صحيفة المثقف

الحياة والموت.. رؤية نفسية إجتماعية فلسفية

اسعد شريف الامارةيعد الموت سنة من سنن الحياة، وأحيانًا بالموت يحيا الإنسان، وبالموت تحيا الشعوب وتزدهر وتتخلص من أقسى العبودية، فهذه الجدلية الفلسفية النفسية الإجتماعية هي جدل الوجود الإنساني بأسره، فلسفة الوجود والعدم، فلسفة  أن أموت ويحيا آخر، وهي أيضا تمركز الإنسان في جدلية الحياة والموت، وتأكيد قول الفيلسوف هيدجر أوضح إنعكاس بقوله: الوجود من أجل الموت، لذا فوفاة طبيبة تخصصت في علاج الأمراض أن تموت بالفايروس القاتل "كورونا" هو أن يموت إنسان ليحي آخر، أو الشخص الذي أهدى الحياة لمريض يرقد بجواره وهما يتقاسمان وجودهما عن طريق جهاز التنفس الذي يديم الحياة وإستمرارها، فيقول أنني كبير بالسن، ومن يرقد بجواري شاب أحق بالحياة مني فأمنحه حقي بالحياة من خلال هذا الجهاز" جهاز التنفس الاصطناعي، وكذلك المخاض وولادة آخر هي لحظات تفصل بين الحياة والموت، الغيبوبة المؤقتة  في استخدام المخدر قبل وأثناء العمليات الجراحية الكبرى هي موت من أجل الحياة، المقتول الذي يتعرض للإغتيال هو موت من أجل الحياة، يدفع ثمنه لأنه قال شيء لم يقله آخر صامت، فدفع الثمن حياته، المتظاهر السلمي الذي يتعرض للموت ليشتري الحياة، فيدفع ثمن حياته لما يريد قوله، فالمقتول من أجل قضية أو فكر، أو هدف أوسع مثل الوطن وهو يعي بذلك ، اقصد الوعي، فهو يفني نفسه من حيث أن الآخر هو نفسه، وهو ما نشاهده في ساحات الاحتجاج السلمية التي يتعرض لها المحتجون من عمليات إغتيال وتصفيات جسدية، أو من اغتيال  يتعرض لها الصحافي، والطبيب المختص، واستاذ الجامعه، وصاحب الفكر وغيرهم من الشرائح التي تمتلك الوعي،  دعونا نسبر أغوار هذه الجدلية النفسية الفلسفية من خلال ما قرأناه ومارسناه في تخصصنا النفسي العميق- أعني به علم نفس الاعماق.

حينما تشيع ثقافة القتل في أي مجتمع تفقد الإنسانية حضورها، ويحل بديلها قانون الغاب والتوحش، وكثيرًا ما دعت الأنظمة الدكتاتورية ومعظم القادة إلى هذا النهج والأسلوب كسلوك يومي لزرع الرعب الدائم بين الناس، وكانت الأنظمة، وكان القادة من الدكتاتوريين يرفعون  شعار" ومن لم يَقتل الناس يُقتل". هذا الشعار الذي يعبر عن الخوف والذعر الذي يعيشه الحاكم، أو الحزب، أو الميليشيا، أو سلطة الدين المتطرفه، فهو يعتقد بأن أسلوب العنف والترهيب والقتل يطور الحياة ويحميها ويؤمنها، أما إذا انتهى الأمر إلى أسلوب المسالمة واللاعنف وحرية التعبير فإنه سيكون مذعورًا وخائفًا وربما مهدد بوجوده، فيكون الاندافاع في عاصفة مجنونة من القتل والتدمير للآخر الذي يطرح رأيًا آخر غير رأي الدكتاتور أيًا كان نظامًا، أو مذهبًا، أو حزبًا، أو تكتلًا، أو تيارًا، أو حتى فردًا أكان صحافيا، أو سائق سيارة أجرة ،أو تكتك"دراجة نارية صغيرة" أو مدرس، أو بائع بسيط.

حينما ينتشر في المجتمع شعار" ومن لم يقتل الناس يقتل" هذا هو السائد الآن في المجتمعات التي تخوض غمار الفوضى في إدارة الدولة، وفي التعامل، وفي السلوك اليومي، حتى بات سلوك الإندفاع في عاصفة مجنونة من القتل والتدمير وإفناء الآخر هو السبيل، وينسى هؤلاء المندفعون قول "هيجل"" إن تقتل فإنما نفسك تقتل".

تذكرنا جدلية الموت والحياة في زمن فايروس "الكورونا" برواية الكاتبة الاسرائيلية" يائيل دايان" أبنة وزير الدفاع الاسرائيلي الأسبق موشي دايان، حينما كتبت روايتها الشهيرة "للموت ولدان" وتدور أحدااثها عن موت أحد الولدين في اختيار تراجيدي ويتم الاختيار أمام أنظار الاب والام وإجبارتسليم أحد الولدين للموت، وتعاد أحداث العالم من الناحية السيكولوجية في جدلية الحياة والموت في ديالكتيك لا ينتهي ويمكننا أن نطلق عليه الموت والوباء، إذن هما الكفة الراجحة على كفة الحياة والحب والعمل والسفر والإستمتاع بالحياة، والتواجد في حضرة الآخرين أو حضور أمام الآخرين، في إستمرار الشخصية بلا أنانية وإنغلاق وتمركز حول الذات.

 هل يمكننا اعتبار ما يمكن أن نطلق عليه عصاب"اضطراب نفسي" ، كينونة غامضة تتخلل الشخصية، كما تقول "نيفين مصطفى زيور" إذًا ينبغي إعتبارها طريقة في الحياة تفرض نفسها على الفرد ، وفي الحقيقة هي طريقة في التفكير، وبما انها طريقة في التفكير هي طريقة في السلوك تتأثر بالبيئة وأي بيئة؟ إنها بيئة العالم بأسره، وليس مجتمع بعينه، بخصوصيته، ألغى وضع الوباء  السائد خصوصية المجتمعات والشعوب، جمع أسلوب التفكير والمدركات البيئية والتخيلات، كلها تعمل في تنظيم متصارع لا ندري من أجل استمرار الحياة، أم من أجل مواجهة الموت في أي لحظة، أو موقف. 

سبق وإن عبر الحلاج"الحسن بن منصور" في اشعاره أفصح تعبير عن رهافة الحدود بين الحياة والموت، وعكس ذلك بكل حياته في جدلية الحياة والموت، عاش الحلاج كما لو كان يحيا ويتهيأ له، وكان يسعى سعيًا بإتجاه الموت وتهيأ كأنه ينتظره، وقوله: يا معين الفناء عليَ أعني على الفناء، كان ينتظر في كل لحظة الموت، ويعده فناء الجسد، وبقاء الحب للحياة، ويزاوج بين هذا الفناء والامتداد الروحي، ظل دائمًا يسعى نحو الموت.

كيف إذن أن نتعلم في حياتنا هذه الجدلية التي تحتم على الفرد وعلى الآخر أن يكون أمام انظار الآخرين بدون تواجد، والأمر البديهي كما تعلمناه في علم نفس الشخصية، وعلم النفس الاجتماعي هو هذا الحضور في موقف محدد يحضر لأداءه، ويتوافد النظارة لمشاهدته، إذن لا وجود للشخصية بمعزل عن الآخرين، أو في فراغ، وهذه هي الحياة على أقل تقدير، الحياة الإجتماعية، بدونها لا يمكن أن تستمر الحياة. 

 

د. اسعد الامارة

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم