صحيفة المثقف

الفلسفة والتشكيل

علي المرهجفن التشكيل يُجمل الابداع في التصوير والرسم والنحت والعمارة وفن التصميم وفن السيراميك والرسم على الزجاج والرسم على الملابس أو تصميمها، وفيه وله مدارس عدة، انطباعية، ورمزية، وتعبيرية، وسوريالية، وتجريدية، ولكل مدرسة من هذه المدارس فلسفة تأسست عليها رؤية الفنان، وهي ليست حدوداً عقائدية أو (دوغمائية) مثل الأيديولوجيات، لا يصح لصاحبها التشكيل والرسم إلّا وفق ما عُرف عنه بوصفه مجال للابداع في هذه المدرسة أو تلك، ولا تمرحل زمني كبير بينهما على الرغم من وجود هذا التمرحل، ولكنه يبقى تحديد اجرائي أكثر منه زمني، فللفنان التشكيلي أن يُبدع في ذات الزمن تشكيلاته على اختلاف منابعها ويتضاد معها ويُناقضها ولا يعنيه كثيراً ادراج اسمه وتوثيقه في أي مدرسة هو من مدارس التشكيل.

يستطيع الفنان التشكيلي أن يتنقل في الابداع ويخترق الزمن التاريخي ليُنتج لوحته، وللناقد الحق في تصنيفها في أي مدرسة هي.

المدارس في الفن تشكيلي منابع يستقي منها الفنان بعض أو جل رؤيته التشكيلية مُضافاً لها تجلياته الابداعية بوصفه ذات خلَاقة، لذا تجد أغلب الفنانين التشكيليين لا يتمترسون عقائدياً، ولا يقبلون بكبت ابداعهم وفق تمذهب مدرسة تشكيلية بعينها.

مدارس التشكيل والفن هي مدارس لتعليم طلابها مقدار الانفتاح على مدارس الحياة ليختار الطالب فيها تجربته الفنية، فله الحق في التنقل بين حدائق وبساتين الابداع الجمالية في مدارس التشكيل، لأنها ليست مدارساً كلامية أو أيديولوجية تختم على عقل الطالب لتجعل منه نسخة من أستاذه أو شيخه، وهي ليست مدارساً حزبية.

إن وجدت في الفن توظيف للسياسة، فتلك من زلات الفنان إن كان مبدعاً - حينما يجعل من نفسه أداة بيد السلطة - سياسية كانت أو حزبية، وأن وجدت وكشفت عن فنانين تماهوا مع السلطة، فهم قلّة بالقياس لعدد الفنانين في كل مجتمع.

أقول لكم أن من دخل يلتحف جلباب حزب أو سلطة ما، فبعضهم منافق وآخر محتاج والقلة منهم ـ إن كانوا مبدعين ـ تماهوا مع حزب أو سلطة أو عقيدة أو مذهب أو دين، لأن طامحون لمنصب ما او كسب ما.

إن لغة الفن لغة انسانية عالمية، وإن كان فيها خصوصية فهي خصوصية البعد التاريخي والحضاري للأمة أو المجتمع الذي ولد أو نشأ فيها الفنان.

لنأخذ مثلاً على ذلك: (القيثارة السومرية) أو (الأسد البابلي) أو(الثور المجنح الآشوري)، وجميع هذه الأعمال لها طابع الخصوصية الحضارية التي عبر عنها الفنان التشكيلي العراقي القديم، ولكنها اليوم ـ لا بوصفها أعمالاً تشكيلية ولا بمضامينها الفكرية ـ يختص بها الفن العراقي والفكر العراقي، لأنها تحولت لأيقونات (نتاج عبقرية فنية عراقية) لتكون نتاج حضاري (إبداعي) إنساني.

لا أظن أن كل فنان مبدع معني بمعرفة تاريخ تطور المدارس الفنية، وإن كانت من مستلزمات استكمال معرفته التاريخية، ولكنها ليست شرطاً من شروط فعل الابداع التشكيلي عنده.

حضرت مرة من المرات محاضرة للنحات الكبير (محمد غني حكمت) في المجمع العلمي العراقي في بداية تسعينيات القرن الماضي، ولم أجده خبيراً لا في التاريخ العراقي القديم ولا في التشكيلات الحروفية (المسمارية) في الألواح الطينية، ولا في مدلولات المنحوتات الآثارية العراقية القديمة، ولكنه كما ظهر لي يمتلك موهبة تقترن بالعبقرية، يستطيع التعبير عنها بعمل تشكيلي نحتي، ولا أظنه بحاجة لتفسيره، لأن عمله (تجليات) روحية ومعرفية بآن واحد، وهو من قبيل "الومضة" الابداعية حينما يختلط البعدين الجمالي بالمعرفي، ليُنتج لنا عمله النحتي الابداعي في التشكيل.

وستظل مهمة الناقد ـ بين قدح وذم ـ يتأول ليكشف عن أخطاء العمل النحتي ـ مثلاً ـ في منحوتته بغداد التي ضيَعها طول العمود الذي وضعت عليه بغداد بوصفها إمرأة مُترفة، وهل هو من أشرف على تنفيذه؟!.

ارتبط التشكيل بالجمال، لأنه من معطيات الفن، وارتبط الفن بالسعادة، وكأن مهمات الفنان التشكيلي، بل وغيره هي صناعة البهجة واتقان التعبير عن السعادة، ولكن هذا من ـ الشائع ـ ولا أصل له في انتاج العمل الفني، بل ربما يكون العمل الفني الذي يستفز به الفنان شجون الناس، سواء أكان عمل درامي أو مسرحي أو موسيقي أو تشكيلي، يُعدَ من الأعمال الناجحة، فليست من أساسيات عمل الفنان اسعاد الناس، بقدر ما تكون مهمة تنمية الشعور بالحياة وتحديها سواء بعمل ابداعي يُثُير الحُزن في فيُبكيك أو آخر يُبهجك.

ولا أظن أن منتج النص التشكيلي ـ تحديداً ـ مشغولاً في أن يُبكيك أو يُبهجك، بقدر ما هو مشغول بأن تكون منبهراً بعمله فتقول عنه (الله ـ الله) باحساس صادق، ولربما هذا النبهار يكون بجزئية من العمل كأن تكون أبهرتك ألوانه وطريقة استخدامه لريشته ومزجه للألون، أو ربما تكون موضوعته وذكاء الفنان في اختيار للموضوعه، أو كلاهما معاً، ويبقى العمل الفني التشكيلي رهين بمقدار ثقافة مُنتجه وثقافة مُتلقيه.

يحتاج الفن التشكيلي الابداعي ـ من وجهة نظري ـ لثقافة التلقي، فهو ليس كالموسيقى أو الغناء بوصف أغلبها تراث الشعوب، لأنه يحمل بين طياته تعبير عن ثقافة شعب، ومحاولات تجريبة (ابداعية) لفنانين كسروا حواجز "التراث الفني، و العمل على تجسير الثقافات، لا بالقفز والتنكر لقيمة الموروث الفني بقدر ما هي محاولات للكشف عن مناطق بكر للإبداع.

أغاني داخل حسن تُشجيني وتُشجيك، وجداريات فائق حسن تُبهرني وتُبهرك، ولكن شتان بين الحسنين، فداخل يستفز فيك إرثك الحضاري السومري (المشحوف) و (الهدل)، و (البحة) بصوته تُعيدك لتغوص في ذاتك وتعود لتكشف عن جماله التراثي، أما فائق حسن فهو لا يحتويه التراث ولا يتجاوزه، فهو يكشف عن مواطن قوته، وينقلك لعوالم الحرية.

داخل حسن ابن الفطرة "التراث" ينفذ صوته لأذنيك، كأنه صوت أمك، أما فائق حسن التشكيلي فهو ابن التجديد والثورة، يبحث عن السلام في خضم (الصراع الثوري) ليكشف لنا عن قيمة السلام في التعاون بين طبقات الشعب المختلفة، ليرسم لنا معاني فيها بعد أيديولوجي وظفه أو وظفه الماركسيون، ولكنه يبحث عن المساوة والحرية، وتلك كانت مقولات الحداثة ومنطلقات العصر.

تجليات الفنان بوصفه ابن العصر وابن زمنه، ليس مسؤولاً عنها حينما يفهما المؤدلجون على أنها تشكيلات فنية تُمثل رؤية حزب أو عقيدة ما.

 

ا. د. علي المرهج

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم