صحيفة المثقف

الصديقة الفرنسية

علي القاسميبناءً على مراسلاتٍ سابقة مع جامعة السوربون، نزلتُ في "المدينة الجامعية" الواقعة على جادة جوردان في باريس. وتتألَّف هذه المدينة من عشرات البنايات، وكلُّ بنايةٍ تابعة لإحدى الدول التي تبعث بطلابها إلى فرنسا للدراسة، فينزل طلابها في تلك البناية أثناء دراستهم في باريس. وتضمُّ المدينة الجامعية مطعماً لجميع النزلاء. أنزلوني في بناية " ابن سينا" في المدينة الجامعية. وكنتً أستقل قطار الأنفاق كلَّ صباح من محطة المترو الواقعة في جادة جوردان إلى محطة حديقة لوكسمبورغ القريبة من السوربون.. وعبر جادة جوردان، يطالعك منتزه مونتسوري الجميل الذي اشتهر كثيراً بعد أن ذكره الشاعر جاك برفير في إحدى قصائده الأخّاذة، "الحديقة":

آلافٌ وآلافٌ من السنين،

لن تكفي للتعبير عن تلك اللحظة الخالدة،

حينما قبّلتِني، حينما قبلتُكِ،

ذات صباحٍ في الضوء الشتائي،

في منتزه مونتسوري في باريس،

في باريس، على الأرض،

الأرض التي صارت كوكباً.

كان برنامج اللغة الفرنسية وحضارتها الذي التحقتُ به يتألَّف من ثلاثة دروسٍ كلَّ صباح، تجري في غرف صغيرة، غالباً ما تعقبها محاضرةٌ عامة لجميع الطلاب في القاعة الكبرى "الأمفيتياتر" في بناية السوربون الرئيسة في شارع المدارس. ولم تكُن هنالك أية دروس بعد الظهر، فكنتُ أغتنم الوقت لزيارة المتاحف، وما أكثرها في باريس، خصوصاً متحف اللوفر الذي يستلزم أياماً وأياماً من الزيارات للاطلاع على بعض كنوزه، أو التنزُّه في الحدائق العامة والمتنزهات، أو التمشي في الأحياء القديمة في المدينة حيث يشاهد المرء المعالم الشهيرة مثل كاتدرائية نوتردام دي باريس، ومسلة كيلوبترا، وقوس النصر في الشانزلزيه، وبرج إيفل، وغابة بولونيا حيث كنتً أكتري قارباً بمجدافين لممارسة الرياضة في بحيرتها الاصطناعية، وغير ذلك كثير..

كان أحد الدروس في الجامعة "درس المحادثة" الذي يرمي إلى تدريب الطلاب الأجانب على التحدّث باللغة الفرنسية بطلاقة وبنطقٍ جيّد. ويُعطَى هذا الدرس ثلاث مرات في الأسبوع، أيام الاثنين والأربعاء والجمعة.  ويقتصر عدد الطلاب في هذا الدرس على عشرة طلاب فقط لكي تُتاح لكلِّ واحدٍ منهم فرصةٌ كافية للتكلُّم والتمرُّن.  وعند التسجيل في ذلك الدرس، يدفع الطالب 15 فرنكا عن كلِّ حصَّة.

كانت أُستاذة "درس المحادثة" شابّةٌ فرنسيةُ حسناء اسمها جولييت دو بارو. وتدلّ كلمة "دو" في الأسماء الفرنسية على أن ذلك الشخص ينتمي إلى إحدى أسر النبلاء الأرستقراطية التي تمتلك ضيعةً زراعية تضم قصراً تسكنه تلك العائلة أو تملكه..

كانت جولييت نموذجاً للأُرستقراطية الفرنسية في شخصيّتها المتزنة، وملابسها ذات الألوان الهادئة المنسجمة، وطريقة حديثها المؤدَّبة؛ فهي تتكلّم بصوتٍ خفيض أقرب إلى الهمس، وبنبرةٍ مريحةٍ تبعث الطمأنينة إلى نفس السامع، ولا تفارق ابتسامتُها شفتيْها، بل تضفي تورُّداً متوهجاً على خدَّيْها الأسيليْن، وتكشف قليلاً عن الغمازتيْن الساحرتيْن فيهما. كان نطقها للغة الفرنسية واضحاً منغّماً، بعكس ما نسمعه أحيانا عند بعض الباعة الذين يتكلَّمون الفرنسية الدارجة، فيبتلعون أجزاءً من الكلام فيمسي ناقصاَ مشوّهاً يصعب على الفهم، أو على فهم الطلاب الأجانب الذين لم يتعوَّدوا بعد على الدارجة.

كانت جولييت تتعامل مع الطلاب بلطفٍ واحترامٍ بالغيْن، حتّى أنّها تخاطب كلّ طالب بـصيغة الاحترام "أنتم" وليس بصيغة الألفة، " أنتَ" أو "أنتِ". وإذا أرادت أن تصحِّح نطق أحدنا، لا تشير إلى الخطأ مطلقاً ولا تكرِّره، بل تقول للطالب:

ـ " أحسنتم"، ثمَّ تعيد العبارة بالنطق الصحيح المنغّم الجميل.

ذات يوم، وفيما كنتُ جالساً وحيداً في غرفتي في المدينة الجامعية، طرأت على بالي فكرةٌ مضحكة تتعلّق بثمن درس المحادثة، بعد أن لاحظتُ أنني خلال حصَّة المحادثة ذلك الصباح لم يُتح لي الوقت إلا للنطق بثلاث جمل، بحيث إن الجملة الواحدة تكلِّفني خمسة فرنكات.

قلتُ في نفسي: ماذا لو دعوتُ فتاة فرنسية لتناول فنجانَ قهوةٍ في إحدى مقاهي الحي اللاتيني الجميلة القريبة من الجامعة، واستمعتُ إليها وتحدثتُ معها مدَّة ساعةٍ كاملة، فإن ذلك لن يكلِّفني أكثر من 10 فرنكات فرنسية وهو ثمن القهوة آنذاك. وهذا أرخص من درس المحادثة، وسأتمرّن على الكلام بالفرنسية وقتاً أطول مما في الدرس. بيدَ أنني سرعان ما استدركتُ قائلاً في نفسي: ولكنني لا أعرف فتاة فرنسية بذاتها. وأضفتُ متسائلاً: وماذا لو وجهت الدعوة إلى أستاذتنا جولييت نفسها؟ وجاءني الجواب: ومَن أخبرك أنَّ هذه الشابة الجميلة ستقبل دعوة طالب أجنبي لمصاحبته إلى مقهى؟ فقد تكون متزوجة أو مخطوبة، على الرغم من أنني لم ألمح خاتم زواج في بنصرها اليسرى ولا اليمنى. وأضفتُ مُحاججاً نفسي: لا بُدّ أنَّ لها صديقاً، فشابَّة بمثل جمالها ومكانتها الاجتماعية لن تبقى بلا صديق في مدينة باريس، التي يسمونها مدينة النور والحرّية. وهكذا خسرتُ الحجاج مع نفسي، وقررتُ صرف تلك الفكرة السخيفة المضحكة من دماغي. والطريقة الصحيحة لصرف فكرةٍ سلبية من ذهنك، لا تتم بنهي نفسك عن التفكير فيها، فذلك يمنحها طاقةً تهبها قوةً وديمومة. بل ينبغي أن تأتي بفكرة إيجابية تحلُّ محلَّ الفكرة السلبية وتطردها.

ولهذا فقد تناولتُ رواية "مدام بوفاري" لغوستاف فلوبير التي كان علينا مناقشتها في درس النقد الأدبي ذلك الأسبوع، وانغمست في تفاصيلها. وهكذا تناسيت دعوة مادموزيل جولييت دو بار إلى مقهى، وحلّت محلَّها الجميلة مدام إيما بوفاري، التي كانت تبحث عن رجلٍ غني يحقّق أحلامها وطموحاتها، ويُشبِع نهمها لملذّات مدينة كبيرة، ويخلّصها من زوجها الطبيب القروي غير النابه في بلدته الخاملة.

ولكن في درس المحادثة يوم الاثنين التالي، خُيّل إليّ أنَّ ابتسامة الأستاذة جولييت كانت تخصُّني وحدي. وهو محض خيال أو تمنٍ، لأن جولييت توزِّع ابتسامتها بالعدل والقسطاس على جميع الطلاب، تماماً كما توزع عليهم اهتمامها وأسئلتها وتشجيعها. وعادت تلك الفكرة المضحكة، فكرةُ دعوتها لتناول فنجان قهوة أو شاي في مقهى، تستحوذ على ذهني وتصرفني عن التركيز على الدرس. ولكي أطرد تلك الفكرة الاستحواذية وأنبذها نبذاً تاماً، عزمتُ على مفاتحة جوليت بتلك الدعوة. وقلتُ في نفسي: لن أخسر شيئاً إذا حاولت، فإذا رفضت فإنها ستريحني، ففي بعض اليأس راحة.

بعد انتهاء درس المحادثة، سرتُ بجانب الأستاذة جولييت وهي تخرج من غرفة الصف، وقلتُ لها بلطف:

ـ كنتُ أود أن أدعوكم لتناول فنجان قهوة معي في إحدى المقاهي التي تفضلون، ولكنَّني خشيت أن لا وقت لديكم لذلك.

ولشدَّ دهشتي، قالت بابتسامةٍ ودود وبصورةٍ طبيعية:

ـ بكلِّ سرور. إذا كان يناسبكم الوقت، فإنَّني متفرِّغة بعد درسي معكم يوم الأربعاء..

قلتُ وأنا أحاول التحكُّم بالفرحة التي غمرت قلبي:

ـ شكراً. إلى يوم الأربعاء إذن.

عندما انتهى درس المحادثة يوم الأربعاء، حرصت على أن أسير معها بعد مغادرتها قاعة الدرس. خرجنا من الباب الرئيسي للسوربون، المفضي إلى شارع المدارس، واستدارت يساراً في اتجاه شارع سان ميشيل، وفي هذا الشارع، استدارت يميناً وسارت في الشارع مارَّةً بمتحف كلوني، متحف العصور الوسطى، حتى وصلت إلى ساحة نافورة سان ميشيل، واختارت أن تجلس في مقهى تطل على الساحة والنافورة، وهي تقول:

ـ هل يعجبك هذا المكان؟

ــ طبعاً، رائع.

وبعد أن اتخذنا مقعدنا، سألتُها لمجرَّد بدء المحادثة:

ــ لماذا وقع اختياركم على هذا المقهى؟

قالت بجملة معترضة:

ـــ يمكنك أن تخاطبني بصيغة الألفة، فنحن لسنا في الدرس. ثم أجابت عن السؤال، بقولها:

ــ لأنّ هذا المقهى قريب من السوربون، وشارع سان ميشيل نابض بالحركة. .

جاء النادل ليسأل عن طلباتنا، فقالت ببساطة: قهوة بالحليب منفَصليْن، من فضلكم. وقلت: مثلها...

وعلى الرغم من أنني أكبر سناً منها، فإنني لم آخذ المبادرة في الحديث، وغلب عليّ الحياء الناتج من تربيتي في طفولتي. ولعلّها شعرت بما كان يعتريني من خجل وتردُّد، فعندما وضع النادل إبريقَي القهوة والحليب مع فنجان فارغ لكل واحد منا، شكرتْه، والتفتت إليّ سائلة:

ـــ هل قرأتَ قصيدة جاك بريفير " فطور الصباح"؟

قلتُ:

سبق أن درستُها منذ وقت طويل ونسيتها، ويسعدني أن أسمعها منك.

اعتدلت في جلستها، وأخذت في تلاوة القصيدة مع حرصٍ ملحوظ على إضفاءِ مسحةِ حزنٍ على قسمات وجهها الصبوح ونبرات صوتها الرخيم، وذكرت اسم القصيدة والشاعر في البداية، ولم تفارقها ابتسامتها الحيية، ولكنها أضحت ابتسامة حزينة:

فطور الصباح لجاك بريفير:

صبَّ القهوة

في الفنجان،

وصبَّ الحليبَ

في فنجان القهوة،

ووضع السكر

في القهوة بالحليب،

وبالملعقة الصغيرة

خلطها..

شربَ القهوة بالحليب،

وحط الفنجان

دون أن يكلّمني...

أشعل

سيجارة

ونفث دخانها

على شكل دوائر في الهواء.

وضع عقب السيجارة

في المنفضة

دون أن يكلِّمني

دون أن ينظر إليَّ..

نهضَ،

وضعَ قبعته على رأسه،

ارتدى معطفه المطري،

لأنَّها كانت تمطر،

وانصرفَ.

تحت المطر،

دون أن ينظر إليّ.

أمّا أنا، فقد أخذتُ

رأسي بين يديَّ،

وبكيت.

قلتُ: رائع جداً، آنستي. كلمات بسيطة ولكنّها مؤثرة.

قالت: سمّى الشاعر ديوانه " كلمات"، لأنه يستعمل كلمات قليلة منتقاة كاللآلئ، ولكنَّه يصوغ منها عِقداً ثميناً يزدان بالفكر والفن.

قلتُ: الآن أدرك لماذا اختاروا تعليمنا هذه القصيدة في المراحل الأولى من دراستنا اللغة الفرنسية.

ـ انتقل جاك برفيير بالشعر الفرنسي إلى البساطة، فأسلوبه هو السهل الممتنع بعينه.

في أعماق نفسي المتهيّبة المضطربة، كنتُ أتساءل عن أسباب اختيارها لهذه القصيدة. ترى هل أدركت القصد الدنيء من دعوتي لها لأتعلم النطق منها مقابل عشرة فرنكات ثمن فنجان قهوة؟ أم أنّها تعرف أن لقاءَنا لقاءٌ عابر سينتهي بعد تحقيق أغراضه القريبة؟

قلتُ في نفسي: لماذا أعذِّب نفسي في البحث عن مقاصد الكلام؟ ولماذا لا استمتع بجمال اللحظة الراهنة وأترك المستقبل وما يخبئُه للغيب؟

وهكذا أخذتُ أرتشف قهوتي بنوع ظاهر من التلذُّذ، بفضل جمال جولييت الأخّاذ وعذوبة حديثها الحلو، كما لو كنتُ أمزج القهوة بطعم شفتيها وهما تنّغمان ألفاظ القصيدة الحزينة، وبريق عينيها وهما تفيضان بالأسى. قالت، كما لو أنّها أحسَّت بما يختلج في أعماقي:

ـ كيف وجدتَ نكهة القهوة؟

ولأني كنتُ قد قرأتُ ذات مرَّة أنَّ الفتاة الفرنسية تستعذب أن يثني الرجل على جمالها وذكائها معاً، فقد اغتنمت الفرصة لأجيب على سؤالها بالشكل التالي:

ـــ رائعة. نكهتها مستمدَّة من سحر ابتسامتكِ وحلاوة حديثكِ وعمق أفكارك، آنستي.

تورّد خدّاها حياء، وغضّت من بصرها، وقالت هامسة:

ـــ شكراً.

سألتُها لأغيّر الموضوع:

ـــ وكيف حظيت السوربون بأستاذةٍ مثلكِ؟

ـــ إنني لستُ أستاذة. أنا مساعدة أستاذ، لأنني لا أزال أشتغل على أطروحتي للدكتوراه في السوربون. والجامعة تختار بعض المساعدين من بين طلبة الدكتوراه، لإعانتهم مادّياً وإمدادهم بالخبرة.

فسألتها:

ــ وعمَّ تدور أطروحتك؟

ـــ حول التغيّرات الثقافية والاجتماعية خلال عصر الأنوار، فأنا أفترض في أطروحتي أن الأفكار الأثيرية تستطيع أن تُحدِث تغييرات مادّية في الفرد والمجتمع..

قلتُ لكي أجعلها تتحدَّث أكثر ولكي أستمتع بالنظر إلى وجهها وشفتيْها الباسمتيْن:

ـــ في حقيقة الأمر، لا أعرف كثيراً عن عصر الأنوار.

ـــ المقصود بعصر الأنوار في فرنسا هو القرن الثامن عشر الذي تميَّز بحركة فكرية تهدف إلى تأكيد حرّية الإنسان بتخليصه من سلطة الكنيسة واستبداد الحكم، ومن أجل تمتُّعه بحقوقه الطبيعية والمدنية والسياسية، وتحكيم العقل في قبول الآراء أو رفضها. وكان من مفكِّريها مونتسكيو صاحب كتاب " روح القوانين" وجان جاك روسو صاحب كتاب " أميل " أو التربية الطبيعية، وفولتير صاحب الفلسفة الساخرة والروايات العديدة التي هاجم فيها الطغيان، ودعا إلى المساواة والحرّية وكرامة الإنسان.

سألتُها بلطف:

ـــ وهل سمحت السلطة القائمة آنذاك لهؤلاء التنويريين بنشر أفكارهم؟

ـــ كان تطوّر هذه الحركة الفكرية في فرنسا خلال القرن الثامن عشر نتيجة لتطور الطبقة البرجوازية خلال عهد الملك لويس الرابع عشر الذي سمح بحرّية العمل الثقافي وحرّية الفكر والنشر، فظهرت في عهده الصالونات الأدبية، والكتب والموسوعات ومعاجم العلوم والفنون، وهي أدوات استغلَّها التنويريّون في نشر أفكارهم، من أجل قيام مجتمعٍ جديد على أساس من الديمقراطية والحرّية والمساواة. وقد أدّت هذه الأفكار إلى اندلاع الثورة الفرنسية في آخر المطاف..

ـــ هذا معنى كلامكِ حول تحوّل الأفكار الأثيرية إلى أفعال مادّية.

ـــ وأكثر من هذا، فإن حرّية الفكر التي دعا إليها هؤلاء المفكرون أسهمت في تقدُّم المعرفة وانتشارها، فتحوّلت الأفكار إلى مخترعات، ونتجت عنها الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر.

ـــ هذا رائع، في وسعكِ الدفاع عن أطروحتك بسهولة: الفكر الأثيري اللاملموس له قوَّة مادّية ملموسة.

قالت بأسى:

ـــ ولكن ما الذي نتج عن الثورة الصناعية؟ تعاظمـت قوَّة الدول الصناعية الأوربية، واستعمرت بلدان آسيا وأفريقيا لنهب المواد الأولية منها، وجعلها أسواقاً لمصنوعاتها، ما أدّى إلى التنافس التجاري بين الدول الصناعية، واندلاع حروب طاحنة كالحرب العالمية الأولى والثانية التي قُتِل فيهما ملايين البشر. وهذا عكس ما كان يرمي إليه مفكرو عصر الأنوار.

قلتُ بتعاطف:

ــــ هذه هي الهوة الدائمة بين الفكر والسياسة، بين النظرية والتطبيق.ـ

قبل أن نغادر المقهى، سألتها ما إذا كان في إمكاني أن أسعد بلقائها مرَّةً أخرى. أجابت:

ـــ بكلِّ سرور، هل يناسبك هذا الوقت من كل أسبوع؟

وهكذا صرتُ أحظى برؤية جولييت كل يوم أربعاء بعد الدرس، إضافة إلى الالتقاء بها في ثلاث حصص في الأسبوع.

ذات يوم أربعاء، اختارت جوليت أن نتمشى إلى حديقة لكسمبورغ القريبة من الجامعة، وبعد أن تنزهنا في الحديقة الفسيحة، وتمتعنا بمنظر شجيرات الزهور المتنوعة الألوان والمرتبة بهندسة بديعة، ووصلنا إلى قصر لوكسمبورغ الذي يضمُّ مجلس الشيوخ الفرنسي، وجلسنا في مقهى قريبة تطلُّ على الحديقة. وفيما كنا نتناول قهوتنا بالحليب كعادتنا، أخبرتُها أن برنامج اللغة والحضارة الفرنسية ينظِّم رحلة طلابية اختيارية لزيارة قصور سهل نهر اللوار للراغبين من الطلاب، مدَّة يوميْن خلال عطلة نهاية الأسبوع، من عصر يوم الجمعة إلى مساء يوم الأحد، وسألتها ما إذا كان من المفيد لي الاشتراك فيها. شجعتني قائلة:

ـــ رحلة مفيدة جدّاً. ستطَّلع من خلالها على جوانب هامَّة من الثقافة الفرنسية. فنهر اللوار هو أطول أنهار فرنسا، ويشكِّل سهلاً كبيراً يقع في وسط فرنسا، وفي عصر النهضة الذي بدأ في القرن الخامس عشر اتَّخذه أعظم ملوك فرنسا الملك فرنسوا الأول، راعي الفنون والآداب والعلوم، مقراً لبلاطه وشيَّد فيه أفخم قصور فرنسا على الإطلاق وهو قصر شامبورد سنة 1519. ويشتملُ هذا القصر على 450 غرفة ويحيط به منتزهٌ تبلغ مساحته حوالي 5500 هكتاراً مربعاً، وطول سوره 32 كيلومتراً.  إنه قمّة العمارة الفرنسية، وتضمُّ أجنحته الفاخرة كثيراً من اللوحات الفنّية النادرة والتحف الرائعة..

كانت جولييت تتحدَّث بفخر وحماس عن تراث بلادها الثقافي، وختمت حديثها بنصيحة لي:

ـــ لا تفوّت هذه الفرصة.

وبناء على نصيحة جولييت، ذهبت إلى الإدارة الجامعية وسجّلت اسمي في قائمة المشاركين في هذه الرحلة ودفعت التكاليف.

وفي الوقت المحدَّد من عصر يوم الجمعة، كانت حافلةٌ تنتظرنا في شارع المدارس قرب السوربون، ووقف الأستاذ المشرف على الرحلة بالقرب من باب الحافلة. وعندما صعدتُ على متن الحافلة، حرصتُ على الجلوس في المقعد الأول على اليمين، لأنَّني قرأت ذات مرة أنَّ أفضل مكان في الحافلات السياحية هو المقاعد الأربعة الأولى لأن الجالسين فيها يستطيعون أن يستمتعوا بالمنظر المتاح منها أكثر من غيرهم. وعادة ما تبقى هذه المقاعد فارغة، لأن معظم الناس لا يختار الجلوس في المقدَّمة وكأنّه، بصورةٍ لاواعية، لا يريد تحمُّل مسؤولية القيادة.

 

يبعد سهل اللوار الذي نقصده عن باريس حوالي 160 كيلومتراً، وكنا نتوقَّف في أماكن جميلة منتقاة للاستراحة أو لتناول الحلويات والمشروبات. وكان بعضنا يغيّر مكانه في الحافلة بعد الاستراحة للجلوس مع زميل أو زميلة التقى بها أثناء السفر. وعند وصولنا الفندق الذي تمَّ الحجز لنا فيه في مدينة بلوا، وزَّع الأستاذ مفاتيح الغرف علينا بحيث يشترك كل طالبين أو كل طالبتين في غرفة واحدة، تخفيضاً للنفقات. وفي صباح اليوم الثاني أقلتنا الحافلة لزيارة القصور الشهيرة وفي مقدِّمتها قصر شامبورد وقصر شيفرني وقصر شنونسو.

وشعرتُ أثناء الرحلة أنني افتقدتُ جولييت وحديثها الحلو وابتسامتها الأخاذة، وتمنيتُ أكثر من مرَّة وانا أتجول في منتزهات بعض هذه القصور الفخمة لو كانت معنا في هذه الرحلة.

انتهت رحلتنا مساء يوم الأحد حين عادت بنا الحافلة إلى شارع المدارس حيث وقفت أمام بناية السوربون. وكنتُ في أشد الشوق لرؤية جولييت في درس المحادثة صباح يوم الاثنين..

وبعد درس يوم الأربعاء، اختارت جولييت أن نسير إلى الضفة اليسرى لنهر السين التي لا تبعد كثيراً عن السوربون، فعبرنا إلى الضفة اليمنى لنجلس في أحد المقاهي في ساحة كاتدرائية نوتردام دي باريس. وفيما كنا نسير مستمتعين بمنظر النهر الذي كانت تمخر فيه أنواعٌ مختلفة من القوارب والسفن، توقفتْ عند أحد أكشاك بيع الكتب القديمة المنتشرة على رصيف الضفة اليسرى من النهر، وسألت صاحب الكشك عن الطبعة الأولى لديوان " كلمات " للشاعر جاك بريفير، فأخرج الرجل الكتاب واقتنتْه جولييت.

عبرنا جسر سان ميشيل الحجري القائم على ثلاثة أقواس حجرية جميلة مغروسة في نهر السين. وعطفنا إلى اليمين في اتجاه كاتدرائية نوتردام دي باري، واختارت جوليت مقهىً جميلاً يطلّ على ساحة الكاتدرائية الشهيرة التي كانت تعج بالسياح. وبعد أن جلسنا فتحت حقيبتها وأخرجت الكتاب الذي اقتنتْه من كشك الكتب القديمة وقدمته لي قائلة:

ـــ اقتنيته لكَ، لتجد فيه قصيدة فطور الصباح التي قرأتها لك في لقائنا الأول.

قلتُ، وأنا مدركٌ أن الفرنسيّين في علاقاتهم العاطفية، يستمتعون بلعبة الصيد ومجرياتها أكثر من الحصول على الطريدة ذاتها:

ـــ جزيل الشكر، هذه الهدية غالية جداً لا تقدّر بثمن، لأنَّ قراءتك للقصيدة هي بذاتها قصيدة نادرة. وسيتموسق صدى صوتك في أعماق روحي كلّما وقع نظري على هذا الكتاب.

قالت:

ـــ ما دام الأمر كذلك، دعني أكتب إهداءً صغيراً على الكتاب.

ناولتُها الكتاب، فكتبت على الصفحة الأولى، "لصديقي العزيز سمير، مع تمنياتي القلبية".

ووضعت توقيعها الأنيق، وأردفته بكلمة "باريس" وتاريخ ذلك اليوم.

وضعتُ يدي بلطف على ذراعها وأنا أقول:

ــ شكراً لا حدّ له، آنستي.

في تلك اللحظة، فتحتُ حقيبتي، ومن بين كتبي أخرجت قنينة عطر " إيف سان لوران "، وهي مغلفة بورقٍ ملوَّن زاهٍ، وقدّمتُها لها قائلاً:

ـــ أرجو أن تتقبّلي مني هذه الهدية المتواضعة، على الرغم من أني أدرك أنكِ أنتِ العطر الفاخر النادر الوجود الذي ينتشي كلُّ مَن يشمّه فيحلِّق في سماوات الخيال والجمال.

وكنتُ في حقيقة الأمر أقول ذلك وفي خاطري بيتُ شعرٍ لأمير الشعراء الجاهليّين أمرؤ القيس:

ألم ترياني كلَّما جئتُ طارقاً ...   وجدتُ بها طيباً، وإنْ لمْ تُطيَّبِ

وكنتُ قد اقتنعتُ بصحَّة هذا البيت بعد أن قرأتُ رواية " العطر" للكاتب الألماني باتريك زوسكيند، وأتبعتها بالاطلاع على بعض الدراسات العلمية التي تؤكِّد أن لكلِّ فرد عطرٌ طبيعي ينبعث من جلده، وأن العطر الصناعي تختلف رائحته من شخصٍ إلى آخر، لأنَّه يتفاعل مع رائحة الجلد الطبيعية وينتج رائحةً تختلف من فردٍ إلى آخر.

ثم أخبرتها بأن برنامج الحضارة واللغة الفرنسية قد أعلن عن رحلة جديدة إلى " جبل سان ميشيل " في منطقة النورماندي لمدَّة يوميْن خلال عطلة نهاية الأسبوع هذه الجمعة. قالت بحماس ملحوظ:

ـــ اشترك في هذه الرحلة، يا سمير، فهذا جزءٌ من دراستك في السوربون..

ــ ولكن دعيني أصدقك القول: في الرحلة السابقة اجتاحني شوقٌ عارم لرؤيتك. وتمنيتُ لو أنكِ كنتِ معي أو أنني بقيتُ في باريس والتقيتكِ أثناء عطلة نهاية الأسبوع..

ـــ ولكنَّنا سنلتقي كثيراً بعد رجوعك من جبل سان ميشيل. وهذه الرحلة هامّة جداً. أرجوك أن تشترك في هذه الرحلة بالذات، ولن تندم، يا سميرـ

في الوقت المحدَّد من عصر يوم الجمعة، كانت الحافلة تنتظر بالقرب من مدخل السوربون في شارع المدارس، فصعد على متنها الطلاب والطالبات واحداً واحداً. وكعادتي، وجدتُ المقعد الأوَّل شاغراً، فجلستُ فيه قرب النافذة. وبعد أن اكتمل صعود الطلاب والطالبات على متن الحافلة، ولشدّة دهشتي وفرحتي، خرجت جولييت من باب السوربون وتوجَّهت إلى الحافلة وصعدت فيها. كانت مفاجأة سارة لي. لقد كانت هي المكلَّفة بمرافقة الطلاب في رحلتهم إلى جبل سان ميشيل.

قمت من مقعدي، وأشرت إليها باحترام للجلوس فيه. قالت:

ـــ شكراً سأجلس في المقعد المجاور لك لسهولة تحركي.

وجلست إلى جانبي بالقرب من الممرّ..

كانت هذه الرحلة هي أجمل ذكريات عمري. لقد تحقَّق الحلم الذي راودني خلال رحلتنا إلى قصور سهل نهر اللوار. لم أشعر بالساعات الثلاث والنصف التي استغرقتها الرحلة. كانت أقصر من ثلاث دقائق ونصف، بل أقصر من ثلاث ثوان ونصف. وفهمتُ في تلك اللحظة نسبية الزمان في نظرية أنشتاين.  كنتُ في عالَمٍ سماوي بعيد كلَّ البُعد عن الحافلة وركابها، ولم يتناهَ إلى سمعي لغط الطلاب، ولا هدير الحافلة. كانت جولييت تحدثني وأنا منصرف إليها بسمعي وبصري وجميع حواسي. كنتُ أحسُّ بأن عينيْها تلتهمان وجهي كلَّه، وأنا غارق في بحر عينيْها الأزرق الذي لا ساحل له. كان وجهانا يقتربان كثيراً من بعضهما، حتى إنني كنتُ أخشى أن أفقد التحكُّم في نفسي وأطبع قبلةً طويلة حارة على شفتيْها الممتلئتيْن المنفرجتيْن بابتسامةٍ ساحرة وهما تقتربان من وجهي، قرباً يتجاوز حدَّ الخطر، بإغراء لم أواجهه في حياتي كلِّها أبداً، لا قبل باريس ولا بعدها. كنتُ أتمنى أن تستمرَّ هذه الرحلةُ الحلمُ إلى ما لا نهاية، إلى أبد الآبدين.

وأخيراً وصلنا جبل سان ميشيل وهو جزيرة صغيرة تبعد حوالي كيلومتر واحد عن ساحل منطقة النورماندي في الشمال الغربي من باريس. وترتفع هذه الجزيرة التي على شكل جبل من صخور الغرانيت حوالي 80 متراً عن سطح البحر. وخلال القرون الوسطى بُني عليها ديرٌ وحديقة يُعدّان من روائع العمارة القروسطية. ونشأتْ حول الدير قريةٌ سياحية تكثر فيها الفنادق والمطاعم والمقاهي.

وعلى الرغم من أن الفنادق خارج الجزيرة أرخص بكثير من الفنادق التي تقع داخل جزيرة جبل سان ميشيل، ولا يستغرق الوصول إلى الجزيرة من معظم هذه الفنادق أكثر من سير كيلومتر واحد هو المسافة الفاصلة بين البر والجبل الجزيرة، فإن الجامعة حرصت على أن تحجز لهؤلاء الطلاب وأكثرهم من الأجانب في فندق داخل الجزيرة لتكون متعتهم كبيرة في تمضية ليلة داخل البحر. كان الفندق الذي نزلنا فيه هو فندق " الفرس الشقراء " الذي يقع على سفح الجبل الذي بُني الدير على قمّته. وهو فندق صغير ولكنّه نظيف جداً. وتضم صالة استقباله بعض اللوحات الفنّية القديمة.

كان موظفو الفندق في استقبالنا. طُلِب إلينا أن نستريح في الصالة ونتناول بعض المشروبات في حين اتجهت جولييت إلى موظف الاستقبال، فسلَّمها، مجموعة من مفاتيح الغرف، وعادت إلينا وبيدها القائمة والمفاتيح. وأخذت توزع الغرف، غرفة لكل اثنين من الطلاب أو اثنتين من الطالبات، وتؤشر على القائمة التي بيدها. وكان كلُّ من استلم مفتاح غرفته ينصرف مع رفيقه أو تنصرف مع رفيقتها إلى الغرفة للاستراحة قليلاً قبل الذهاب إلى مطعم الفندق لتناول طعام العشاء. وأخيراً بقيتُ وحدي، آخر مَن يستلم مفتاح الغرفة ولم يبقَ معي زميل.

أقبلتْ عليّ جوليت وفي يدها مفتاح وعلى شفتيْها ابتسامة عجيبة، ابتسامة ماكرة ساحرة، لم أشاهد مثلها من قبل، وقالت:

ــ هذا هو مفتاح غرفتك. ولكن لم نجد لك زميلاً، لأن عدد الطلاب الذكور فردياً. وأنصحك بأن لا تقفل باب غرفتك لأنني قد أقوم بجولة تفتيشية بعد منتصف الليل تماماً.

وفي تلك الليلة التي لا يجود الزمان بمثلها، كان هدير البحر وارتطام أمواجه بصخور الجزيرة متواصلاً طوال الليل.

***

قصة

بقلم: علي القاسمي

..................................

* أُضيفَت هذه القصة إلى الطبعة الثالثة لمجموعتي القصصية " الحبّ في أوسلو" التي صدرت عن دار الثقافة بالدار البيضاء مطلع هذا العام 2020. وهي من القصص التي أخذتُ أكتبها مؤخراً لتقديم معالم ثقافةِ بلدٍ من البلدان، مثل قصتي " الجريمة الكاملة" التي نشرتها صحيفة المثقف الغراء سابقاً، وفيها معالم الثقافة الهندية. 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم