صحيفة المثقف

العلامةُ جودت القزويني.. الحلقةُ الخاتمة في فنٍّ يوشك على الغروب

1440 1 القزويني   الرفاعيتغمد الله صديقي العلامة الدكتور جودت القزويني برحمته الواسعة، الذي رحل عن عالمنا في لندن مساء 7 نيسان 2020، وأسكنه الله فسيح جناته، وألهم زوجته الكريمة أم صالح، وولديه صالح وأخيه وأختهما، وبيت القزويني الكرام، الصبر والسلوان على فقدانه.

خبر رحيله للملكوت الأعلى أسوأ خبر سمعته هذه الأيام الكئيبة، جودت القزويني من أعذب أصدقاء العمر، وهو من نوادر الأصدقاء الذين ظفرت بهم حياتي.كنت على تواصل مستمر معه هذه الأيام، لأني لا أطيق الغياب عنه طويلا، فكيف أطيق غيابه الأبدي.

جودت القزويني من الأصدقاء النوادر الحاضرين في ضميري، تواصلت معه قبل أربعة أيام، فلما أخبرني انه لا يستطيع إجابتي، لتفاقم مرضه، غرقت بحزن أسود. وفجأة هاتفني الصديق الشيخ أبو أنس يخبرني بوفاته الليلة، نزل عليّ الخبر كالصاعقة، وبمجرد انتهاء المكالمة الخاطفة، شعرت بوحشة مريرة، بكى لها قلبي وكأنه ينزف دما، دموعي انسكبت كالشلال من دون أن تتوقف، مثلما هي عادتها أن لا تكفّ عند فقدان الأحبة، إلا عندما أشرع برثائهم عبر كلماتي المكتوبة التي تحتفظ بها ذاكرة صداقتنا الطويلة. أستفاقت فجأة الليلة في داخلي لحظة الأسى عند رحيل صديقي العلامة السيد هاني فحص سنة 2014، وكيف غرقت لحظة سماعي نبأ اعلان وفاته باكتئاب شديد.

عاشرت كثيرا من الناس في رحلة العمر، وكان قليل ممن عاشرتهم يثرون حياتي بأجمل معانيها. لم أجد للحياة معنىً من دون هؤلاء، وكأن الحياة تعاقب قلبي كل مرة، لأنها تعرف كم أنا مولع بالأحبة، لذلك سرعان ما أفتقدهم، أما بمنفىً اضطراري، مثلما حدث مع صديق العمر منذ 1968 ماجد الغرباوي، الذي فرضت عليه الأيام أن يعيش بعيدا في سدني، قبل ما يقارب عشرين عاما، كنت أبكي في اليوم الحزين الذي ودّعته فيه في المطار، بعد مغادرته سألني ابني، الذي كان معي لحظة التوديع: لماذا تتألم إلى هذا الحدّ يا أبي، فقلت له: ياولدي العواطف تمتلكنا لا نمتلكها، لحظة تغلي تتحكم بنا لا نتحكم بها، العواطف من أسمى عطايا الله في حياتنا، العواطف تعبّر عن ينبوع المعانى الآسرة في شخصية الإنسان، العواطف تعلن فيها الإنسانية عن حضورها الفاتن في ضمير المرء، العواطف الصادقة بطبيعتها يتفجر لهيبها بشكل عفوي، يضعف عقل الإنسان وتخور إرادته أمام ضراوة لهيبها، وغالبا ما يفشل الإنسان في إخماده. أشعر كأني أدفن جزءا من كياني عند غياب أحد الأحبة المقيمين في ضميري، لذلك تراني عاجزا في الغالب عن ضبط إيقاع عواطفي لحظة اعتمالها بداخلي.

يضيق العالَم بالتدريج وينحسر ألقه عندما نفتقد الأحبة، فكلما رحل أحدهم رحلت معه حزمة ألوان مضيئة كانت تشرق بها حياتنا ساعات نكدها واختناقها. لكل صديق نكهة خاصة، وكل صديق صدوق جذّاب على شاكلته، لأنه يضيء حياتنا بجمال أخّاذ، لا نتذوقه في غيره، وكأن صورة العالَم لحظة فقدانه يعاد تشكيلها في أعيننا، فيبدو لنا العالَم لحظة غيابه بصورة تختفي عنها ألوانها البهيجة، وفجأة ينعكس الشحوب على ملامح جمال العالَم.

كلما تقدم عمرنا فقدنا أكثر الأصدقاء، الذين نسكن اليهم ويسكنون إلينا، أما بالرحيل إلى العالَم الآخر، أو بغياب في منفىً اضطرتهم اليه الأيام الموجعة التي اكتووا فيها بطغيان الأنظمة الشمولية في أوطانهم. وغالبا ما يفقد الإنسان الحر، الذي يفكر بمنطق عقلاني نقدي، جماعةً من رفاق الأمس، ممن تتصلب معتقداتهم وتنغلق بالتدريج كلما تقدمت أعمارهم، إلى أن يبلغوا حالة لا يطيقونك لو تواصلت معهم. ينصبون أنفسهم ناطقين باسم الله، وباسم الدين، وكأنهم لا يعرفون أن الله لم يفوضهم بالوصاية على معتقدات الناس وضمائرهم، أو يجعلهم ناطقين باسمه، والطريف أن هؤلاء من الذين لم يقرأوا التراث قراءة خبير متبصرة، ولا تقع علوم الدين في إطار تخصصاتهم العلمية.

لشخصية جودت القزويني فرادة وسحر خاص، يفتقر إليه معظم المتدينين الذين عشت معهم، ولم أتحسسه لدى أكثر من عاشرتهم في حياتي، ينفر جودت من أي بروتوكول يزهو به حديثو النعمة من السياسيين في أوطاننا، كانت: بساطته، ومباشرته في التعامل مع الناس، وزهده بكل شيء، وأسلوبه التهكمي، تكسر كل بروتوكول زائف.

1440 2 القزويني   الرفاعيعندما تلتقيه كأنك لم تفارقه، وعندما يلتقيك كأنه لم يفارقك، عندما تنقطع عنه لا يتسقط أخبارك، لا يكترث بتقصي التفاصيل الجزئية المملة في حياتك الشخصية، ولا يبحث عن سقطاتك وأخطائك وهفواتك، مثلما يفعل أكثر البشر في مجتمعاتنا، لا يعاتبك إن انقطعت عنه، ويضطرك لئلا تعاتبه إن غاب عنك، لأنه لا يتدخل في ما لا يعنيه أبدا، وهو لا ينزعج من أية فكرة تتحدث بها أمامه، أو معتقد غير مشهور تصرح به في حضوره، يفكر بطريقته الخاصة، غير أنه لا يهتم لمعتقداتك مهما كانت، مثلما يفعل شرطة العقائد في مجتمعنا، الذين يعتدون على خصوصيات الناس وينتهكون حرياتهم، لا تخضع صداقته معك لإيمانه ومعتقده، الكل أصدقاؤه أيا كانت مشاربهم وقناعاتهم وأديانهم.

جودت القزويني على الرغم من أنه شاعر مطبوع، وناقد خبير، ويعرف العربية مثلما يعرفها علماء اللغة، غير أن لغته عندما يتحدث لا يتكلف فيها أبدا، ينفر من تقعر اللغة وتصنّع اللسان، يزدري التصنّع المقرف المسكون به بعض المتحذلقين، حديثه ساحر جذاب، لفرط ما يطغى عليه من عفوية متدفقة، يتحدث بلغة تذكرك بلهجة السوق البغدادية المكشوفة، بكل ما يحفل به قاموسها من كلمات محلية عارية من الأقنعة، مما تتنكر لها اللغة المصنوعة. عسى ألا يضيّع الأبناء أخلاق الآباء.

يسألني أشخاص عن أن الرثاء الذي أكتبه لأصدقائي هو الأثرى عاطفة، والأصفى صوتا في كتاباتي، فأقول لهم: هذا ليس رثاء، هذه سيرة الذات في مرآة الأحبة، سيرتي تعلن حضورها عبر الصور المضيئة لأصدقائي، هذه رسائل أكتبها لنفسي، عساني أسترد شيئا من معنى الحياة الذي يصادر متعته فقدان أحبتي. هذه كلمات يكتبها قلبي، عقلي يكف عن التفكير بعد صدمة خبر وفاة صديق قريب لنفسي. لا يمكن أن يكذب القلب عندما يكتب. لحظة يكتب القلب يتحدث لغته الخاصة، لغة القلب أرق لغة تتجلى فيها إنسانية الإنسان، وتتدفق فيها المشاعر صافية.

يسألني أصدقاء عن سر محبتي لجودت، لأنهم يعرفونه جيدا كما يعرفوني، ويرون اختلافا واضحا في أشياء عديدة بيننا. أعترف لهم بأن أكثر أصدقائي يختلفون عني، أنا على شاكلتي وكل منهم على شاكلته، جودت القزويني كان يختلف عني وأختلف عنه، طريقة تفكيرنا مختلفة، رؤيتنا للعالَم ليست متطابقة، فهمنا للمعتقدات غير متشابه. هو يعتقد بمعتقدات عجائز الشيعة أحيانا، وأنا أعتقد بضرورة إعادة بناء صورة الله في ضمير المسلم، عبر بناء علم كلام جديد، متجاوز لعلم الكلام القديم ومقولات مؤسسي الفرق، على الرغم من أنه تخرج في الدكتوراه في كلية الدراسات الشرقية بجامعة لندن قبل نحو ربع قرن، وأنا أغلب تكويني في علوم الدين في الحوزة منذ سنة 1978، وتخرجت في الدكتوراه في جامعة للتعليم الديني بقم.

شخصيته سريعةٌ، شديدةُ الانفعال، تستعجل الأحكام أحيانا، شخصيتي كانت انفعالية جدا، ايقاعها سريع، روّضتها على الصمت والهدوء بمعاناة شاقة لسنوات طويلة، أغلقت أبواب علاقات اجتماعية عشوائية فوضوية، تورطت فيها، أغلبها ورطني فيها متطفلون وصعاليك، وحرصت على الابتعاد بالتدريج عن كل ما يثير انفعالي، لذلك أمسيت أتخذ قراراتي بتأمل، وأحرص على ألا أصدر أحكامي على غيري بسهولة، أتجنب اصدار أحكام، وعندما أضطر إليها، أعمل على التعبير عنها بلغة تبتعد عن الوثوقيات والأحكام الصارمة المستفزة.

جودت القزويني سليل عائلة عراقية متحضرة معروفة، مدينة بابل الشهيرة موطنها التاريخي، وأنا ابن فلاح مجهول، من قرية مهملة في ريف جنوب العراق، كانت هذه القرية ومازالت متخلفة.

هو يعتقد بالطب الشعبي، وربما كان ذلك سببا عجّل برحيله، لأنه لبث فاقدا للوعي مدةَ شهر خارج المستشفى، كما أخبرني برسالة صوتية حزينة قبيل وفاته بأربعة أيام، مع أنه كان مقيما في لندن منذ سنوات طويلة. وأنا أعتقد بالطب الحديث، وأرفض موضة الطب الإسلامي، الذي تنامي في السنوات الأخيرة، بفعل ترويج الحكومات الدينية له، بوصفه أحد مغذيات أدلجة المجتمع، وتشجيع بعض السلطات الروحية، بوصفه يكرس حضور رجال الدين في حياة الناس، وهوس أكثر جماعات الإسلام السياسي في ذلك الطب، بوصفه أحد تجليات أسلمة المعرفة، وإن كانت أسلمة مبتذلة.

1440 3 القزويني   الرفاعيلدي شغف، لا أعرف كلَّ أسبابه الكامنة في أعماقي، ببناء صلات عاطفية حميمة بالمختلِف، كلما اشتدّ الاختلاف بيننا ازداد شغفي العاطفي به، بشرط أن يمتلك المختلف ضميرا أخلاقيا عميقا، ولا يكترث بمعتقداتي، مثلما هي عادتي ألا أكترث بمعتقدات غيري، وأن يكون صديقا صدوقا، حميما في صداقته، لأني عاطفي لا أطيق الشخصيات باردة المشاعر، وأن يتحقق شيء من الانجذاب العاطفي البهيج بيننا. أظن الانجذاب العاطفي البهيج لا يتحقق إلا لدى الناس الذين يحملون "جينات" سيكولوجية متقاربة، أو "كيمياء" روحية واحدة، أو شفرة مشاعر مشتركة. وتلك أسرار للذات البشرية، تعبّر عن نفسها برموز لا نعرفها.

المرحوم كامل شياع عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي العراقي كان من أعذب الناس الذين عاشرتهم في حياتي، رثيته بمقال لحظة قتله غيلة، سنة 2008، بعنوان: "كامل شياع متصوف خارج اطار الأديان".

عواطفي لا تخضع لمعتقداتي، أحب أصدقائي الشيوعيين العراقيين، على الرغم من أني أمقت كل الأنظمة الشيوعية الدكتاتورية وشموليتها. الأنظمة الشيوعية تضحي بالكائن البشري من أجل أيديولوجيا لا ترى الفرد إلا بوصفه جزءا منصهرا في ماكنة عظيمة هي المجتمع. هذه الأنظمة أهدرت الكرامة البشرية، وصادرت أبسط حريات الإنسان، واستباحت حقوقه. مؤسس النظام الشيوعي في الصين ماو تسي تونغ قتل – كما يُنقل - نحو 70 مليون شخص، زمن السلم لا الحرب، في ثورته الثقافية وغيرها. جوزيف ستالين قتل – كما يُنقل - ما بين 20 إلى 60 مليون. الجنرال بول بوت قتل – كما يُنقل - ربع شعبه، عندما استولت حركة الخمير الحُمر التي يقودها على السلطة في كمبوديا.

الاختلاف يجذبني أكثر من التوافق، أشعر بالرتابة والملل من التشابه والتكرار، أصدقائي أكثرهم خارج جيلي، قراءاتي أكثرها خارج معتقداتي، أتلذذ بالحديث مع المرأة أكثر من الرجل، لا أجد نفسي إلا في بيتي وليس بين الناس. انغمست في سبعينيات القرن الماضي في عمل سياسي، أغرقني في ادارة 24 اجتماعًا وندوةً اسبوعيًا، ولفرط انهاكي الجسدي والنفسي والروحي استفقت فجأة، وجدت كل من حولي؛ لكني لم أجد نفسي، لذلك قررت الرحيل عن ذلك العالَم الذي لا يشبهني ولا أشبهه إلى الأبد.

لم أشعر بالعزلة أو الغياب عن الحياة، لأني غائبٌ منذ أكثر من 40 سنة في بيتي، الذي هو كان ومازال: مكتبَ عملي، ومكتبتي، ومنبعَ راحتي وسكينتي وطمأنينتي. لا أجد نفسي في المنتديات الاجتماعية والثقافية، عندما تصلني دعوةٌ لحضور مناسبة أشعر كأني محاصرٌ في داخلي، لأني أشعر بصراع حاد، بين تلبيةِ طلب الصديق الذي دعاني، والنفورِ من الحضور. وأحيانًا عندما أرضخ لرغبة الأحبة فأحضر مناسباتهم، أختنق لحظةَ الحضور، وأشعر بغربة، لذلك تجدني أتهرب على الدوام من الاستجابة للدعوات. لا أجد نفسي إلا بين عائلتي وأبنائي، وتلامذتي، وكلِّ الأبناء من الجيل الجديد الذي أرى في ضوء عيونهم الصورةَ الأجمل للعالَم.

منذ شهر تقريبًا لم أخرج من المنزل الا مرتين عندما فرض الحظر العام ببغداد بعد جائحة كورونا، أعيش في صمت المنزل بين الكتب، انشغلت بمطالعات وكتابات تأخرت عن موعدها. الصمت منبع التأمل والتفكير بهدوء، وتكريس الشعور بسلام الضمير وطمأنينة القلب وسكينة الروح، التي غالبًا ما نفتقر لما نحتاجه منها بالانغمار في مخاضات الحياة اليومية وضجيجها الذي ينهك الأعصاب.

ينفرد جودت القزويني من بين أبناء جيله من الأكاديميين في الجامعة بشغفه في وقت مبكر من حياته بالتواصل المكثف مع الحوزة العلمية في النجف الأشرف، وبناء علاقات استراتيجية عميقة مع رجال الدين والدارسين والباحثين فيها، وسعيه الحثيث لاستكشاف عوالمهم المستترة، وما تفيض فيه ذاكرتهم من: مواقف، وحوادث، وعِبَر، وشجون، وتجارب، لا نعثر عليها في محيط آخر، ما أتاح له أن يتشبع بمناخات الموروث، ويتموضع في أطيافه، ويتوغل في  شتى حقوله. استلهم صنعة التوحيدي في "البصائر والذخائر"، وابن عبد ربه في "العقد الفريد"، والبهائي في "الكشكول"، وغيرهم، حين أضحى يدوّن كل حكاية، أو قصة طريفة، أو واقعة اجتماعية ذات دلالة وعبرة، من أفواه رجال الدين والشعراء والأدباء والفنانين والباحثين، حتى تراكمت لديه موسوعة صدرت سنة 2016 في 10 مجلدات، أسماها "الروض الخميل: صفحات من سيرة أدبية مطولة". تستوعب شطرا مهما من سيرته الشخصية، وعلاقاته المتنوعة الواسعة، وصداقاته الخاصة، وتستوعب: آداب، وفنون، ومواهب، وخبرات، حاضرة علمية دينية أدبية ثقافية، يجهل الناس كثيرا من وجوهها المضيئة.

وبموازاة ذلك حرص جودت القزويني على تقصي واستيعاب السير الذاتية لاؤلئك الذين عاصرهم، أو أدرك معاصريهم، من: رجال الدين، والمفكرين، والشعراء، والأدباء، والفنانين، وظل يلاحقهم ويحثهم على تدوين سيرتهم، والكشف عن تجاربهم الحياتية، والتعريف بمنجزهم الفكري والأدبي والابداعي، كلّ حسب تخصصه، وآثر أن يبتعد عن كتب التراجم والمؤلفات حول الأعلام، معتمدا على ما يتلقاه مباشرة من هؤلاء بأقلامهم، أو ما يقدمونه له من أوراقهم وأرشيفهم الشخصي، واستمر منذ أكثر من أربعة عقود مكرّسا معظم وقته في منفاه، ومن قبل في موطنه، لهذه المهمة، بل وظّف رحلاته وأسفاره لذلك، فتكونت لديه موسوعة تضم أعلام العراق في القرن العشرين. وانفردت هذه الموسوعة بميزات لا يتوافر عليها كثير من المصنفات في هذا المضمار في العصر الحديث، ذلك أن مادتها لم تتكرر في الكتابات الأخرى،كما أن كثيرا من المُترجَمين فيها ممن لم تذكرهم وتدون سيرهم المؤلفات المهتمة بهذا الشأن. لم يقع جودت القزويني يوما ما ضحية رؤية أيديولوجية، أو مواقف تعصبية، أو حالة نرجسية، أو نزعات عنصرية في تعاطيه مع الآخر،كان فيما استوعبه عابرا للطوائف والاثنيات والمعتقدات والأديان والثقافات، تضم موسوعته أعلام العراق بغض النظر عن أديانهم، فمثلا نعثر في كتابه على السيرة الذاتية لصديقه الأديب اليهودي مير بصري رئيس الطائفة الموسوية في العراق، بجوار رجل الدين الشيعي الأديب والسياسي محمد رضا الشبيبي، والمؤرخ السني محمد بهجت الأثري. استوعبت موسوعته تراجم الأعلام من مسيحيي العراق، ولم يتردد في استيعاب الأرشيف الذي يتضمن تراجم أعلام يهود العراق فيها، والذي أخبرني انه تلقاه من صديقه مير بصري، سمعت عدة مرات منه ثناء عاطرا على أدب هذا الرجل وتهذيبه وعلمه وثقافته الغزيرة. يقول جودت: كنتُ عندما أزور مير بصري وزوجته، في بيته بلندن، يبتهج بقدومي، ويخجلني احتفاؤه بي وخلقه وكرمه.

1440 4 القزويني   الرفاعي

لم تقتصر موسوعته على ما حكاه الأعلام عن حياتهم، بل حاول الدكتور جودت القزويني تأليف ترجمة تعبّر عن رؤيته لحياة المترجم ومنجزه، وربما شفعها بإشارات تقويمية ومراجعات لبعض المواقف، على هامش تلك الترجمة.

لا أخفي ان جودت القزويني كان في بعض المواضع من كتابه ضحية مزاج الشاعر الانفعالي، وحساسيته العاطفية السريعة، التي تظهر بوضوح في انقباضه وانبساطه من الأعلام المترجم لهم، فهو تارة يسهب فيما يستحق الاقتصاد بالكلمات، وتارة تشح كلماته على من يترجم له، بينما تجد منجزات المترجم له تستحق الاسهاب. ولعل ذلك يعود إلى ما كمية يعثر عليه من معلومات تتفاوت بتفاوت الأعلام الذين يترجم لهم.

لعل الأسلوب الذي ترسمه السيد جودت في تصنيف موسوعته هذه يمثل الحلقة الأخيرة من فن يوشك على الاندثار، في عصر يغرق بطوفان من مختلف المعلومات والمعارف والأفكار والمفاهيم المتاحة على الأنترنيت، وتصوغ عالما افتراضيا مدهشا، يغتني كل لحظة بالمزيد من المعلومات المتدفقة كالشلالات، غير أنه يفتقر الى صبر طويل وجلد لباحث يفني حياته في الجري وراء معلومات يستقيها من أصحابها مباشرة، ويثريها على الدوام بما يكتشفه من نصوص وبيانات ووثائق، ويغربل المعطيات ويستأنف النظر فيما هو متعارف منها، ويعمل على قراءتها في إطار السياقات الحافة بها.

بوسع باحث أن يزعم أن بإمكانه تأليف معجم للأعلام المعاصرين بحجم يتجاوز هذه الموسوعة، الصادرة في ثلاثين مجلدا، لكنه لا يستطيع أبدا أن يوفر لنا مادة منتقاة من أفواه الأعلام وأقلامهم، أو من خلال معاصريهم، تغطي القرن الأخير، بما حفل به من رجال ووقائع وحوادث ومنجزات بالغة الأهمية.

أتمنى الا أكون متشائما حينما أقول إن جهود الدكتور جودت القزويني تمثل الحلقة الخاتمة في حقل يوشك على الغروب، ازدهر في العراق على يد سلسلة من العلماء المحققين، بدأت بالشيخ آغا بزرگ الطهراني، والأب أنستاس ماري الكرملي، ثم مصطفى جواد، وجواد علي، وكوركيس عواد، وغيرهم، ولم يتوقف التدوين العلمي الجاد في هذا المجال في العراق فقط، بل إننا لا نصادف باللغة العربية أعمالا مهمة مميزة، بعد موسوعة "الأعلام" لخير الدين الزركلي، الذي يعدّ المرجع  الأبرز والأدق المدون في عصرنا في حقل التراجم.

مما يؤسف له أنه لم يعد أحد من الباحثين يعنيه هذا اللون من التأليف، ماخلا جماعة قليلة من المحققين في الحوزات، أو ما تبقى من رجال الحواضر الدينية التقليدية، وطالما سمعت تهكما على هذه الصنعة في الكتابة، ما اضطرني لمغادرة هذا المجال نهائيا، وغلق كافة ما لدي من ملفاته، وإهمال مخطوطاتي غير المكتملة، قبل أكثر من ثلاثين عاما، بعد أن صنفت ونشرت أكثر من  ثلاثين مجلدا فيه، والانتقال الى نمط مختلف من الكتابة، منحني فرصا أوسع للتواصل مع الآخرين، وحضرت من خلاله للواقع بشكل مباشر.

لأني أدرك الجهود المضنية للتأليف في هذا الحقل، وأثره الفائق في حفظ الذاكرة، وتوثيق الماضي القريب، وتدوين ما أهمله، أو تجاهله، أو غفل عنه الباحثون والدارسون، أضحى منجز الأخ المرحوم الدكتور جودت القزويني مرآة لأحلامي الماضية، ومطامحي السابقة في التأليف، وكأني حققت من خلال آثاره ما تخليت عن إنجازه نهائيا بالأمس.

كما أن كافة الآثار تجسد الشخصية العلمية والأدبية والثقافية لأصحابها، وتؤشر على مواهبهم وخصائصهم، فإن "تاريخ القزويني" ما كان له أن يبلغ هذا المستوى من الاستيعاب والشمول والدقة، لولا السمات الشخصية للسيد جودت، فقد تميزت شخصيته برقة وتهذيب، وزهد غريب بالعناوين البراقة والسلطة والمال، وبكل ما يتكالب عليه أكثر أبناء جيله في العراق.

ديناميكية شخصية جودت القزويني منحتها علاقات حميمة مع كل أصدقائه، والذين يعرفونه يتفقون على أنه: بسيط كالهواء، طري كالماء، بسيط وليس ساذجا، طري وليس هشا، عفوي وليس فوضويا، متواضع وليس متسكعا، متدين وليس متنطعا، أخلاقي وليس نرجسيا، إنساني وليس أنانيا، حرّ وليس متهتكا، مكتفٍ بذاته من دون أن يتتبع عثرات الآخرين وخطاياهم، عالِم يحسبه من يعاشره بأنه من عامة الناس، أديب وشاعر مبدع، لا يعرفه إلا الأدباء الموهوبون، والنقاد المحترفون، مؤرخ ذكي يغوص في التراث، ويحاكم وقائعه، ويمحص مروياته ويختبرها في ضوء معايير علمية موضوعية.

سألني صديق لماذا لم تكتب عن فلان الذي توفي قبل من مدة، وضجت وسائل الاعلام ووسائل التواصل الاجتماعي بالكتابة عنه، فقلت له: لا يمكن أن أكذب في كتابتي، فإن كتبت شيئا مما أعرفه عنه، يجرح ذلك مشاعر مريديه بعنف، وأنا لا أستطيع أن أتسبب بأذى عاطفي لأي انسان صادق في مودته، وإن كان لا يدري انه وقع ضحية تمثيل لممثل بارع، لا يرى الإنسان الصادق في مودته ما تراه أنت في أعماق شخصيته الغاطسة، المختفية خلف قناع زائف، شخصية مراوغة زئبقية خائفة، تعلن الزهد والاعراض عن الدنيا وحطامها، وتخفي ما التهافت على الدنيا وحطامها. كما قلتُ له: إن أكثر المشهورين من السياسيين وغيرهم في مجتمعنا شهرتهم أكثر بكثير من منجزهم وعلمهم وأخلاقهم.

جودت القزويني إنسان غير مشهور، علمه ومنجزه وأخلاقه أكثر بكثير من شهرته. برحيل جودت القزويني فقدَ العراق أحد أبرز علمائه المغمورين، قلما رأيت أحدا بعلم جودت ومواهبه ومنجزه وأخلاقه، عاش زاهدا زهدا حقيقيا بكل شيء، حتى بتسويق أعماله. سيعرف الناس، ولو بعد سنوات، ما أنجزه هذا العالِم المحقق من آثار مهمة، في حقل تخصصه واهتمامه. آثاره ستفرض نفسها على المهتمين والدارسين، لن يمحوها تقادم الأيام، ولا تنساها ذاكرة المكتبات مهما مضى من الزمان... بموت صديقي الجميل جودت القزويني صار العالَمُ أكثر ظلاما في عيني، تلك هي قيمة العالِم التي لا تخطؤها الحياة، وإن أخطأها أكثر الناس، فمنطق الحياة يعلن: كلما مات عالِمٌ اشتد ظلامُ العالَم. "فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ". الرعد، 17. "إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ". ق،37.

 

عبد الجبار الرفاعي

بغداد، 7.4.2020

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم