صحيفة المثقف

تراتيل الغربة (مقامة)

امين صباح كبةآرقني شوق غلب، وقلب قُلّب، فقد عُدتُ هوىً أعشوشب قبره، وأزهر قفره، فحللت بوادٍ تهيم فيه الأوهام، وتدور الأفكار فيه دوران المستهام، قد ناجتني أرضه بأن أعود، ورمت لي حبائل الوعود، فلمّا سرت مقتفيًا آثاره، وأصغيته يوشوش أسراره.

قد طال السرى فيه وحار النظر، ورمقت بطرفي آفاقه، فتململت وقد خشخش النهار جيبه ورحل، واقتعدت أناجي بدره الذي حلّ، وقد آرقني عند قعودي انتظار الفرج، فتسليت باستذكار أغاني أبي الفرج، فلما أعياني طول الأمد، وحصحصة الكمد، وانحسار الأمل وبلوغ الأجل أنشدت:

 (خيرُ الجمال هو الجمالُ المحتمل

والنقص أشبه بالكمال من الكمال

وربّ قولٍ عندما نقص اكتمل).

ولمّا خنقتني أبخرة النعاس، نمت حتى بلغ الليل غايته، وروى الفجرُ روايته، واستيقظت على غبار ورماد، فاستعذت برب العباد، وبقيت محتارًا حتى (أشرقني الخجل بريقه، وأرهقني المكان بضيقه)؛ وسرت بلا هدىً وسمعت أحدهم يصيح:لا تستعجل (فالأمور مرهونةٌ بأوقاتها)، وأنشد:

 (كم طالبٍ من جهله للمطلبِ

يدفعه مطلبه للعطبِ).

وأقبل ومعه جمع من الناس وهم يلطمون على رؤوسهم وقد نسج الأجل منهم ثوب الكفن قالوا:اللهم أعمر بعودتها بلادك، واحم بها عبادك، وأنعم علينا بطلعتها الرشيدة، وغرّتها الحميدة.

فقد حرمنا منها زمن أعمى، وتاريخٌ معمّى.

ثم صاحوا ورتلوا مجتمعين قوله (فانتظروا إنّي معكم من المنتظرين).

الشمس تمارس مهنتها بضجر، والسماء بنفسجية، والكلمات هنا تشعر بالشيخوخة، الكمنجات تعزف، ومن رنين صوتها تشعر أنها مرتاحة، والكل يردد بخشوع:يا راوي القفر بعد الجفاف، ويا مخلّصنا من السنين العجاف، كحّل انظارنا بظهور إيلاف.

ثم التفّوا حولي وقالوا: أيّة نارٍ شببت في قلبك إذ شببّت؟، وإلى أيّ أرضٍ نسبت نفسك حين نسّبت؟، دأبك ترديد الغناء، وتضمين نفاثات الشعراء، هائما على وجهك، راكبًا رأسك، لاهيًا عن كتبك وأطراسك، مشغولا عن أهلك وناسك وأنشدوا:

 (دعنا نصفق لانهيارك وانكسارك

هل أنت حرٌ هل سعيد في حصارك؟

سجنتك تمثالًا بدارك

دعنا نبارك).

ثم خاطبني أحدهم وهو ملثّمٌ على فرسه كأنّي غريبٌ عن المكان وقال:يا صاحب المقامات، لقد صحبتُ طويلًا رجالات قومك، وخيالات نومك، وكلّ مَن عاش وعمّر، وكلُّ من احتضَر واختَضر، أنا سمير السمّار، وحاصد الأعمار، (سيانٌ عندي شيخ القوم وشرخها، وشكلان عندي قشعم الطير وفرخها).

ثم هبط من على فرسه، وقبض قبضة من تراب الوادي وأرخى كفّه فتساقط بعض منه وقال: هذا ما بقي من عمرك.

وتركني للجمع وهم يتفحصونني بعيونهم القلقة فأجبتهم:

 (لستُ ضئيلًا لا ولا غير أبي

ولا فقيرًا أو هزيل النسبِ).

وهمس أحدهم بأذني: (تحدَّثْ إليها كما يتحدَّثُ نايٌ إلى وَتَرٍ خائفٍ في الكمانِ

كأنكما شاهدانِ على ما يُعِدُّ غَدٌ لكما

وانتظرها).

٢

صحبت همًا لا ينهضني حاله، ودعوت الله أن يدلّني مقاله، فلما واجهت مع القوم الأقدار، ورجوت منه حسن الأختيار، فقد كان قلبي محشوًا بصور الأثار، مزدحمًا بالهموم والأفكار، مشغولًا عن الواجبات والأذكار، ولمّا كانت (الفكرة سراج القلب، فإذا ذهبت فلا إضاءة له)، فقد حفرنا ذكرى إيلافنا في الصدور، وانشغلنا بشؤوننا لساعة الظهور،

وقد شكونا الله عصرًا اتسعت آماده، وقلّت أمداده، وازداد أوغاده، فقد عشنا صنوف المظالم، فابتلهنا بالشهور الكرائم

 (وجئنا وقد ساق الولاء قوافلًا

بكل بقاع الأرض كل العوالم).

ولا نملك عدة غير الدعاء، ولا حيلة إلا البكاء، ولا أملًا إلا الرجاء، وتباكينا وتشاكينا على ما نلناه من هزائم، وعلى ما فقدناه من شيمٍ ومكارم، و على دَيننا لديننا (فإن ضياع الدين عيشُ البهائم)، ولمّا كان (ورود الإمداد، بحسب الاستعداد، وشروق الأنوار، على حسب صفاء الأسرار)، فقد ثرنا وأصلحنا، فلمّا أُلهِمنا الوصول، وخرج القوم وقد جمعوا بين البأس والندى، وداوروا بين الحياة والردى، وجرت على الأرض دماؤهم حتى تخضّبت وأحمرّت، وتساقطوا واحدا تلو الآخر حتى امتلأ الوادي بجثثهم ورؤوسهم المقطوعة، فانحسر الأمل، وازادد الوجل، وعمّ الوباء فقطف من بقي حيًا منهم، وتكسّرت الكمنجات، وانحسر لحنها، وحجّ الأطفالُ إلى القبور، وصفّرت أرض الوادي من الخواء، فلما شهدتُ حوادثه وبكيت، حفرت قبري وكتبت على شاهدته وغنيت:

 (وبرجع تاني وأقولك ريّحني الله يخليك

عشان المركب تقدر تمشي بيّا وبيك

ماتفوتنيش أنا وحدي . أفضل أحايل فيك

ماتخليش الدنيا تلعب.. بيا وبيك

خلي شوية عليّا.. وخلي شوية عليك).

٣

قالوا :ياغاية النهاية، ويا صاحب العناية، يا غافر الزلّات، ويا مقيل العثرات، ويا كاشف الكربات، ويا مجيب الدعوات، قد شقّ الخوف قلوبنا، وقطّع الهلع أنفاسنا، حررنا من رقِّ الآثار، وحكم الأغيار، وأورد علينا من فضائل نعمك، وأخرجنا من سجن وجودنا إلى فضاء شهودنا*، وأسبغ علينا بظهور النور، لتبرد النار التي في الصدور .

فلما شاهدوا نورها وقد رنا نحوهم، مسّهم طيف جمالها، فانفجر البرق، وتخثرت العتمة، وألفوها متلألأة في الظلمات، فلما هبطت وسارت بينهم ؛استقبلوها بالطبول، والمشاعل، والرايات والأغاني، والأهازيج.

قالوا: ظهرت من تبرأ السقم وتفني الهموم، لتعيد الناكب إلى الطريق الموسوم؛ فترجع لأغانينا صداها، وتروي أرضنا وتخلصها من صداها، فلما غفل جمع القوم وتلاهى، أخرج صاحبهم أحاديثه وتلاها؛فهزت كتفيها ونظرت إليه وإليهم بإشفاق ورحلت.

 

أمين صباح كُبّة

...................... 

* الأصل في الحكم العطائية (أورد عليك الوارد ليخرجك من سجن وجودك، إلى فضاء وجودك. وسجن وجوده هو سجنه لنفسه مراعاة لحظّه، وفضاء شهوده: أن يغيب عن ذلك بشهود عظمة الله، ورؤية قيام حركاته وسكناته به)

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم