صحيفة المثقف

الشطرة ايام كانت موسكو الصغيرة (2): توثيق بنكهة حكايه!

قاسم حسين صالحشهادات للتاريخ والأجيال..

كنا ونحن صغارا، يحذرنا كبارنا من الاقتراب من بيت "التميمي" لأنه مراقب من الشرطة والأمن، الذين كانت لهم أيامها رهبة مرعبة. ولقد عرفنا فيما بعد أن أحد أفراد هذه العائلة المحترمة كان شيوعيا، وقيل لنا انه كان أصغر سجين مع "فهد". وكان هذا السجين (الشطري) الصغير آنذاك هو الذي ترأس فيما بعد نقابة الصحفيين .. " شهاب التميمي" الذي أكرمه نضاله بأن وضعه على رأس السلطة الرابعة!.. وغادر الحياة من غير تكريم له من الحزب الذي ضحى من اجله احلى سنوات عمره.. وفي هذا عتب على الحزب ان ينسى رواده.

كانت " الشطرة " تسمى في خمسينيات وستينيات القرن الماضي " موسكو الثانية او موسكو الصغيرة " لكثرة ما فيها من شيوعيين ومثقفين تقدميين. وكنا في ستينيات القرن الماضي عصبة من الشباب تضم ابن أكبر تاجر في الشطرة، وابن رجل دين بارز فيها، وابن فلاّح يجيد قراءة " الأبوذيه" وشاب اسمر صار فيما بعد شاعرا مشهورا.. (زامل سعيد فتاح)، وأنا. والغريب أن صديقنا ابن رجل الدين كان أثقفنا في غير الدين ويدهشنا بعقله الذي كنا نعدّه آنذاك موسوعيا. وكانت له نباهة خبيثة!.. منها انه قال لنا بمناسبة عودة والده من الحج، أن موسم الحج الى مكّة في زمن الجاهلية مأخوذ من طقوس عبادة آله الخمر " ديونيسيوس ". فسأله صديقنا أبن الفلاّح وهو يحتسي " حليب السباع ": " صدقه للحجي.. ما تكلي منو دنسوس هذا ؟". فأجابه ساخرا: "من عشيرة الخلفوك ، تبقى غبي.. آني ما أعرف اشلون لينين اتبناهم للفلاحين المتخلفين ". 

وحقا، كنت أنا أيضا لا أعرف من هو " ديونيسيوس ".. فقصدت صباح اليوم الثاني مكتبة " نعيم العصفوري " ليسعفني بأصل ديونيسيوس وفصله. (بالمناسبة، مكتبة نعيم العصفوري كانت أشهر مكتبة تقدمية في الشطرة، انتقل بعدها الى شارع المتنبي، وغادر الدنيا عصاميا).

وكان ابن رجل الدين هذا يصدمنا في حالة إبهار، ويضع عقولنا في حالة تحدّ وتساؤل عن أمور ليست في برامج عقولنا " الفريش" والعطشى للمعرفة.. منها مثلا أننا كنا نتحدث عن الزواج فقال لنا: إن النبي سليمان كان مغرما بالنساء الجميلات، وأنه ورث حب النساء هذا عن أبيه داود الذي كانت له 99 زوجة، فزاده سليمان بخمسمائة وواحدة"، يعني(600)زوجة! فعلّق احدنا ساخرا.. شصار سليمان هذا .. هم لو حصان عواد ابوكحله ما يدبرها.. وكان حصان عواد هذا "أصيل" يقصده كل من لديه فرس لتحبل منه!

كنت أنا ابن رجل دين أيضا ، فوالدي أسمه " الشيخ حسين، وليس حسين حاف " .وتعني الشيخ في ريف الجنوب العراقي الرجل المؤمن لمن هو ليس " سركالا " أو إقطاعيا . وكنت في بدايات شبابي اكثر العصبة ورعا على قلتّه! فلاطفت ابن رجل الدين قائلا:

- أنت ما تكلي اشلون ابن وكيل المرجع سيد هادي.. وملحد !؟.

نظر أليّ وقال:

+ أكيد حضرتك تعرفه لفرويد.. تدري شيكول: نحن من خلقنا الإله بأنفسنا ثم أخذنا نعبده.

فرددت عليه:

- اللعنه عليك وعلى فرويد. (يومها كنت قد سمعت عن فرويد ولم أقرأ له، لأن أحدهم قال لي.. هذا فد واحد اباحي كل كتاباته عن الجنس).

ولما شعر صديقنا ابن الفلاّح أن " الكعده " ستتحول الى ما يتعب الرأس، صدح ببيت من الأبوذيه: " حبيبي لا تشد راسك سلامات ". وختمه " اليوم أريد أحباب كلبي " . واغرورقت عيناه بالدموع ، فعلّق عليه ابن رجل الدين ساخرا: " هي ابن الكح.. .هسه أنت ما الكيت وحده تحبها إلا بنت الشيخ !". وكان صديقنا ابن الفلاّح هذا قد عشق ابنة شيخ عشيرته الذي كان إقطاعيا متنفذا وصديقا لمدير أمن الشطرة!

كان "تحرشنا" في الدين مزاحا.. ما كانت فيه اساءة له. وكان بيننا من لديه أيمان قوي بالله ومن على شاكلة بطل رواية (الحب في زمن الكوليرا).. الذي يسأله المثقف: هل تؤمن بالله؟ فيجيبه: كلا ، ولكنني اخاف منه!

وتدور الأيام ليأتي زمن يثبت فيه بالمطلق ان الذين اساءوا للدين هم من استلم السلطة من قادة احزاب الأسلام السياسي، الذين كرّهوا الناس في الدين، والذين بسببهم تنامت ظاهرة الالحاد بين الشباب العراقيين بعد ان ثبت لهم ان احزاب الاسلام السياسي تحولت الى شركات فتحت خزائنها لنهب ثروة الشعب في حال تنطبق عليه مقولة جهنم.. يسألونها هل امتلأت تقول هل من مزيد.وان الكفر الحقيقي هو ان يخون رجل الدين ما اؤتمن عليه وتخرج عليهم الناس تهزج بأعلى الأصوات (باسم الدين باكونه الحراميه).

ان السياسة في العراق، بكوارثها، بمطباتها، بتدخلات مخابرات اجنبية وقوى اقليمية.. توقع اي حزب في اخطاء، و نحن على يقين ان الحزب الشيوعي العراقي قد استوعب اخطاءه، وصار الآن يمتلك ارادته الحرة، ويعي اكثر ان نشاطه يكون اوسع وانفع حين تاخذ العناصر الشابة دورها في قياداته ، وان قوته تكمن في نزاهته وسعيه لتوحيد قوى اليسار لتحقيق هدف انساني نبيل يتجسّد في (وطن حر وشعب سعيد).

 

د. قاسم حسين صالح

................................

* لمناسبة الذكرى السادسة والثمانين لتأسيس الحزب الشيوعي العراقي.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم