة لتخيف القرين.. حتى يفارق البنت خوفًا من العاصفة.. ترتّب الأم مع صاحب قارب على نقلها إلى جزيرة بمبرّر زيارة أختها.. ومع بداية ليلة عاصفة يتحرّك القارب بالأم وابنتها.. وأثناء العبور تشتد العاصفة.. أثناء ذلك تتحاوران.. لتكتشف الأم بأن ابنتها لا تزال عذراء.. وما ادعاءات الزوج بتمنّعها إلى لذرّ الرماد على العيون.. بغرض إخفاء عجزه.. لكن العاصفة تغرق القارب ويتم انتشالهما بين الحياة والموت.. تعيش الأم وتلفظ الابنة أنفاسها.

 تختلف لغة خطاب نصوص المجموعة بشكل مطرد.. فنص بعنوان "برغماتي" مختلف في لغته عن نص بعنوان "ضربة جزاء" وهكذا تأثّث الكاتبة نصوصها بتباين خطابي واضح.

تلك اللغة التي شكّلت بنى النصوص على شكل فقرات خبرية مترابطة.. نسجته الكاتبة بشكل فني مكثّف.. فنص بعنوان "نهاية الانتظار" تبدأ بتساؤل من لمى لصديقتها سارة حول صحتها بعد ملاحظة شحوب وجهها.. لتخبرها أنها قلقة على صحة والدها بعد اختفاء شقيقها حسن.. الذي يزوره في أحلامه ميتًا.. فقرة ثانية حول طبيعة العلاقة العاطفية بين لمى وحسن الغائب. فقرة ثالثة تسلط الضوء عن عمق الصداقة بين لمى وسارة.. فقرة رابعة تصف الكاتبة وضع المدن تحت سيطرة المليشيات.. فقرة تالية قبل الآخرة.. وصف حول دراستهن للطب.. فقرة أخيرة تصوّر لنا الكاتبة قاعة التشريح.. حيث تسقط سارة مغمي عليها.. لتلحق بها لمى بعد أن شاهدت جثة حسن على طاولة التشريح دون أن تذكر الكاتبة من يكون.. وقد تركت للمتلقي تخمين ذلك. وهكذا معظم نصوص المجموعة .

النصوص تنوّعت من نصوص حوارية مثل نص بعنوان "مركب نقص" إذ لا وجود للوصف أو لحدث خارج مسارات الحوار بين الأم والابن المتسلّط. إلى نصوص تتّسم بحوار داخلي للشخصية.. مثل "ضربة جزاء" و"سيرة ذاتية" و"وجوه". ونصوص أخرى غلب عليها الوصف كنص بعنوان "كتلة قذرة" حيث تصف الكاتبة رجل كان من ذوي الوجاهة أو ممن أثرَوا بطرق غير مشروعة.. إلا أنه ضيع ما جمعه في صالات القمار والمواخير.. ليهيم بعد ذلك على وجهه.. يحمل أشلاء طفلته التي باع المختطفون أعضاءها لعدم قدرته دفع ما طلب منه كفدية.. "سبحان مغير الأحوال.. هل عرفته؟!. نطقها أحد المارة ضاربًا كفًّا بكف.. منبهًا مرافقه.. مشيرًا باتجاه الرجل.. كهل انحنى.. تكوم هيكله في بذلة فاضت عليه.. وتمزّقت في مواضع كثيرة.... لترسم خارطة البؤس والشقاء. إن أمعن أحدهم النظر فيها قد تدلّه بقعة صغيرة جدًّا أنها من القماش الفاخر المصنوع للنخبة.. سوادها خالطته كل ألوان القذارة.. فغدا لونًا بلا انتماء..."

وهكذا في نص بعنوان "نذور الوطن".

نصوص أخرى غلب عليها لغة الوجد.. مثل نص ""ليلة نام فيها الأرق".

المكان شبه متماهي.. وإن ذُكرت الإسكندرية في بعض نصوصها سواحلها وبعض أحياءها ومعالمها.. مثل نص "سيرة ذاتية" حيث كان قصر المنتزة وبحر الكونيش مكانًا.. كما كانت بعض النصوص قد أشارت إلى أوضاع سورية.. وما يدور من نزوح للأهالي والاختطاف.. وتعدّد الاستشهاد.

سلطت بعض النصوص الضوء على قضايا اجتماعية هامة ومنها نص بعنوان "الأفئدة الراحلة". وغيرها من نصوص المجموعة. نصوص المجموعة وما تحمله من هموم مجتمعية.. ورؤى قيمية أظهرت بصمة الكاتبة المتميزة.. خاصة في نص "يوم مُت". حين شكلت من بعض جملها كما ذكرنا سابقًا نصوصًا مكتملة.

هي قراءة سريعة.. من كاتب يتعاطى السرد الروائي.. ويأخذ بمقولة الروائي الإسكندراني محمد محمود عطية.. أن القاص أكثر إلمامًا بقراءة النصوص السردية.. تحية لنجمة أدبية أثبتت وجودها من خلال تعاطيها النقدي الذرائعي.. كما هي في نصوصها الشعرية والسردية.

 

بقلم الناقد: الغربي عمران

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم