صحيفة المثقف

في القالة والمقالة

علاء شدهان القرشيلا أبالغ إن ذهبت إلى القول: إن أصعب مهمةٍ تقع على عاتق الكُتّاب – اليوم – هي تحليل الخطاب والممارسة السياسية، والقانونية في بلادنا، وإضاءة زواياه المعتمة، وكشف سطوره الخفية بحبر التحقيق والتدقيق.

ذلك لأن تقدم أي بلدٍ سياسيًّا، وتطوره قانونيًّا يتوقف على وعيه السياسي، ومقدار نموّه، ونضجه. وكمثال على ذلك: بعض الدول في الغرب كانوا يضعون شروطًا للناخب سوى بلوغه السن القانوني، كحصوله على تعليمٍ جامعيٍ رفيعٍ، ليضمنوا مقدار وعيه السياسي الذي سيؤثر بشكلٍ مباشرٍ على الفعل السياسي من بوابة اختيار رجاله وعامليه.

وأريد في هذه الخطاطة أن أميز بين القالة والمقالة في كتابات الوصف والتحليل المرتبطة بالحياة السياسية في مشهدنا الثقافي العراقي، لما لهما من دورٍ وتأثيرٍ كبيرين في وعي كتلة المواطنين وتطويره.

والقالة في عربيتنا هي «القالَةُ في الشَّـرِّ، وَكَثْرةُ القَولِ، وإيقاعُ الُخصومَةِ بيْنَ النَّاسِ بما يَحكي البعْضُ عنْ الْبَعضِ»، كما في قواميس اللغة، كالمحكم واللسان، والقاموس وغيرها.

يمكننا توظيف هذه المفردة لتعبر عن صنفٍ من الكتابات المؤثرة، والمنتشـرة، والمنطلقة من منصات كُتاب يتمتعون بجمهورٍ قارئٍ يتمدَّد كل يومٍ بفضل الرقمية الحديثة في التواصل والانتشار. وسيكون معناها حينئذٍ يشير إلى كل نصٍّ الغرض من كتابته ونشـره هو: إكثار القال والقيل وإيقاع الخصومة وإثارة الشر، لأنه لا يتضمَّن أدلةً، ووثائقَ ومعطياتٍ تُحدِّد نتيجةً أو استنتاجاتٍ متماسكةً منسجمةً منطقيًّا، ولأنه يستنفد أي مبرر علمي يجعله نصًّا مفيدًّا، بناءً، ناقدًا، أو أي صفة إيجابيةٍ أخرى. لذلك ستنحصر أسباب إنتاجه من قبل كاتبيه بأسبابٍ ميتافيزيقية متنوعةٍ، أبرزها: مرضٌ نفسـيٌّ، أو غرضٌ شخصـيٌّ يقوم على سوء طويّةٍ، أو أوهامٍ كان تَخَيّلها الكاتبُ أدلةً.

والمقالة في الخير عمومًا -كما في تلك المصادر اللغوية - وأعمّ منه، بما يشمل التفهيم، والتحاور، والتعليم، والتلقين، والتحفيظ...الخ، وقد جرت أقلام العلماء قديمًا بتصدير أبحاثهم بكتابة: مقالة في كذا، والمقالة (الكذائية). وسيكون معناها حينئذٍ يشير إلى كل نصٍّ الغرض من كتابته ونشـره هو: إكثار الخير؛ بمعناه الواسع؛ وإيقاع الصلاح، بصوره المتنوّعة، وأشكاله العديدة، التي منها دفع التخلف، ورفع مستوى الوعي السياسي، أو غيره من أجناس الوعي، كالوعي الأدبي، والفلسفي، والعلمي الطبيعي، والطبي، والغذائي...الخ.

يمكن تصنيف الكتابات المنتشرة في بلادنا في تحليل السلوك والخطاب السياسي تحت هذين الصنفين:

فمنها ما يكون مقالة، ومنها ما لا يمت إلى المقالة بصلةٍ، ولا يكون أكثر من قالةٍ.

فالمقالة، تستند في فكرتها على الدليل، والدليل في تحليل الخطاب السياسي، أو الممارسة السياسية لا يكون إلا دليلًا منسجمًا مع طبيعة هذين العملين: الخطاب والسلوك. ففي الخطاب الفلسفي مثلًا: يكون الدليل منسجمًا مع طبيعة الفلسفة، وفي الخطاب التاريخي والاجتماعي والنفسـي وغيرها كذلك أيضًا. فأدلة الفلاسفة فلسفيةٌ، تنتمي إلى منهجها، بُنيةً ومادةً، ولا يكون المنهج إلا منهما، ولا تكون الفلسفة إلا بمنهجها.

والقول هو القول فيما نحن فيه، فلا يكون تحليل السياسة، وممارستها، إلا من خلال فحص أدلتها، وتبيُّن منهجها بنيةً ومادةً - خطابًا وسلوكًا - واختبار سلامتها وصحتها قبل بناء التحليل على طبيعتها العلائقية من جهة حركتها بين الدليل والنتيجة واللازم المنطقي للدليل.

وللخطاب السياسي وفعله، طبيعةٌ معلنةٌ، ظاهرةٌ، مهما حاول رجالها إخفاء ميكانيزماتهم، ودوافعهم، وكواليس قراراتهم، ومواقفهم فيها.

ولا يكون المحلل ماهرًا إلا إذا استطاع اكتشاف ما خفي من خلال ما هو مُعلنٍ، ولا يكون ناجحًا ما لم يخترق أستار اللغة المعلنة ليدنو من طبقات الخطاب التحتانية. وسبيله إلى ذلك: البيانات المعلنة، والقرارات الصادرة، والقوانين المقترحة، والمواقف الشاخصة للملأ، لتشكّل البناء الكلي لتحليله، فهي التي الخطابات من جنسها، والقرارات فصلها، والمواقف لحمتها وسداها.

وفي النهاية، المقالة، بواعثها خيّرةٌ، فلا يكون محركها إلّا الخير وتَشَكُّلاته، وصوره المتنوعة.

والقالة، بواعثها شريرةٌ، فلا يكون محركها إلا الشر وتَشَكُّلاته وصوره المتنوعة.

والمقالة، آثارها جميلةٌ، نافعةٌ، مفيدةٌ، بمستوياتٍ مختلفةٍ كمًّا وكيفًا، والقالة، آثارها وخيمةٌ، مضرّةٌ، عقيمةٌ لا تنتج شيئًا في أحسن أحوالها.

 

علاء شدهان القرشي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم