صحيفة المثقف

الدين.. الخوف والمصلحة

شوقي مسلمانيالعلاقات القائمة على الخوف لا تقوم سوى على ثنائية الطاعة والعصيان. والطاعة: الولاء، التسليم، الخضوع، إلخ. والعصيان: العقوق، النشوز، الخروج، إلخ. ويقول سعيد ناشيز مضيفاً: أمّا علاقات الاحترام فهي قائمة على الاعتراف المتبادل والمتكافئ بين ذوات مستقلة.  الاحترام مثل الحبّ، إن لم يكن متبادلاً ومتكافئاً فإنّه سرعان ما يفقد معناه. الخائف من الله أو من الطبيعة أو من السلطة لا يمكنه أن يكون مواطناً بأي معنى من المعاني ولا بأي حال من الأحوال، بل يصبح مجرّد رعيّة تنقاد مع القطيع انقياداً غريزيّاً. المواطنة تقتضي أوّلاً وقبل كلّ شيء وجود ذوات حرّة، واعية، مستقلّة، تحكم نفسها بنفسها، وتمتلك حدّاً أدنى من المسؤولية، والصدق، والالتزام. أمّا ثقافة الخوف فإنّها تنتج في الحساب الأخير كائناً منافقاً يصدق عليه الحديث النبوي: "إذا أؤتمن خان، إذا حدّث كذب، إذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر".

2 ـ

 الوسيلة الأكثر نجاعة، يقول شادي علاء الدين، لمحاربة تنظيم مثل "داعش"، مثالاً لاحصراً، تكمن في السخرية، وفي نوع خاصّ من السخرية، يلاحق كلّ فعل من أفعال هذا التنظيم، يلصق به قراءة ساخرة، تسلخ عن جسده ذلك الهول الذي يريد التحكّم بنا من خلاله، تحويل الهول إلى حالة كاريكاتورية فاقدة للسلطة واجب علينا، كان كتاب "إسم الوردة" ـ رواية "لأمبرتو إيكو" الذي يتحدّث عن السخرية والضحك ـ ممنوعاً منعاً باتّاً، وصل الأمر إلى حدّ تسميمه. صار الموت مصير كلّ من يطّلع عليه، الكاهن الذي قام بهذا الفعل برّر الأمر قائلاً أنّ الإيمان من وجهة نظره قائم على الفزع، وأنّ السخرية تضرب الإيمان، لأنّها تضرب الفزع، المؤسّس له بالصميم. هذا ما يحاول "داعش" صبّه على حياتنا كي يحوّلنا إلى كائنات فزع. السخرية هي السلاح الأمضى، لأنّها، إضافة إلى كونها تقضي على هالة الفزع التي يبثّها، تحمل في روحها وجوهرها طاقة فرح وعقلنة لا يستطيع هذا التنظيم ـ المتجهّم ـ العيش في ظلالها.

3 ـ

قبل نحو 1400 سنة، وفي الفسطاط ـ القاهرة، عاصمة مصر اليوم، يقول محمّد نزّال، ألقى عمرو بن العاص ومعاوية بن حديج القبضَ على إبن الخليفة الأوّل محمّد بن أبي بكر، وكلاهما ابن العاص وابن حديج مِن ولاة الخليفة معاوية بن أبي سفيان. قُتل ابن أبي بكر. التاريخ مليء بتفاصيل قتله. وضعاه في جوف حمار ميّت وأحرقوهما معاً. ما مِن مؤرّخ تقريباً أو محدّث إلا وذكر هذه القصّة، ومِنهم الطبري وابن كثير والطبراني وابن سعد ـ في طبقاته الشهيرة ـ  والنووي وابن حيّان والبلاذري.

4 ـ

كلّما انحازت الثقافة إلى الجديد ضدّ القديم، كلّما انحازت الثقافةُ إلى التغيير ضدّ الثابت، إلى النار ضدّ الرماد، إلى الحياة والحلم، أضُطهدت وأضُطهد المثقّفون، أحبّاء الحريّة والآفاق الرحبة. إنها البداهة، كما يقول مهدي عامل، في ضرورة أن يكون المثقّف ثائراً، أو لا يكون، وفي ضرورة أن تكون الثقافة للفرح الكونيّ ضدّ كلّ ظلاميّة أو لا تكون. 

5 ـ

"الأزهر"، يقول محمّد نزّال، لا يزال، ونحن في القرن الحادي والعشرين للميلاد، يُدرّس مُقرّر "الإقناع في حلّ ألفاظ أبي شجاع" ـ المُقرّر الذي يُعطى للصف الثالث السنوي، ومتنه في الفقه الشافعي، يَرِد فيه حرفيّاً أنّ: "للجائع المُضطر قتل مرتدّ وأكله ولو كان صغيراً أو امرأة، وله قتل الزاني وتارك الصلاة، وإن لم يأذن الإمام في القتل. كلّ هذا الإثم ويسألونك عن "داعش"؟.

6 ـ

جيل اليوم، جيل الشباب تحديداً، الذي باتت "تدلّس" عليه المؤسسة الدينيّة، يقول محمّد نزّال، تخفي عنه الحقائق التاريخيّة، ولعجزها عن مواجهته في تبرئة نفسها مِن "الداعشيّة" وتراثها، هذا الجيل لا تعنيه جدالات عقيمة مِن قبيل نفي التجسيم أو إثباته، أو مبحث القضاء والقدر، بل تعنيه وترهقه وتخجله أمام نفسه أولاً وأمام العالم ثانياً قضايا مثل الذبح بإسم الإسلام، الصلب والحرق وقطع الأيدي والأرجل مِن خِلاف، الحرق للأحياء والأموات، الرجم حتى الموت، وبتر الأيدي والرمي من شاهق،  أخيراً وليس آخراً القتل على "الردّة". كلّ هذا كان قبل "داعش". أليست هذه الأحكام مُقرّة عند جميع المذاهب؟. أي مذهب اليوم لا يُقرّ حدّ الردّة؟. إنّه عند الجميع، عند السُنّة والشيعة، وهذا ما يصرخ مِنه جيل اليوم. إلى متى ستُعتمد سياسة التلطي خلف الأصبع؟. ما مِن أصبع بعد اليوم مهما اتسع يمكنه مواراة "سوءة التراث" الذي انكشف وانفجر في وجه الجميع.

7 ـ

ويقول الأستاذ جميل عبدالله في كلمته حول الدولة وصراع المذاهب: لم يبرهن التاريخ السياسي الإسلامي فقط إنما برهنت جميع التجارب التاريخية للمجتمعات الإنسانية التي تبنّت الدولة فيها ديناً معيناً أنّه في اللحظة التي يتّفق فيها تحوّل السلطة الروحية للأديان الى سلطة دنيوية أو زمنية تصبح تلك الأديان نفسها الضحية الأولى لذلك التحوّل، وذلك بسبب التعارض بين دعوة الأديان لعامّة الناس الى تطبيق مثُل روحيّة عليا في دنياهم لتحقيق هدف سماوي، أي لتأمين الولوج الى جنّة الله في السماء، وبين متطلّبات حكم سياسي دنيوي تحكمه مصالح طبقيّة وفئويّة تسعى الى تأمين سيطرتها على البلاد والعباد لبناء جنّة صفوتها على هذه الأرض، ومن خلال التجارب المسيحيّة والإسلاميّة بما يخصّ تبنّي الدولة لدين ما أو تحوّل الدين من خلال تطوّر عضوي الى سلطة دنيوية ـ في حالة الإسلام ـ  ففي كلتا الحالتين أفضى فرض دين الدولة على رعاياها الى إستبداد ديني أدّى بدوره الى إستبداد سياسي، إذ إنّ إقامة السلطة السياسيّة على قاعدة دينية تجعل الحاكم حاكماً بإرادة الله وظلّه في الأرض، لا يُعصى له أمر ولا يُخالف له رأي، وفي هذه الحالة تحتجِز السياسةُ الدينَ وتوظّفه لشرعنة سلطات الحاكم.

8 ـ

ويرى سبينوزا، كما يقول حسّونة المصباحي، إن الكثير من الناس يستخدمون الدين ذريعة ليفعلوا ما يشاؤون، وفضلا عن ذلك فالإنقسام الى ملل لا ينشأ عن رغبة صادقة في معرفة الحقيقة، لأن هذه الرغبة تؤدي إلى الطيبة والتسامح، بل تنشأ عن رغبة أو شهوة عارمة للحكم.

9 ـ

بالأمس كان صدّام حسين عند بعض المفتين بطل القادسية، يقول حسن أسعد، وحتى أنّ بعض الشعراء في الكويت ألبسه ثوب النبوّة. وبعد مضي فترة وجيزة قالوا أنّه كافر بعثي. ويوجد اليوم من يقول عن ملك السعودية، ومن داخل المذهب الوهّابي، أنّه خادم الحرمين. يوجد اليوم أيضاً من أفتى بقتله. وهناك من "العراعير" من لا يعرف ألف باء القراءة أصبح بين ليلة وضحاها رمزاً من رموز الحركة الداعشية. هناك مِن ساسة لبنان من ألبس نفسه ثوب القداسة والرسالة، ويردّد قائلاً أنّ "الذي لا يريد أن يتكلّم معي هو مثل إجري". تركيّا ترى أنّ داعش أمر شرعي. وهناك في السعودية من يرى الشيء ذاته لجبهة النصرة. هناك من يقول كذا هو حال التاريخ، كلّ واحد يؤرّخ حسب ما يراه مناسباً له،  والحقيقة هي عند الذين يقرأون ويتدبّرون من دون تعصّب أو تحيّز. 

10 ـ

في قدّاس الواجهة البحرية للعاصمة اللبنانيّة بيروت كان البابا، كما يقول جان عزيز، طيلة الوقت ينظر صوب البعيد، إلى الخلف النائي ببحر البشر، كان يقلّب عينيه على موج المصلّين صفحاتِ إنجيله، كانوا يأتون من البعيد مشياً أياماً ليسمعوا المعلّم، كان يتطلّع صوب الأفق بحثاً عن نازفة من كرامتها، من حرّيتها أو إنسانيتها، في تلك الأرض المطمورة على حقوق الناس. لم ينظر أبداً إلى الصفوف الأماميّة، هؤلاء وصلوا في سياراتهم الفاخرة إلى خطوات من المذبح، لم تغبّر طريقٌ نعالَهم، لم يرطّب جباههم تعب كما في كلّ حياتهم.

11 ـ

إنّها المصالح، هي الأصل في عالم شهوة السلطة وعبادة المال والغرائز الحيوانيّة، لا دين ولا مذهب ولا من يركعون ولا من يسجدون ولا من يبكون أو يتباكون!.

12 ـ

وأخيراً قيل أنّ "الرأسمالي جاهز لارتكاب الكذب من أجل ربح بقيمة عشرة بالمئة، وجاهز لأن يخون شرفه من أجل ربح بقيمة عشرين بالمئة،  وجاهز أن ينتهك كلّ الشرائع من أجل ربح بقيمة ثلاثين في المئة، ومستعدّ من أجل الربح أن يبيعك حتى الحبل الذي قد تشنقه به".

 

شوقي مسلماني

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم