صحيفة المثقف

ساق يمنى

خلود البدريمعتادةٌ أن ألمح هذا الرجل الأعرج، المسمّى "فاطر"، يُحمِّل ظهره شوالاً قذرا دأب على تعبئته بما يلتقطه ممّا يُرمى أزبالاً عند جانبي زقاقنا. لكنّني أخافه، لعرج ساقه اليمنى!، فأهرب منه غير بعيدة. أرمقه متطلّعاً إليّ، دائما، وعندما تلتقي نظراتنا أفر مبتعدة عنه كثيراً.

إلى أن جاء ذلك اليوم السيّئ، هكذا سأنعته مذّاك، حيث زأرت خلاله ريح عاصفة، فتصاعدت أغبرة وتطايرت أزبال!،..

إذ رأيته رابضا في مكانه، مثل كلب أجرب، ثم، لكأنّما الريح العاصفة حرّكته، توجّه نحوي، أنا بالذات، إذ ترك شواله القذر، على الأرض، وبدأ يهرول باتجاهي، يتمايل يميناً فيساراً، بينما صرخت خوفا، حدّ الرعب، فما همّه صراخي، أبداً، حتى ضاع وسط صخب مجنون!

فجأة وجدت إحدى يديه قد أطبقت على ظهري، بقوة، فحاولت الصراخ، متململة، لكنه وضع يده الأخرى على فمي محاولا إسكاتي. دمعت عيناي فجذبني برفق، هذه المرة، محاولا أن يجلسني عند ظل حائط. بدا صوته منكسرا حين أَقسم أنه لن يصيبني بسوء، بتاتا، فقط يريدني ألّا أخافه هاربة منه بعيدا كلّما رأيته.

هنا أحسستني أهدأ، لكنْ قليلا، فأطوي قدميّ جالسة، ظهري للحائط، فيما راح يزفر:

في رأسي ذلك الضبّ الذي ينهش نابشا ذاكرتي، يأبى أن يفارقه، لكن، مهلا، تلك الرواسب ما زالت تأبى أن تنطمر فيه، محال، فهي كهذا الحيوان الذي اتخذ من الرمال جحرا له، لمّا يزل بين فترة وأخرى يخرج يتجول ينفث سمه في الأوردة بعدها يعود ويستقر في نفس العمق، فأرزح تحت سطوة الوقت للملمة شتات نفسي بعدما وجدتني أفكر بكيفية الانتهاء من كل ما يحيط بي، تتعاقب الفصول كأنها تتخطّاني، لا تلامس مني أي شيء، ولا تصيب حياتي بمنعطفاتها، فكل الأيام التي تُعدّ الأسوأ بنظر البعض هي لا شيء غدت عندي، يتغاضى بصري عمن يمر بي في بعض الأحيان..

كنا ننام مبكرا كالدجاج، طوال النهار لا نرى غير وجه أمي، أما أبي فكان يقضي وقته في محل حدادة، يتسامر مع أصدقائه حتى وجه الصباح، فجرا نسمع تعثره بنا أو بالأشياء الملقاة هنا أو هناك، بهمس يطلب من أمي أن تصحو لتشاركه ما جلبه معه من عشاء، ولتسامره، وليأخذ حاجته منها، نسمع أصوات همهماتهما، وحركاتهما، فتشمئز نفسي منه، لطالما شغلتني نظرات الناس لي ولأخوتي، تلك المتسائلة، تقتلع جذوري أصابع الاتهام التي تطالعنا بها العيون، نحن صغاره، ورغم قضاء أبي أغلب أوقاته من النهار وجزء من الليل خارج البيت، غير أن نظرتي لصغار أقاربي، الذين يفتخرون بأولياء أمورهم، تنزعني للألم من القاع وتهوي بي إلى أعماقي، فألفيتني بدلا من حبي له علمني كرهه، وبدلا من التعلق به اخترت الابتعاد عنه..

عادةً كان يحمل معه أكياسا مختلفة، من النايلون أو الورق، يلف فيها "البورك"، وقد طويت حافاته بطريقة جميلة، وهو ذو حشوة لذيذة ذات نكهة عطرة، متكونة من لحم وبصل وكرفس وبهارات، كانت أمي تقدم له حصته من العشاء وتحتفظ لنا بالبقية منه، وظل يجلب معه الأكياس المختلفة، مرة تمتلئ بالبلوط، ومرة بالجوز والتمر، فكنا نفتح كلّ تمرة كبيرة لنحشوها بدلا من نواتها جوزاً ثم نتلذذ بأكلها، أما البلوط فكنا نضعه على موقد صغير، تستعمله أمي داخل غرفتنا لتطبخ عليه طعامنا، خصوصا كبة البرغل التي تعوم بمرق أحمر وآخر أصفر..

إعتاد أبي ألّا يواصل عمله سوى لأيام معدودة فقط، ننعم خلالها بما لذ وطاب من المأكولات الغريبة اللذيذة، بعدها تبدأ أيام الكآبة والنحيب، إذ كان مزاجه متقلبا جدا، فهو طيب هادىء مسالم، لو طلبت منه ملابسه لما بخل بها عليك لكرمه، لكن سرعان ما تنقلب هذه الصورة رأسا على عقب ساعة انزعاجه، ربما من سوء المعاملة التي يتلقاها من شلة الأُنس، فيبدأ بالاعتكاف والنحيب والصراخ، يترك العمل متشاغل بعرق النسا الذي يمسك قدميه فلا يستطع الحراك، فيما أمي تندب حظها، ولم نكن نعلم إن كان حقا يشكو منهما أو يتمارض ليداوي روحه الممزقة دائما..

تمر الأيام وهو يراوح في مكانه يتخذ أحد أركان غرفتنا مُعتزَلا له عن العمل، فتقع على أرواحنا سوداوية نحيبه لفقر حاله، بينما تحتار أمي بكيفية تدبير المعيشة لخمسة أبناء مع زوج عاطل أغلب أشهر السنة، ممّا يضطرها لأن تطلب مني أن أعدو لبيت خالي، عندما ينتصف النهار فلا تجد ما يسدّ أفواهنا الجائعة، حيث أجتاز شارعا ذا مسافة قليلة لأصل البيت، بقفزات سريعة خلال خمس دقائق فقط، فيعطيني الخال ما نقتات به، كما اعتدنا منه، إذ تطبخه لنا الأم معطية لكل واحد منّا بضع لقيمات، ليست أكثر، بعدها نفرّ إلى اللعب كأنّنا بلا دواخل..

بتنا نتوقع أي شيء من أبي، يعتكف طوال نهاره، أمّا ليله فيتجول خلاله في الأزقة، لطالما ترك بابنا مشرعا، إذ صحوت ذات فجر على خطوات غريب في الغرفة، فتح دولابا، نضع فوقه تلفازا، لم يجد فيه شيئاً، إذ كان فارغاً، فراح يتأفّف، هكذا لمحته بضوء مصباحه اليدوي، ثم ألقى نظرة عجلى على أجسادنا، التي تفترش الأرضية، مولّياً وجهه صوب الباب المفتوح، يهم بالهرب، هنا قفزت عليه، ضارباً بطنه بكلتا يديّ، فأخرج بحركة مباغتة مسدّساً، كأنّما من ظهره، حيث أطلق منه رصاصة نحوي أصاب بها ساقي اليمنى...

 

خلود البدري

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم