صحيفة المثقف

النص وذائقة المتلقي

رحيم زاير الغانمعلاقة النص بالمتلقي علاقة محكومة بالذائقة الأدبية وبها يستمد النص ديمومته بالتلقي، فما يطرحه النص الأدبي من موضوعات تستقطب المتلقي بوصفها موضوعات ذات صلة بتطلعاته واهتماماته، وبذا نؤشر لبذار الذائقة في كينونتها الأولى فهي تنبثق بولادة النص المعبر عن الواقع المعيش وهموم العناصر البشرية الدائرة في فُلكه، وهذا لا يعني التخلي عن ذائقة القطب الثاني المتلقي، التي يمكن عدها ذائقة متحققة من جملة الخبرات وبشتى المشارب (الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية) أو ما يُنتج عن موجبات رؤيوية أو مدركات أيديولوجية (فكرية) أو أبعاد فلسفية، كلُّها مجتمعة مسهمٌ في تنمية الذائقة لدى المتلقي، كمعادل موضوعي مع ذائقة النص الأدبي، فلا ذائقة أحادية القطب، وإنما ذائقة بقطبين يُكملان بعضهما البعض فنيِّاً وجمالياً، وما الذائقة المبثوثة في النص إلّا ارتداد لما يستشعره مجسّ الذائقة (التلقي).

ومن المفيد الحديث عن مدى التأثير والتأثر فيما بينهما، أي من يؤثر في فعل أو ردة فعل الآخر، هل النص يجاري الموضوعات ذات الصلة مع واقع المتلقي؟ أم إن المتلقي دائب البحث عن النصوص التي تُطرح فيها قضاياه المصيرية؟ أم إنهما في تناغم دائم (حوار) من أجل أن يكون النتاج الأدبي ذا جدوى؟ فليس من المعقول أن يعيشَ النص ويصنع خلودَهُ بعيداً عن أجواء وتطلعات متلقيه أو أفكاره التي ترسبت إلى النص، أسئلة كُثر سيتم الإجابة عنها في ضوء عينات تمَّ فرزها من نصوص مجموعة (الهبوط إلى جهة القلب) للشاعر الدكتور مولود محمد زايد المكتوبة من العام (1990- 2000م) التي يمكن اعتبارها بوابة للبحث في تناص الذائقة بين تنوع الموضوعة وصلتها التفاعلية مع المتلقي.

(هذا ايابك .. لو شفاك اياب

هرمت.

فأحنت ظهرك الاتعاب

مازلت تضرب في الدروب...

مضمخاً بدم الجياع ...

وللعراء ثياب) ص29

في النص الشعري المنحى الفلسفي حاضر لما يطرحه من اللاجدوى في الذهاب والإياب المُضني مادام المكسب بعيد المنال لحضور الهرم، وما تداعيات انحناء الظهر والتضمخ بالدم والتعرض للعري قبالة كسوة العراء التي لا طائل منها غير ذائقة خلو الوفاض والفشل الذي هو ديدن الكثير، يقابلها ذائقة المتلقي الذي يدور في ذات الخواء، في حوارية تلقى صداها عند جمهور متلقيها، بوصفها واقعاً معيشاً.

 شاخت خطاك ..

وما انتهيت لغاية

ورجعتَ يدمي مقلتيك سراب

بلقيسك الحمقاء ..

تحسب لجة أوجاعك الظمأى..

وهن قباب!) ص30

يتكرر ذات الفهم عن علو كعب ذائقة النص على ذائقة المتلقي جاذبة إياه الى منطقتها الجمالية، ممارسة غواية الإنصات إلى صوت الروي العالي الذي فاق صوته، سردية يعبر فيها النص عن عبثية الواقع المعيش بدلالة جمل النص الشعرية (شاخت خطاك../ وما انتهيت لغاية/ ورجعتَ يدمي مقلتيك سراب) تراتبية ثبَّت فيها النص مواطن الهرم والركون للمجهول والضياع، وما تكدس منها من قباب الوجع والظمأ.

(ألهبت قيثارك ما أوجعكْ

لا شيء..

غير الريح..

تزقو معك!

خانك حتى الصمت..

من ترتجي

في عالم الاموات.. أن يسمعكْ) ص35

نلمحُ انصياع النص إلى ذائقة المتلقي، بالنزول الى منطقة وجعه، من خلال الجمل الشعرية (ألهبت قيثارك ما أوجهك، خانك حتى الصمت)، (من ترتجي/ في عالم الاموات.. أن يسمعكْ)، في غواية متلقيه وسحبه إلى منطقته، في عملية شدٍّ وجذب يحرص النص على تبادلها مع المتلقي في إذكاء للذائقة وديمومتها تفاعلياً.

(تخطو بصمت ..

تردّ الباب ..

لا أحد يرنو إليك ..

ولا كفٌ تلقّاها

قلت : (السلام ) ..!

ولكن ..

لم يجبك سوى

أصداء صوتك ..

مجّتها: آها) ص52

الرؤية حاضرة في النص الشعري وحركية إنماء الذائقة في تصاعد مع الحرص على تبادل قطبيها الأدوار، من بداية مطلع النص وفي الجمل الشعرية (تخطو بصمت ../ تردّ الباب ../ لا أحد يرنو إليك ../ ولا كفٌ تلقّاها)، الذي بدا فيه انصياعه لذائقة المتلق، وما مُورس من فعل الروي بالإنابة عن (الراوي العليم) عبَّر عن خطواته الصامتة وما يلقاه من عنت الوحدة التي تطبق عليه، حتى بلوغه منتصف الروي يمتلك زمام المبادرة والحرص على توجيه ذائقة النص بما يستجيب لأجواء المتلقي النفسية المحبطة وعبر جمله الشعرية (قلت: (السلام) ..!/ ولكن ../ لم يجبك سوى/ أصداء صوتك ../ مجّتها: آها)  وبذات التفاعلية المتصاعدة مع المحافظة على المعادل الموضوعي.

(الصمت فلسفتي ..

فلا تتغيضي

ان رحت اغرق في عباب ظنوني

يكفيك انصاتي ...

فما عادتي

أني أساوم

أو أخون يقيني) ص59

يحرص النص الشعري على جذب المتلقي وجدانياً (عاطفياً) بطرح الصمت فلسفة لما فيه من دعوة للمحبوبة إلى مجافاة الغضب حتى وإن غادر الحبيب منطقة حسن الظن إلى عباب الظنون، فليس من عاداته التحلي بهكذا سجايا مثل المساومة أو خيانة اليقين، منتظراً من متلقيه ردة فعل (الذائقة القريبة) من روحه وما يعتمل الصدور من تساؤلات، لتُحسب المبادأة في تسويق الذائقة للنص على حساب المتلقي لبثِّ النص الشعري حوار (أحادي الجانب، أحادي الذائقة).

(ما شئت.. كوني .. فما في الأفق متسعٌ

للأغنيات ...

ولا في القلب ... أوتاراُ!) ص74

تتشاكل ذائقتا النص والمتلقي لكن زمام المبادرة مناط زمامها للنص، على الرغم ممّا صرح به من اطلاق الحرية للمحبوبة في تشيئ (صنع) نفسها لقوله: (ما شئت.. كوني..)  لكنها حرية غير صالحة للنجاح للمعطيات التي تلت في الجمل الشعرية (فما في الأفق متسعٌ/ للأغنيات .../ ولا في القلب ... أوتاراُ!) التي تعمل على قتل مشيئة التكوين آنفة الذكر، ذائقة نصية تناغمت مع موضوعة اليأس في أمل (تكوين) في ظلِّ واقع معيش أفضل.

(غريباً .. سرى في وحشة الدرب.

بعضه .. تخبَّط في بعضِ..

وضاع صداه!

تنمّ به الأشياء .. حتى كأنها

مرايا .. تراءى فوقها ما تغشاه

وتهمي عليه الذكريات .. أثيمةً..

فيصفعها بالوهم..

تُدمى يداه..!!) ص78

في النص الشعري امتثال  لذائقة المتلقي لما نقرأ من سردية تعبيرية عن الواقع المتهالك، بطله الغريب ومسراه وحشة الدرب، (بعضه.. تخبَّط في بعضِ..) ماذا عساه يهبنا هذا الواقع غير تصدير لذائقة ضياع الصدى والذكريات الأثيمة التي لا مفرَّ غير مواجهتها بردة فعل توازي خرابها (فيصفعها بالوهم../ تُدمى يداه..!!) وفي الحالتين الخسران يشملهما، الواقع برفضه والانسان المُدمى اليد، كلاهما يقطر فاقةً وألماً، في إعلاء لصوت المتلقي المسهم الحقيقي في تصعيد صوت منلوج النص (الموسيقى الداخلية) وما ترتب عليه من ردة فعل تمثل بتقبل ذائقة الواقع المعيش كما صورها لنا النص الآنف بكل تفاصيله.

(في وحشة العابرين بلا ضجةٍ...

تصطلينا المنافي..

ونحن نوزع أشاءنا في الرصيد المباح..

وقد كوّرتنا الدقائق في حجم ذكرى..

حالمين..

نعانق خيبتنا..) ص82

تتكشف في النص الشعري وضوح في الرؤية يمكننا بها تحديد اتجاه بوصلة الذائقة، في تسليم مطلق لذائقة المتلقي، وعدَّها نقل لما يحدث على أرض الواقع، إذ دأب النص وعبر جمله الشعرية (تصطلينا المنافي../ وقد كوّرتنا الدقائق في حجم ذكرى../ نعانق خيبتنا..) للبوح بما يعتري الصدور من وجع وبؤس وتسليم لمرارة الواقع تسليماً يحول دون كسر نسقه الرتيب، في إعلاءٍ لصوت الراوي العليم (الراوي الأعلى) صوت الواقع المعيش مُمثلاً  بذائقة المتلقي، المُسابة في سياق النص الشعري، لتكون الغلبة هنا لفعل الواقع الذي تُرجمَ نصاً شعرياً معبراً عن وحشة الغابرين الذين لا يمتلكون شيء سوى الحلم.

 

رحيم زاير الغانم

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم